أنفاسالأستاذ عبد القادر الدردوري، محام معروف و يملك مكتب محاماة كبير يطل على أهم شـــــوارع المدينة، له من الكاتبات سبعة و من الكتاب ستة و من المحامين المساعدين ستة كذلك، لا يـــتوانى أن يقول بزهو أنه أبقى على مكتبه مفتـوحا لأغراض اجتماعية تصب في عدم حرمان فريق العـــــمل الذي يشتغل معه من موارد قوته اليومي، خاصة و أن مكتبه يدفع أجورا سخية و محترمة، هي مــــــوضوع الساعة لمجموعة من مكاتب المحاماة الأخرى ... فهــو حسب قوله يملك من المال الكثير و له مشاريع ناجحة تعفيه من انـتظار عائدات الأتـــــــعاب و النـسب المئوية التي يستفيد منها جراء توليــــــــه لقضايا ونزاعات بعـــــــض الشركات...بالرغم من كونه لا يبرح مكتبه منذ دخوله على الساعة التاسعة صباحا إلى حدود الساعة السابعة مســـــــاء دون احتساب ساعة تناول وجبة الغذاء، سواء بــــمنزله أو بأحد المطاعم الفاخرة... فهو يجد متعة كبـــــــرى في الجلوس لمكتبه لساعات طـــــويلة، لكتابة المقالات و المذكرات و استدعاء كاتباته و كتابه و محاميه المساعدين، لأغراض شتى تـــــتراوح بين إصدار الأوامــــر و التعليمات قد تصل أحيانا من مجرد تأنيب إلى درجة السب و الشتم ، متى رأى أنه من الضروري التعامل بهذه الصيغة ردعا و تحسـيسا  للمؤنب أو المشتوم بمغبة تماديه في الــخطأ، و أن عليه تجنب ذلك في المرات المقبلة... يتعامل بذكاء مع كل مستخدم لديه على حدا، تمــاشيا مع التكوين النفسي لكل منهم استنادا لخبرته الطويلة في التعـامل مع المستخدمين المتعاقبين على مكتبه لمدة تجاوزت الثلاثين سنة...

أنفاس... انتفض الحاضرون ، لغط هنا ... لغط هناك ، صرخ الزعيم ، وهو تيس حكيم ... وإنه وإن كان شابا فتيا ... وليس أكبر القوم سنا... فإنه أطولهم لحية ... ولحية التيس مقامه ورفعته ... كرامته وعزته ، هي مقياس شخصيته ... لحيته هويته... صرخ الزعيم ـ مرة أخرى ـ عم صمت أبيض ناصع ، حملق الجمع الغفير في وجه الزعيم عامة وفي لحيته خاصة ... صاح كبيرهم الذي علمهم مفاتيح السجع : أنصتوا واستمعوا ... كانت استجابتهم تامة .
    ضرب الزعيم الأرض بسيفه الخشبي مقلدا قس بن ساعدة : يا معشر التيوس الكرام ... قبل أن أتلو على مسامعكم محاضرتي حول الوضعية العالمية الراهنة ... حول أسعار البترول ... حول علاقتنا بالقبائل المجاورة ، القريبة والبعيدة ... قبل ذلك كله أذكر بأنني ـ كما تعلمون ـ مبدع مبدع ...
    وإن الإبداع في وطننا لا يعلى عليه ... فلتمت الصناعة والفلاحة والتجارة ... والعملات الصعبة ... إذا أصاب الإبداع مكروه ... وبما أننا ـ مجتمع التيوس ـ نحب ربط القول بالفعل ، فإنني أعتز بأنني أول من يطبق قوانين بلدنا ... واستهل خطابه البليغ بمعلقة عمرو بن كلثوم ليستنهض بها الهمم ... ثم قال : ملاحظة منهجية لابد منها :

أنفاسقال الحطاب لصغيره وهما يخوضان في حشائش الغابة الكثيفة التي تتوسد جبال الأطلس :
- سنجمع تلك الأعواد هناك يا بني
وأشار إلى قمة الجبل
قال الصغير وهو يستند إلى صخرة وقد نال منه التعب:
- لماذا لا نقطع هذه الشجيرات هنا بدل الصعود لجمع ذاك الحطب اليابس هناك في الأعلى؟
- هذه شجيرات ينبغي أن تكبر أما هناك فثمة أشجار ميتة يا بني
وبدا أن التعب كان أكثر إقناعا للصغير من منطق الأب فرجاه ثانية وتوسل إليه ولما يئس تماما قال:
- وماذا كان الله سيخسر لو جعل هذه الشجيرات الصغيرة هناك في القمة وتلك الميتة هنا؟
أشفق الحطاب على ابنه وقال :
- حسنا استرح هنا وسأصعد أنا وحدي لأجلب ذاك الحطب هناك.
صعد الحطاب الجبل بمشقة كبيرة فيما كان الصغير يراقب أباه بدا له رجلا عنيدا، لاحظ الصغير أن أباه كلما صعد الجبل إلا وتضاءل حجمه كان يصغر ويصغر وتضيع تفاصيله ثم صار نقطة سوداء تضاءلت في صعودها حتى اختفت .

أنفاسهبت نسمات الصبح الأولى ، مؤذنة باشراقة يوم جديد . هناك ، على عتبة بيته القديم ، كان إدريس يقف كعادته منتظرا تربع الشمس في كبد السماء ، لتصبغ سماءه العلوية بلون وردي مصقول بالذهب .
وغير بعيد ، تراءت له الجبال بوجهها الشاحب ، وقد صممت على الشموخ وتحدي الصعاب ، ولد المنظر في قلب إدريس إحساسا بضعف بشري مسيطر ، أطلق إثره تنهيدة مدوية آتية من الأعماق .
آه......ما أضعفني ..ما أشد خيبتي..كيف يمكن لهذا الجبل الجاهل أن يبقى راسخا وهو الذي لم يتلق درسا عن الصبر والشموخ وعزة النفس ؟
كان الجميع في القرية يتحدث عن فشل إدريس ، وتصميمه الأزلي على الهجرة إلى المجهول ، رغم إصرار أبيه الحاج علي على بقائه إلى جانبه للاعتناء بهكتارين من الأرض طالما فجرا جدالا حادا بين الطرفين يصل أحيانا حد الخصام ، فالأب يشم خلال الهكتارين رائحة الأجداد وعبق الماضي ، بينما يرى الابن في بيعهما حلا لا محيد عنه لكل هواجسه المادية ، ولم لا .وهو الشاب المثقف المتخرج قديما من كبرى جامعات البلاد ، دون أن يشفع له ذلك في الظفر بوظيفة تحقق له أدنى التطلعات .
خطا إدريس خطوتين أمام الباب ، ثم جلس على كرسي من القش ، أجال بصره في المكان ، أثارته زقزقة عصافير ملحاحة تحوم حول بعض الكروم ونباتات الصبار المحيطة بالكوخ.

أنفاسلم أكن أتوقع أنه سيغادر البيت بهذا الشكل المفاجئ ، و بهذه الطريقة الغامضة . . بمجرد أن توصلت بمكالمة شابها حزن ظاهر من لدن أخي ، هرعت مسرعا علّني أصل إلى المكان الذي افترضت أن يذهب إليه . كان الجو جد بارد . و الظلمة كثيفة إلى حد أنني وجدت صعوبة كبيرة ، في المشي على رصيف هذه المدينة الجميلة ، التي لم يمض على وصولي إليها سوى أيام عديدة  . و عند مفترق الزقاقين رأيت شابين متجهين نحوي . فكرت في أشياء كثيرة يمكن تحدث حين سيحاولان الإساءة إلى شخصي ، رغم أنني لا أميل إلى العنف ، و لا أعترف به كطريقة وحيدة لحل المشاكل و النزاعات ، سواء بين الأفراد أو الجماعات ، إلا أنني فكرت في تلك اللحظة في أسوء الأشياء ، التي يمكن تقع بين شخصين أو أكثر في ظروف كظروفي .

توقفا أمامي دون أن أحس من جهتي بأدنى حرج أو خوف يذكر . طلب مني الشاب الطويل القامة سيجارة . أخبرته أنني في حوزتي سيجارة واحدة سأدخنها في الحين . قال الشاب الثاني و يداه في جيبي سرواله القصير ( إذن سندخنها معا ) ، قالها بنوع من المرح الواضح ،  قلت (إنني في عجلة من أمري و ليس لدي الوقت الكافي للسهر معكما . ورائي هدف لابد من قضائه ).لكن مع إلحاحهما اضطررت لمجالستهما في إحدى زوايا الشارع العام في الزقاق المظلم نفسه ، المقابل لحانة شعبية ، كانت مازالت مفتوحة أبوابها .

أنفاستطلع للأفق بعينه الصغيرة، فتراءت له أنوار روحانية تتراقص على ضباب كثيف بملابسها الشفافة، لتتشكل  كحوريات تسبح في فضاء شاسع، يبعث على السكينة والإلهام الفني.
مد يده إلى الريشة الملطخة بألوان قزحية، و أدارها بشكل مسرحي، كأنما يعلن انطلاقة البدء، كمايسترو لموسيقى بيتهوفن الشهيرة في وسط هذه الأوبرا الضخمة،  القماش أعلن التمرد و العصيان فرقصة الريشة لم تعجبه هذه المرة….  ، هناك خطب أكيد.
تململ الأستاذ "جواد" في جلسته وأخذ يحك شعره الأبيض بتمهل، ربما قد تسببت أفكاره الأخيرة عنها بكل هذا الشتات.
-        تبّا.. ما بالها ريشتي تاهت عنها رقصتها المعتادة، آه..يا إلهي.. بماذا أفكر لقد كبرت على مثل هذه الأمور، صحيح أنني أحس بوحدة قاتلة، لكنني تعودت الهدوء و الروتين معا. فكر في نفسه بصوت عال وهو يتأفف من حالته هذه.
فعلا، لقد كانت حياته هادئة وروتينية، إلى غاية ظهورها في حياته، بالنسبة له كفنان تشكيلي، يعيش وحيدا في منطقة منعزلة عن ضوضاء المدينة، مع سيجارته و كرسيه المتحرك، وحده صوت نباح كلبه "روي" من يخترق صمت المكان، و الآن فكره المشتت جعله سابحا لمدى بعيد، لا يدري أين المستقر، وهذا الأمر سوف يشكل له موقفا خطيرا،  قد يزعزع مساحة السكينة النادرة في نفسيته و كل قناعاته الشخصية ضد اقترابه من المرأة،  لكن بينه وبين نفسه يعترف أنها ليست كأي امرأة فقد وصفها يوما لصديقه "عبد القادر" بأنها "أميرة الروح الدافئة" تتسلل إلى قلبه بخفة الفراشة الحالمة...،  مما ترك لصديقه مجالا ليمازحه ويقول له حينها ضاحكا:

أنفاسكان منكمشا في أحد أركان الغرفة المتهالكة.. نظراته تتفحص الأشياء المبعثرة بشكل فوضوي على الأرضية المتربة ، وتحاول التوغل في كنه الأشكال التي نقشها التآكل المزمن ، والرطوبة المتواطئة على الجدران المهترئة.. يلذ له أحيانا في لحظات البياض وصفاء الذهن ، أن يتأمل تلك الأشكال ويتملى فيها .. لقد صاحبته منذ الصغر، ونمت مع نموه ، وهي بذلك ذاكرة أخرى ملازمة لملوحة عيشه .. يرى فيها صورا ووجوها وأجسادا وهمية ولكنها بالنسبة إليه حقيقته المطلقة.
انتقل طرفه في طرفة مفاجئة ، ليستقر على حذائه اليتيم .. ندت عنه آهة حرى دون قصد،وتماوجت مع غبار السنوات العجاف التي لا سمان بعدها ..تذكر اللقاء الأول مع هذا الحذاء ..أبحرت به سفن الذكريات إلى خرائب أيام خوال.. أيام كان طالبا في الجامعة ، كان يمني نفسه بجنة مستحيلة بعد التخرج.. تذكر دوامات الصراع الذي كان على أشده مع الجوع والبرد والمرض وكل طوابير بنات الفقر الأخرى .. دريهمات المنحة لاتكفي لتغطية عقيقة قطة جرباء..اللقاء الأول يكون دائما منقوشا في الذاكرة .. هكذا ترسخ الأشياء الأولى دائما .. تحفر وجودها ثم لا تغادر أبدا .. كان يوما متميزا من عنفوان الشتاء..يوم سولت له نفسه زيارة الحمام التقليدي القريب من الحي الذي يسكنه في العاصمة ..كانت الزيارة مرصودة منذ مدة ، ولكن كما يقال : كل شيء بأوانه والحاجة وازع لأية حركة..الزيارة كانت مموهة بالرغبة في إزالة الأوساخ المتراكبة على جلده في شكل طبقات مستورة بثياب كانت جديدة قبل أن يحصل عليها بثمن زهيد من( البال ) الذي غزا جنبات المدينة ..كانت الزيارة لمأرب أخرى مع سبق الإصرار والترصد..قادته النفس الأمارة توجهها حاسته الأخرى للقاء الحذاء ..

أنفاسها أنذا ألج أسوارك بعد غياب قسري طويل ..لا أدري..ربما يكون ذلك من منح القدر التي تستوجب الشكر .
لم تغير السنوات السبع التي قضيتها بعيدا عنك ، من شكل بابك الحديدي المستسلم لفلول الصدأ . رائحة عفن تنبعث بإصرار من مرحاض تركته يستجدي الرفق والإنقاذ ولا زال .
مقاعد متآكلة تلاشت معالمها وأضحت ملاعب غولف من كثرة الثقوب ، جدران مزينة بأقبح النعوت وأقذر العبارات ، فضاء أعد بفوضوية مزعجة ، جعلتني أومن شخصيا بأن مستقبل إصلاح التعليم لن يكون بخير، على الأقل في  أقرب الأيام .لم أكن أتصور يوما أن أجد نفسي في طابور طويل من المصححين ، ينتظرون آلاف الأوراق دون أي إحساس بالمسؤولية .
وجوه شاحبة ، ثياب بالية يزينها جمال العتق والقدم ، ...تفرق الجميع تلقائيا كالقطيع المروض مكونين أربع  ورشات ، إحداها خاصة بالإناث ،.. مساكين...هذا أول انطباع يمكن أن يأخذه المتفرس في ملامحهم والمتفحص لقسماتهم ،..صحيح أن أي واحد منهم لم يعد عدته لركوب هذه المغامرة ، اللهم من تسلحهم بأقلامهم الحمراء...
تحول الجميع بعد وصول أوراق التحرير إلى آلات بشرية مبرمجة  ، أشفقت على تلك الصفحات العصماء، وقد ملت من التقاط علاماتهم المتعبة ...بعد ساعة من طقطقات أقلام ترتطم بالأوراق موزعة كثيرا من الأرقام ، تهدأ الأكف المتعطشة .لتتوزع ابتسامات باهتة لا طعم لها ولا لون بين الكل .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة