أنفاسدخل الصرصار الكبير قاعة المحاضرات بهندامه الأنيق وربطة عنقه التي استوردها من بلد أجنبي ، رفع نظارتيه فوق جبهته ، أعادها إلى موضعها على عينيه ... ألقى ببصره بعيدا ... في القاعة كل أنواع الكائنات الصغيرة والكبيرة ... الصراصير والبراغيث والنمل ... تنحنح الصرصار ذو الشهامة ، لم يلتفت إليه أحد ، صرخ بأعلى صوته ... محاضرتنا اليوم حول موضوع : فلسفة الصرصارية ، أو بلاغة أن تكون صرصارا ... تنحنح مرة أخرى ... ضرب بيده عدة ضربات على المنصة ... الانتباه أمر ضروري ... رفع الحاضرون من الصراصير والبراغيث والنمل ... رؤوسهم عاليا ... فاستعد للحديث ، ومما قاله في ذلك اليوم المشهود : أعزائي الصراصير ، أود أن أخبركم أن الصرصار كائن عملاق ... كائن يقاوم العشرات بل المئات من الإشعاعات النووية ... يتحدى ما يعجز الإنسان المغرور عن تحديه ... أعزائي الصراصير ... سأكلف صرصارة صغيرة أمامي بأن توزع عليكم استمارة من الاستمارات التي سيذكرها التاريخ ... وأرجو أن تقرؤوها بتأن وبتمعن ... مطلبنا الجوهري هو أن نرتقي من مرتبة الحشرية إلى مرتبة الحيوانية ... وأفخر وبكل تواضع ، أنني أول من اكتشف أن الصرصار حيوان وليس مجرد حشرة ، وتصنيفه ضمن الحشرات من أخطاء بني البشر ، وأزيد نفسي افتخارا وبكل تواضع دائما ، بأنني أول من تبنى هذا المطلب ...

أنفاسأشعل ( س . م ) سيجارة من النوع الجيد .. وراح يتأمل دخانها المتصاعد .. ثم قال لصحبه وهو يحاوره ــ رغم علمه بضحالة فكر صاحبه وعدم حبه للجدل ــ : كيف تستطيع أن تجزم أن اللعنة الأبدية  أو الأزلية هي لعنة ناتجة عن سلوك بشري معوج ؟
رد صاحبه ( م . ع ) بشيء من الانتشاء ــ كمن يعلم سر الأمور ظاهرها وباطنها ــ : هذا مما لايتناطح عليه كبشان .. رغم أنني لست كبشا كما تعلم ..
رد عليه ( س. م ) بشيء من البرود ، مستفزا إياه بسؤال أعوص : لكن كيف تفسر أن اللعنات الكونية قد حدثت في علم الأزل ولما يكن على ظهر الأرض بشر ؟؟ وهل في اعتقادك أن ذلك النيزك الذي هبط من أعلى، منذ ملايين السنين الضوئية بسرعة جنونية مدمرا ما حوله، أيحمل في جوفه حقدا كريها على كائنات الأرض ــ رغم خلوها من البشر في ذلك الزمن السحيق ــ ؟
 رد صاحبه بارتباك باد على محياه ، كمن يدافع عن عقيدة راسخة في ذهنه رسوخ الجبال : ما أكثر سفسطتك !!هل أنت بهذه الوثوقية حتى تعتقد في خزعبلات ما لها من سند علمي ؟ و ليست سوى تخمينات واهية ، ما أنزل الله بها من سلطان ؟؟ فهل للنيزك  جوف حتى يحمل حقدا أو أحساسا من أي نوع ؟؟ ومن أدرانا أن النيزك موجود أصلا ؟؟ إن ثقتك العمياء في العلوم البحثة ضرب من العبودية المطلقة لأشياء نسبية لايقر لها قرار أمام ما هو مطلق ، ولايحتمل شكا أو جدالا ..

أنفاستراكمت الأفكار في مخيلته و تزاحمت المعطيات برأسه... إنه يحاول جاهدا منذ أسبوع، أن يتحكم في خيوط كتابة قصـته الجديدة.
إنه يريد أن يخلق " بطلا" غير نمطي و من طينة فريدة،يتصرف على غير العادة و يتحرك بكل سلاسة، متجردا من قيود الزمان و المكان و غير آبه بالآليات النفسية و الذهنية المألوفة لدى البشر.
و أضحى يسأل نفسه عن الكيفية التي من شانها أن تسهل عليه الأمور و تجعله يتحدى القيود التي يفرضها باقي كتـــــاب القصة على نبسات و ردود أفعال أبطال قصصهم، فإما أن يكون بطلهم ذا شخصية مركبة/ مدورة، تتغير سلوكيـــاتها بتغير ظروف الأحداث و المواقف و ترتفع وتيرة انفعالاتها وفق منحنى تصاعدي، أو أن يكون بطلهم ذا شخـصية بسيـطة و عادية، تسير وفق منحنى مستقر طوال زمن السرد.
لكن كاتبنا لا يريد تجريب أو بالأحرى تكرار تقنيات مـــن هذا القبيل، فهو يريد " بطلا" يراوغ عادات و تقاليد مجتمعه، ينسل من الأدلاــجة و المبادئ المحنطة، فلا هو بالملتزم فكريا أو دينيا و هو بالبوهيمي المتجرد من قيود المجتمع و تـــصرفاته،و لا هو بالمتدين و لا هو بالملحد أو العـــلماني، و لا هو بالمتعلم المثقف و لا هو بالأمي الجاهل، و لا هو بالمثــالي الحالم ولا هو بالواقعي المغرق في التشاؤم...

أنفاسكان يقرأ خاطرتي الجديدة " عذابات خيال" ... كان يقرأها بصوته العذب الشّجيّ : " نقشت رسمك في البال... بأبهى ألوان الخيال...توجّتك أميرا في الحال... على مملكتي في عالم الجمال! " .
كان يقرؤها ، وعلامات الإعجاب على محياه تتلألأ :"عبرت معك بحرا من الأهوال ... وركبنا كل صعب محال..."  ...
كان يقرأ ويتذوّق كلّ عبارة ويتأمل كل صورة ... كان مستمتعا بما يقرأ: " لكن هل تدوم متاهات الخيال ؟ لا يا صديقي هذا محال  " ... ما إن قرأ تلك الكلمات الأخيرة حتى أطرق صامتا مذهولا... ثمّ انتفض من مكانه وأخذ يدور في أرجاء الغرفة كالطّير المذبوح ، ويهذي باسمها  " سامية ... سامية ... سامية" ...
خشيت عليه من الجنون ،فهرعت إليه : " محمد...محمد...محمد " . فتنبّه إليّ وأنا أنادي عليه ...أطرق هنيهة... ثمّ توجه إلى كرسيه بخطى ثقيلة وارتمى فيه وهو يردّد: " لكن هل تدوم متاهات الخيال ؟ لا يا صديقي هذا محال  ! " ...
ثمّ راح يسرد لي حكايته:
 " كان لي يا عزيزتي صرح من خيال ... بنيته مع ساميتي أميرة الجمال ... شيّدناه في ليال طوال ... لكن عصفت به الأهوال...فهوى وضاعت معه كلّ الآمال! 

أنفاسبمشقة وعناء يزحف الصبي نحو السادسة عشر من عمره، جلد وجهه اسمر و مليء بحب الشباب، وبثور لها زيوان صغير أسود كلطع الذباب. توضأ الصبي وصلى العشاء، ثم ذهب وحده نحو الدكان الذي يريد أن يسرق منه قطعة شوكلاته بالبندق، لقد قرر أن يسرق وحده بعد أن غدر به شريكه في السرقة، ولم يعطه نصيبه في آخر مرة سرقا فيها معا، رغم اليمين الذي حلفا به في آن واحد، وفي آن واحد وضع كل منهما يده على المصحف وهو يحلف أغلظ الأيمان على أن يسرق بإخلاص وضمير، ثم تمتما بالفاتحة لتأكيد اليمين على أن يسرقا سوية واقتسام ما يسرقانه بينهما بالنصف، بحق الله بلا أي خيانة أو غدر.. وفي سره راح الصبي يشتم ويلعن صاحب الدكان الذي يضع الشوكلاته على الرفوف العليا، بعيدة عن متناول اليد، وفوق هذا كله يجلس وسط دكانه متحفزا ومفتح العينين، مما قد يفسد عليه خطته التي جهزها في عقله ليلة البارحة، وسهر عليها معظم الليل يقلبها في رأسه حتى اكتملت معالمها وصارت خطة محبوكة.. وفي نفسه أخذ يؤكد أن صاحب الدكان بخيل، الله لا يمسي وجهه بالخير.. آه لو أنه يبتعد عن الدكان لمدة دقيقة واحدة لا غير، فليذهب إلى أحد مخازنه الكثيرة لجلب غرض ما، أو يذهب إلى الحمام ليقضي حاجته، أو يذهب إلى جهنم الحمراء.. خطا الصبي إلى عمود النور المقابل للدكان، إلى الجهة الأخرى من الشارع، هو عمود نور تشع لمبته نورا ضعيفا شاحبا اصفر، كصفرة بياض عين إنسان مصاب بمرض في الكبد، وبالكاد يستطيع نوره اختراق الظلمة بعد عناء مع زجاجه السميك المغبر، وكفاح مستميت مع العتمة المكثفة في المسافة الفاصلة بين اللمبة والأرض، فيحس من يقف في المكان أن للضوء آلام وأنين..

أنفاس… ها هو السيد "سين" يعبر البوابة الكبرى كعادته، وجهه مدثر بمسحة حزن، وجسده النحيل ملفوف في معطف حائل اللون، بفعل التقادم، يتأبط تحت ذراعه الأيمن محفظة عجفاء ضامرة تعكس خواء ما تحتويه، ولا تعطي صورة حسنة عن حاملها.
بعد أن تخطى العتبة سار في المجاز، أسند دراجته الهوائية على حائط المبنى، وانسل بين الصبايا والصبيان يداري خجله، وهم يحاصرونه بنظراتهم المستفسرة عما ينتظرهم اليوم. في الرواق، وقف خلف آخرون، فرادى ومثنى وزرافات، يقتلون ما تبقى من الوقت، أو يمزحون على سخف، بعضهم يصوب نحوه نظرات فضول وهو يتجاهلها … الكل يتثاقل في مشيته، ويتبرم من نظامه اليومي المكرور، ويستأخر موعد "المواجهة" الجديدة ...
في طرفة عين، وجد السيد "سين" نفسه جالسا إلى منضدة فوق مصطبة، أمام حشد من الأطفال يلغطون ويفجون، نقر عليها لإخراسهم ولفت انتباههم، لم يكترثوا، واصلوا أحاديثهم، هوى ثانية بعصاه على المكتب الخشبي. فجأة سرى بين الأطفال شيء كتيار الكهرباء، انخرسوا وحملقوا فيه فاغري الأفواه، في تلك اللحظة سدر وانخطف لعله تذكر أشياء كثيرة، ومر أمامه شريط عديدة صوره : تذكر تجهم البقال الذي يعول عليه في إمدادات الأسبوع، والجزار الذي أوقف تعامله معه بسبب تأخره المتكرر في التسديد، تذكر والدته العليلة، وأخاه المتوعك، ووالده المفلس، وعمته المفجوعة، وتذكر أن في بلده، ليس هناك مستشفى للفقراء، ولا دار للعجزة، ولا مأوى للمشردين، ولا مؤسسة للخدمة الاجتماعية ولا … ولا …

أنفاس… بعد أن أجرى الفحوصات الضرورية على المريض، اقتعد الطبيب كرسيه المتأرجح، حملق في وجه معيده، حرك رأسه أفقيا، كزّ أسنانه ورسم على محياه سمات الجد وقال :  
قبل أن أسلمك وصفة الدواء، أنصحك أن تتجنب الاهتياج والانفعال والتوتر … روض نفسك على الاسترخاء والدعة والسكون.
جرجر السيد سين قهقهة صفراء وأجاب.
ولكن، كيف يمكنني ذلك يا دكتور وكل ما يحيط بي مزعج وموتر : مناكدات الزوجة، صخب الأطفال : أطفالي وأطفال الحي، صرير الأبواب، زعيق السيارات، دسائس الزملاء في العمل، نشرات الأخبار المزيفة، و… و …
أنت تعقد الأمور كثيرا، وتطلب المستحيل. تلك أمور بسيطة يمكنك التعود عليها.
آه يا دكتور، يمكنني التعود عليها ؟ لا، لا، لا أستطيع، أعصابي لا تحتمل ذلك.
طيب، بقي أمامك حل واحد.
ما هو يا دكتور ؟
اشتر لك ثلاجة وألف بأعصابك هناك.

أنفاسجلس ذو البطن المنتفخ على كرسي وثير ، وقد تدلت قطع من اللحم على جنبات الكرسي ، بطن منتفخ مترهل ، أمامه طاولة عليها كأس عصير وعلبة سجائر ... تقدمت منه الخادمة الصغيرة ، الشابة النحيلة ، تقدمت بخطى وئيدة وجسدها يرتعش ، لقد كانت تعرف عنه القسوة والشدة والصلابة ـ طبعا ـ على الضعاف أمثالها ، وقفت على بعد متر تقريبا ، انتظرت أن يرفع بصره ، هو لم يلتفت إليها ، هي لم تجرؤ على مخاطبته حتى يأذن لها ...طال انتظارها ...استمر الأمر دقائق ...سرحت بعقلها وخيالها بعيدا ، فجأة سمعت صرخة مدوية : ماذا تفعلين هنا ؟ كيف تقفين أمامي كالصنم ؟
ـ سيدي ...
ـ انصرفي يا...
ـ سيدي أ....أ....
    لم يسمح لها بأن تتفوه بكلمة واحدة ... أمسك علبة السجائر ، قلبها بشكل يسمح له بأن يتأمل ، يبدو أن أمرا ما يشغل تفكيره ...فجأة صرخ بأعلى صوته : فاطمة ...
    تقدمت منه زوجته بخطوات سريعة ، زادت من سرعتها أكثر حينما لمحت صفرة وجهه ، اقتربت منه ووضعت يدها على جبهته : ماذا بك أيها الرجل ؟ أمسك رأسه بين يديه ، أجابها بصوت تملأه حشرجة : لا أدري كيف سينتهي هذا الأمر ؟ أرجو ألا يصاب بأذى . سألته زوجته ماذا تقصد ...؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة