أنفاسالوحدة..وهذا الليل يداعب شمعة تذوي في صمت..عيد ميلاد سعيد..بكل اللغات تملأ بريده الإلكتروني..وهو ما يكف يختلس النظر إلى نافذة الجارة في العمارة المقابلة..مرت سنة تقريبا وهو كل مساء ها هنا بجانب النافذة ..عين على الحاسوب وعين على نافذتها..اختزن كيانه بدفء كل حركة من حركاتها..وهي تمشط شعرها ..تداعب جوالها..تنزع ثيابها أمامه في إغراء قاتل..ليتها تظهر هذا المساء فيصرخ بأعلى صوته أنه قد بلغ الأربعين ولم يعد يطيق الوحدة..ستحتضن عيناه  عينيها..سيخطبها..سيتزوجها..سـ..سـ..سمع طرقا على الباب..إنها الشرطة.
ــالرجاء أن تأتي معنا.
ــ لكن لماذا ؟
ــ سوف ترى بعينيك..
حين دخل الشقة في العمارة المقابلة و التقت عيناهما لأول مرة كانت ممدة على الأرض وبجانبها علبة حبوب طبية فارغة و صوره الرقمية تملأ الأرض حولها..استفاق على صوت أمها تمسك به وتهزه بعنف:

أنفاسوصل الدكتور النفسي إلى عيادته الخاصة التي على الدوام تعج بالمجانين وأنصاف المجانين، والمرضى الذين هم نفسيا مضطربون.. كانوا يجلسون ويبدون كالعقلاء بملامح وجوههم التي ملأها التوجس، وعيونهم التي غشيها وجل وقلق تلبد بالتأكيد كان عميقا.. ثم بسرعة مشى الدكتور نحو الباب، وقبل أن يدلف إلى غرفته توقفت قدماه إلى جواره.. وكان فمه قد بدأ يرسم على وجهه ابتسامة باردة، وأدار  رأسه نصف دورة وهو لا يزال يكبّر ابتسامته ويوسعها، ونظر نحو سكرتيرة الاستقبال ذات الوجه الطويل الجميل الذي لونه مثل النحاس النظيف بعد دعكه بقطعة ليمون، ولسع وجهها بنظرة ساهمة قفزت من فوق إطار النظارة التي انزلقت بسبب العرق حتى استقرت عند أسفل انفه الرفيع الطويل.. ثم طلب من السكرتيرة إذا جاء الجنرال العجوز بعد نصف ساعة من الآن فادخليه على الفور، وإياك أن ينتظر ولو ثانية واحدة مع هؤلاء المنتظرين، المختلين والمجانين.. وأكد لها وقد راحت سبابته تلكز النظارة المنزلقة لتعيدها إلى مكانها، على ضرورة وأهمية ألا تأخذ من الجنرال أجرة العلاج كما هو معمول به مع العامة والفقراء.. والمجانين الذين هم سبب ثروة الدكتور، حتى بات الدكتور يتمنى من أعماق قلبه ويدعو الله أن يصيب الجنون والاضطراب النفسي كل الناس.. وعادة ما يعبس وجهه وربما يشعر بالقهر إذا جاء إلى عيادته شخص عاقل.. فلا نقود تعود عليه ولا فائدة ترجي من أي عاقل مهما أوتي من الحكمة ومهما بلغ حظه من العلم.

أنفاستفتيش
 أخلع الأساور، الخواتم، العقد الفضيّ، أخرج من حقيبتي الهاتف الجوّال، سلسلة    المفاتيح، قارورة العطر، زجاجة الماء..
أضعهم في السلّة أمامي، وأمر عبر الجهاز الإلكتروني..
يستوقفني رجال الأمن: لا يمكنكِ العبور!!
- جواز سفر ساري المفعول، الفيزا مفتوحة، التذكرة...!!
- تحملين ممنوعات..!!
- مااااااااااااااااذا؟؟
- في قلبك صورة وطن، في نبضك حبّ أرض أصحابها على لائحة الإرهاب!!

مقامــــــــات
يطلّ المذيع على الشاشة الفضية، يُـقلب الأوراق:

أنفاسضحك حتى انكشفت اسنانه البارزة وكاد ان يسقط سلاحه الميرى المعلق على كتفه الأيمن
 حينما سمع اخر الاخبار فى المذياع الملفوف بألف رباط ضامد والقابض عليه كأنه وصية ابيه الأخيرة :
" مصر توقع اتفاقية الكويز مع امريكا واللى ما يتسموش "
ويبدو ان الكلمة ذكرته بكوز الماء الفاتر فى ليالى الشتاء الباردة
اما الصيف فقد كانت له طقوس خاصة فى الترعة التى تمر امام بيته ..
**
اغلق المذياع ووضعه جانبا حتى يتمكن من ان يدخن سيجارة
اشعلها كأنما يحرق عدوه .. ضم عليها كأنما يحتضن ولده
وحشتينى .. رددها وهو يلقى نظرة على صورة "فاطمة"
كانت اخته .. بنته .. امه .. كانت زوجته
مرت ثلاث شهور وهو بعيد جدا عنها ..

أنفاسزخات المطر تغرقها برفيفها المنحاز لإنعاشها ،  وملابسها الخفيفة التي أصبحت بلا لون تلتصق بجسدها  ، لسعة البرد اللذيذة هذه والرشقات المتتالية لمطر المساء ، تبعثرها مصابيح الشارع  ،وتلك المصابيح التي  ينفرد بها المطر  ، حُرَّاً متلاعباً بين انعطافات الأشجار والأبنية الصامتة ..
 بكل ما فيها من حياة فرحت بهذه الحرية المبتسرة ، أرادت أن تُبقي ذكراها  لكل سنوات عمرها القادمة ، إستخفها  الفرح  فتقدمت قليلاً عن مرافقيها  ، نهرَها الرجل المفتول العضلات الذي يحاذيها ، فقصرت من وقع خطواتها على إسفلت ذلك الشارع الذي تمنت ألا ينتهي ..
 منذ زمن بعيد ، نسيت أن للحياة دروباً طويلة عليها أن تسلكها ،لكن  ذلك الرجل الغاضب أبداً وقبل أن يُدخلها إلى هذا المكان ، أمرها أن  تنزع فستانها ، امتنعت بشدة ، فمزَّقه  وكومه  بين قدميها  ،  تاركاً جسدها الفتي عارياً تماماً ،  انحنت على جسدها تحميه ، وتحاول التقاط ما تبقى من ملابسها باشمئزاز هائل حزين ، ثم دفعها عبر باب حديد أغلقه دونها بقوة ،    
 ألغيت  فرحتها  المباغتة ، كان الظلام  مطبقاً  ، وكل شيء يبرعم فيها خوفاً  ، تعلمت الإنتصار عليه كثيراً ، لكنها أيقنت هذه المرة أنها  على أعتاب  نزال من نوع آخر  ، وربما لن تقاومه كثيرا ، لكنها رغم ذلك لن تبيح لهم  انتهاك صمتها كثيرا .

أنفاسالمرة الوحيدة التي دخل فيها السايب سعدان إلى المدينة مضى على انقضائها خمسون عاما، كان يومها الناس  أنواعا وأجناسا .تسمع منهم  لغات ولهجات حسب الملامح  والهيئات ، ورغم اختلافهم كانت تجمعهم محبة  وود وتواصل ؛  يختلفون عن أهل هذا الزمان اختلافا تاما ، حتى بدا له أن لا جامع بينهم إلا هو فقط ،هو لأنه مازال يعيش ، لم يشأ القدر أن يموت رغم انه لم يعد يشبه أهل هذا الزمان ، ولو مات لانقطعت الحلقة الأخيرة التي تجمع بين عصرين : عصر مضى وعصر يأبى أن يأتي.
عاد جسد  السايب سعدان المنهك  أدراجه نحو حضن الجبل  بعد أن اقترب من المدينة  للمرة الثانية فتحقق لديه أنها وحش نهم أعمى يلتهم كل شيء ،  ويدمر كل جميل ، ويلوث كل طاهر ،يحمل في جسده جميع الأمراض والأوبئة.
   وحش غريب ، رأسه قوانينها وأعرافها ،  و بطنه- كما وصفه  العائدون الذين كتبت لهم السلامة-   تتداخل أمعاؤه  وتتلوى ، تضيق وتتسع ، تغسل ألاف المرات ولكن بقايا ضحاياه  يعيد إليها عفنها ،  وأذرعه ومخالبه وأنيابه أهلها ، زنابير متأهبة  ، لصوص ومشردون  وسماسرة ،  لا يستحون ولا يرحمون ،  يفعلون ما يشاؤون ، يغطون حقيقتهم البشعة بالمساحيق والأزياء الزاهية ، ويرشون أجسادهم بعطر الريف والبادية  ، وتبقى حقيقتهم بادية ، فمنذ اقترابه من الضاحية لم يعد أحد يلقي عليه السلام أو يبادله التحية، أو يتبسم في وجهه ، بل الكل  يجري ، يهرول ، يدفع أو يدفع ،  يطأ أو يوطأ ، يصرخ أو يستصرخ  ولم يفكر أحد  منهم  أن يطيب خاطره برد تحيته  ، نظراتهم إليه فيها استغراب يلابسه استهجان جعله يستشعر الخطر .

أنفاسبماذا تحس يا بني ؟
لم يجد الشاب العليل جوابا شافيا ، يوقف به سيل استفسارات الطبيب المنهمر.
-  ما يحدث في حالتي دكتور ، أنني لا أحس بأي ألم ، مشكلتي أنني أريد أن أعيش في الواقع مثل جميع البشر ، كلما هممت بفعل شيء ما إلا وكان لأحلامي فيه نصيب، وبقدر تعدد نشاطاتي تكثر أحلامي وتتنوع.
-  فهمت الآن ، أنت تريد أن تقنعني بأنك لا تعاني من مرض عضوي ، مشكلتك التي تقض مضجعك وتؤرق بالك ،  هي أحلامك التي لا تنتهي.
-  بالضبط ، دكتور.
-  طيب ..أيمكن أن تقص علي بعضا من أحلامك.. فربما أساعدك..؟
-  لا أعرف من أين أبدأ .
-  ليس مهما.... ابدأ من أي مرحلة تريد .

أنفاستوجه نحو المقهى ، جلس على كرسي بلاستيكي ، طلب زجاجة كوكا كولا ، كان يتصبب عرقا ، لا شيء سيخفض هذه الحرارة غير مشروب بارد ، بعد لحظات بدأ يخط بيمينه خطوطا وبشكل عشوائي ... وسيلة لجر مخيلته بعيدا ، خطوط مستقيمة ، وأخرى دائرية ، وأخرى ... فجأة أدرك أن عليه أن يسلك مسلكا حلزونيا ، رسم نقطة في وسط الورقة ، بدأ يدير يده ومعها القلم ... دائرة غير مكتملة ، ها هي تتسع وتزداد اتساعا ، ودون أن يشعر وجد القلم يخط على الطاولة ، لقد تجاوزت الدائرة الحلزونية حجم الورقة ، إذ كان حجمها صغيرا . انتقل بخياله بعيدا ، همس في نفسه : ماذا لو لم أتوقف عن الرسم ، أين يمكن لهذه الدائرة أن تتوقف ؟ وضع القلم على الطاولة ، قرر أن يكمل الدائرة في خياله ، أغلق عينيه ... وبعد جهد جهيد تبين له أن الأمر يتجاوز قدرته على التخيل ، فثمة حدود لكل شيء ، قرر أن يغير شكل هذه الدائرة الحلزونية ، هذه المرة سيجعلها دائرة ذات خطوط متوازية ... رسم دائرة على الورقة وقبل أن يكملها انحرف بها قليلا خارج المسار ليبدأ دائرة أخرى ... وهكذا حتى إذا أوشكت على الانغلاق انحرف بها مرة أخرى باتجاه الخارج راسما شكلا ، ما هو بالدائرة الكاملة وما هو بالشكل الحلزوني ... أثاره شكل الرسم ... تساءل : ماذا بوسعي أن أصنع بهذا الشكل ؟ تمتم هامسا ... وبعد تفكير طويل وأخذ ورد تبين له في الأخير أن هذا الرسم مجرد تخطيط على الورقة ، مضيعة للمداد ... والورق ... ومضيعة للوقت ، تذكر مرة أخرى أن الأمر لم يخل من فائدة ، فهو على الأقل وهو يرسم على الورقة والقلم يسافر على صفحة الوجه الأبيض رفقة أنامله ... كان عقله شاردا تائها مسافرا بعيدا عن جسده . 

مفضلات الشهر من القصص القصيرة