أنفاسمنذ أن سكن حب الإدارة كيانه ، تغير وحيد كثيرا ، وكم تغيرت الدنيا وأحوال الناس ، وكم تبدلت الحياة وأنماطها بين الأمس واليوم .
منذ عشرين عاما عهد الناس وحيدا طيبا، وديعا، ضحوكا ، لا يمل الجليس من جلسته ولا الأنيس من رفقته ، ولم تكن أفكاره كما هي الآن ، فقد أصبح ينعزل عن زملائه ولا يجالسهم إلا لماما ..كان هؤلاء يتفكهون ويتندرون ويتبادلون النكات الساخرة ليلطفوا بها أجواءهم المشحونة ، أما هو فكان ينظر إليهم من فوق ..يبصرهم دون أن يميز أصواتهم . كان يجلس واضعا ساقا على ساق، متأملا ..دون أن ينبس ببنت شفة ، لقد احتلت الإدارة خياله وسيطرت على لبه ، لم يكن يستودع أحدا سرا من أسراره ، في المقابل كان يتردد كثيرا على مكتب المدير ، ربما للانتفاع بآرائه ، والاستئناس بحسن أو سوء تدبيره ...
لم يصبر وحيد إلى نهاية السنة الدراسية للتأكد من قبول طلب تكليفه بالإدارة ، بل راح يتخيل نفسه وهو يخلع  وزرته البيضاء ، ليلبس محلها بذلة بنية أنيقة ، وربطة عنق سوداء ، ونظارة من النوع الممتاز ، مستبدلا قسمه المغبر الضيق بمكتب واسع مكيف الهواء ، به كراس وثيرة من الطراز الرفيع  ينعش بها مؤخرته التي أضناها الخشب ، وبالمكتب المجاور تقبع كاتبة في كامل التأهب لتنفيذ طلباته ورغباته ، حتى قبل أن يرتد إليه طرفه.

أنفاساستيقظ عمر ذات صباح على نغمات الهم وإيقاعات النكد ، لقد ألف المسكين سماع وابل من الاهانات ، وسيل من الطلبات ، درجت زوجته منذ حين من الدهر على إمطار سمعه الثقيل بها. وبما أن دوام الحال من المحال ، فقد انتفض عمر هذه المرة ، فما عاد يطيق سماع الأسطوانة المشروخة نفسها ، فصرخ في وجهها قائلا :
لقد تعبت..لقد ضقت ذرعا بطلباتك التي لا تنتهي..غاز..خبز..زيت ..دقيق..لحم..خضر..بالله عليك هل نعيش لنأكل أم نأكل لنعيش ؟
أحس المغلوب على أمره بحاجة ماسة إلى الحديث مع شخص ما ...أي شخص كان..ولهذا الغرض غادر البيت غير آسف على ما فعل، وتوجه صوب مقهى الحي عند ًداموحً والحقيقة أن المقهى طالما جذبته بسحرها الخاص،خصوصا عندما يجلس متأملا عشرات الرائحين والغادين ، ومئات الرائحات والغاديات دون كلل أو ملل.
ومن سوء حظ عمر أنه لم يجد من كان يرجو محادثته والفضفضة إليه، وما كل ما يتمنى المرء يدركه ، لهذا اكتفى بالدردشة مع رفيقه الحسين ثقيل السمع ، وقد كان اختيارا غير موفق ، فقد اضطر المسكين إلى رفع صوته أكثر من المعتاد ، مما لفت إليه أنظار وأسماع الفضوليين من رواد المقهى.

أنفاس"ان الذي يقلقني هو انني لا املك حياة  اخرى اقدمها لبلادي."
" سان يات صان"

وقد رجعت الشمس الى مغيبها فعم الهدوء واقبل الليل ، جلست امام كوخها الصغير الى جانبها قطتها الزرقاء ترقب الطريق وتنظر بعيدا بعيدا الى الافق..وطالت وقفتها فدمعت عيناها وانسكب الدمع على صفحة وجهها الهزيل الاصفر ..انها لاتحقد على هذا الطريق ولاتكرهه وان كان هو نفسه الذي اخذ ابنها وقبله اباه.في مثل هذا اليوم ذهب ، انها لاتكره كذلك هذا اليوم بل تحبه وتعتقد ان في مثله سيعود..
هي لاتتمنى على الله الا شيئا واحدا ان يرجع الطريق يوما ابنها ليتزوج ويلد للطريق.
كان يحب ان يتعلم ان يكتب ويقرا ، كان ابوه ياخذه معه وهو صغير الى المدينة فيرى اقرانه يحملون محفظاتهم ، يقطعون الشوارع فرحين مسرورين فيتحرق لذلك ويتالم ، لماذا لا اذهب الى المدرسة كالاخرين ؟
كان يجلس الى النار في فصل الشتاء فيتناول فحمة ويحاول ان يعيد ما كتب على علب الكرتون التي يستدفئون بها .ولما يستعصي عليه الامر يرفع راسه الى امه ويسالها لماذا لااذهب الى المدرسة كلاخرين يا اماه؟وكانت تجيبه في بساطة ان المدرسة بعيدة وان الطريق مخيف .ولا يقنعه الرد ، فيحني راسه ، ينظر الى النار ولهيبها يعلو فيحس بها تنتقل الى داخله وترسم علامة استفهام كبيرة، فيقترب من امه ويضع راسه في حجرها وينام .

أنفاسفوق منضدتي الخشبية الصغيرة ، حاولت , لملمت أوراقي المبعثرة ،   لم أكن اعرف أني كتبت ذلك كله وسط  شعور بهذيان بهيجٍ ، هكذا يكون الإنسان عندما يتخلى عن ذاكرة الآلهة ،  نبياً منعتقا من جحيم الخيال  ، ويصبح نافراً بلا لجامٍ , يصبحُ غيرَ مأمون الجانب وكأنه مهرة مجنونة !
 في ذلك الذوق المفروش بالعوسج ،  في ظهيرة يوم  عراقي مليء  بالخوف والترقب  ، وحيث الدخان يدخل إلى القلب ليخدر الحياة فينا , كان صوتها يصلني  ،  فيدفع أفكاري  كأبخرة  تتصاعد لتتبدَّد .
 ماعدت قادرة على الإحتمال في هذه الأجواء المشحونة  ، فبيوتنا التي بُنيتْ منذ عهد بعيد  تتماهى فيما بينها وتتلاصق ، حتى يصبح الهمس مشتركاً  والألم واحداً ، فلقد كنا نسكن في تلك المنازل المُنَضَّدة على التلال المطلة كالأثداء على ضفاف النهر ...
بيوتٍ شهدت دون إرادةٍ منها او بإرادةٍ ! صنوفَ الحكايات المخبأة والسعيدة الحزينة ،  ولازالت تضمنا او نضمها  لا ندري  ...
بيوت شرقية صغيرة ، أسجيتها العالية تهرأت بمرور الزمن  ، وأصبحت تنبئ بخجلٍ ،  أنَّ هناك أسواراً بيننا  بما تبقى فيها من حجارة ، لكن ما بيني وبين جارتي وابنتها ليس سوى علب الصفيح الصدئة عملنا معاً على ملئها بالطين ، وغرزنا فيها بعض النباتات المشتركة التي كنا نتناولها بحميميةٍ مع أقراص الخبز الطازجة   ، كلما أوقدت تنورها الطيني  ، وأوقدت معه حكاياتٍ شجية وكثيراً ما  تُدعو للإستزادة  لغرابتها  ، لكنها لا تلبث أن تبترها فتتركني فريسةً لتذمري او لإشفاقي !

أنفاسراح ينظر بلا مبالاة نحو شاشة التلفاز حيث كانت تلك الممثلة المغمورة تقول جملتها الوحيدة فى هذا العمل الفنى ، اعترف بداخله بأنها جميلة ، الجملة لا الممثلة ، غير ان الكارثة تتكرر : الشخص غير المناسب فى المكان غير المناسب .
غير انه لا يهتم بذلك كثيراً ، لكنه كعادته يبحر فى التفكير حتى يشمل بتفكيره الكون كله دون ان يتحرك من موضعه او يبذل مجهودا ليأتى بشربة ماء هو فى أمس الحاجة اليها . حَوّل نظره عن شاشة التلفاز وراح يشخص ببصره فى السماء المظلمة والتى كانت تبدو كفستان عروس زينته النجوم اللامعة ، وجد نفسه يتأمل بشدة فى هذه النجوم ، وخُيل له أن هذه النجوم هى عبارة عن ثقوب عديدة مثل الثقوب التى تملأ ثياب الشحاذين ، وان تلك الثقوب تكشف عن اليسير من الضوء المبهر الذي يكمن من خلفها .
عاد ليحمل عينيه ثانية داخل الغرفة وبالتحديد نحو أرضية الغرفة حيث كانت السجادة المزركشة ، سرح فى تلك التشكيلات الفنية التى حاكها صانع السجاد ، مثلثات ومربعات ومستطيلات ، راح يتخيل أن هذه الأشكال تُحاك من جديد لتصنع أشكال أخرى متنوعة تداخلت فيها جميع الأُطر، حتى شعر أنه على وشك أن يفقد وعيه فنهض فجأة . شعر بالظمأ فذهب ليأتي بشربة ماء ، وما كان ليفعلها لولا أنه نهض ، فهو اذا جلس خارت كل قواه بشكل غير مسبوق لايصدقه هو نفسه .

أنفاسقبل أن ينسج  الفجر الشتوي خيوطه ، أطل من نافذة  الغرفة   الوحيدة ، التي تلم  أجساد إخوته الصغار ، في بيتهم  الذي يتسامق مع البيوت الأخرى ،  فتُلغى  المسافات  ،  وتغدو متداخلة ،   فسطح الجيران هو فناء بيتهم الصغير ، إذ ينتصب تنور أمه الطيني وهي تتأهب لتسجره  في ذلك الغبش  المطير .
خجلٌ بحجم الأرض يكتنفه ، ويمنعه  من اختصار المسافات ، إلى المسجد ، واختراق السلم الحجري القصير ، الذي ينزل  به إلى بيت العم  بمدخله الطويل ، والذي صُبَّت أرضيته على الجانبين بمصاطب حجرية مفروشة طوال الوقت ، تفضي إلى حجرة غطّتْ جدرانُها برفوف  تضم  عشرات الكتب والمصاحف ، وفي الزاوية  ،  قبر  دارس  ، أُهيلت  جوانبه بأيدي نساء المدينة المعتقدات بأنَّ حفنة رمل من قبر هذا السيد  ستعتقهن  من هموم الدنيا ومشاكلها  ، يمتلئ المكان بطيب أعواد البخور المتقدة  طوال الوقت ، تطلق رائحتها في أرجاء المكان  
ولكن كيف ؟ وغالباً ما تكون  تلك الأوقات موعداً لحركة العم الدائبة  ، وهو يلف أذيال ملابسه البيضاء على ذراعيه  ، يحمل إبريقه النحاسي  الكبير ،  فيصبح جسده الذي طوت ظهره السنون  ، هالة كبيرة تذرع الفناء جيئة وذهاباً ، متأهباً لصلاة الفجر .
  تلفع بمعطفه القديم  ،  تتلقفه دروب زلقة  لا يتبين فيها خطواته ،   تعرج به عبر أرض جبلية إلى سوق المدينة الخالي في مثل تلك الساعة من الليل ، تؤنسه أصواتُ  ميازيبِ منازل غارقة في غموضها  ، يغطيه نثيث المطر  ، وذلك الصمت الموشى بالخوف ، لتنحرف  به  إلى  زقاقٍ  أكثر رهبة من كل أزقة المدينة ، ومجاهلها الكثيرة  .

أنفاساستفقت من النوم على نهيق حمار يشق صمت الفجر،ويزعج الكائنات وهي تستقبل يومها الجديد، لبست ملابسي وخرجت استجلي حقيقة الأمر وإذا بالجحش قط اقتلع وتد رباطه و انطلق يعبث بمزروعات  الجيران يأكل ما استطاع أكله وبكسير ما استطاع تكسيره بفضل الحبل المربوط برجله والوتد المسحوب خلفه ، ولأنه جحش غر  ؛ راح يكر ويفر ، يقبل ويدبر،في حالة من الفرح والمرح كأنه في يوم عرسه، أو كأنه يصارع الغيلان على جبهات متعددة في الأرض والجو وقد استشعر قرب انتهاء المعركة لصالحه،كان يجري ثم يميل برأسه إلى الأمام ويضرب الهواء بخلفيتيه ويرفعهما حتى يعتقد الرائي انه سيقوم بحركة جمبازية في حالة من النزق عجيب.
ورحت أقترب منه شيئا فشيئا، ابغي مخاتلته والإمساك به و إعادته إلى مربطه  ، ولكنه كان في ريعان شبابه ، وفي عز قواه العقلية، فكان يدرك ما أبغي ، فيعاكسني بمراوغة ، ثم ويدبر يحييني بخلفيتيه وعندما يبتعد يلتفت إلى ويهز رأسه إلى أعلى وأسفل وكأنه يقول لي هيا نلعب ..
وبينما أنا أفكر في حيلة انهي بها المعركة لصالحي  ، وإذا بسيارة القايد الميلود تقف بجانبي فتعوذت بالله من شر هذا اليوم وتوجست خيفة ، أعوذ بالله.

أنفاسرمت الشمس أشعتها الحارقة ، عم سكون تام أرجاء القرية ....يحق لك أيتها الطبيعة أن تفخري بجبروتك ، يحق لك أن تشعري بكامل الرضا ...ألست من أعجز هذا البشري المتباهي بذكائه ، لينسل خانعا ويخر راكعا ، مفضلا الانكماش والاحتماء من مزاح أشعة شمسك الوهاجة مع جلده المتهالك ؟
-   كن رجلا يا ولدي .... عبارة أطلقها الأب العجوز وهو يودع ابنه ، بعد أن أنهى تعليمه بالقرية ، عبارة بليغة موجزة  أجمل فيها الأب كل مكنوناته ، ربما لأنه لم يكن مستعدا بما فيه الكفاية لساعة الفراق هاته.
-    سأحاول يا أبي ، يرد الفتى وهو يجمع حقيبته ويملأ جيوب قميصه بثميرات لوز وجوز، دستها الأم بين ثيابه في غفلة من إخوته الصغار .
-    لا تعد خائبا ...ليس أقل من الشهادة الكبيرة .
-    أجل يا أبي ...يكررها وهو يسابق الحافلة الوحيدة التي تصل القرية بالعالم الخارجي .
لاحقه الأب بعينيه الذابلتين ، حتى توارى عن الأنظار ، رمق السماء بنظرة توسل ، ثم ثمتم ببعض الكلمات التي لا يعرف كنهها سواه ، كان يعلم بأن ابنه الذي تربى منذ طفولته على قيم الرجولة والاعتماد على النفس ، يمكنه أن يصير شيئا ما .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة