أنفاسالست ياسمين حردانة منذ عدة أيام. وهذه ليست أول مرة تحرد فيها مدام ياسمين. لكن هذه المرة ليست مثل كل المرات.. وطول ما هي حردانة وهو يحدق إلى نصف التلفزيون.
يجلس نبيل الآن وحيدا في البيت نادما على ساعة الشيطان، أو هو يوم الشيطان.. بعد أن رجع إليه عقله، وصار كل همّه عودة زوجته والأولاد، صحيح أن الموضوع كبر وتطوّر، لكن نبيل لا يرى أنه بحاجة إلى تعقيد ولا ما يحزنون، رغم أن الجرح ما زال طازجا والحكاية لم تجف. ولكن كيف سيعيدها بعد كل الذي حصل؟ وفعلا ما حصل كان كبيرا.. وإنهاء مشكلة أصعب من بدئها في غالب الأحيان. في عقله الآن يكبر سؤال، ويغيب جواب.. وفي فمه يتجمد كلام. ولكن لو رجعت لا يوجد في البيت غازا، فالاسطوانة فرغت من أيام.
أصل الموضوع أنه ذات مساء عتمته خفيفة فيها طراوة، جلس نبيل على الكنبة أمام التلفزيون في أمان الله، وأسند ظهره الذي يسري في فقراته تعب وتنميل راح يحز مفاصله في فتور، وقد بدأ نبيل يهيئ نفسه ليشاهد تمثيلية رومانسية مفعمة بالحب وفيها غرام، فمدد رجليه على طاولة بلاستيكية صغيرة، فاختفى كعب إحدى قدميه في ثقب من ثقوبها الكثيرة المنشورة على سطحها الخشن..

أنفاس" لا تقُل للأبد/ حبّني اليوم/ أو حبّني فجرَ غد/ حبّني دون حد".
الشاعرة العراقية :  لميعة عباس عمارة
"أخذتُ من وقته الثمين نصف ساعة، هي حصيلة لقاء يوم بأكمله أقضيه
في انتظار..!"
استدار بصمت، وهو يعبث بأوراقه وأبحاثه على النت..
خلعتُ ثوب الوقار، ألقيت سترة الاتزان، ذبلت عيوني، تلاعبت بحبال صوتي،
اقتربت منه بغنج الصبايا.. حجبت عنه القراءة لأثير انتباهه:
- هلا تحدثنا قليلا؟؟
وتطوف في خيالي صورة ذلك الـ...
"كلما هممت  بأن أستقل سيارتي لقضاء مآربي،  قفز كالجنيّ أمامي.. يلازم خطواتي،  يحفظ برنامجي اليومي، يتتبع أوقات مغادرتي للبيت، أجد  سيارته الفارهة تعترض سبيلي، كأنما يستعرض جاهه ونفوذه، على مضض أتحمل  هذه اللحظات،  أتجاهله دون أن أنبس بكلمة، وأغالب رغبة دفينة في أن أبصق على وجهه الكريه."

أنفاسكان محفوظ لا يكترث بدروسه.. ربما لم يكن بليدا.. بل كان مسكونا بتقليد الكبار كعجوز مخضته الحوادث.. وبصرته التجارب.. رغم انه غلام لم يراهق.. وجهه ناشف مخدود.. يصيخ السمع في مجالس الرجال.. ويرقب حركاتهم بحس دقيق متسقط، والده لم يمتهن اي عمل من الاعمال المعروفة.. انه رجل أمي.. لكنه ليس فلاحا ولا عاملا ولا راعيا ولا موظفا.. يتأنق في ملبسه.. ومما يزيد في بهائه عندما يبتسم.. لمعان الذهب في احدى اسنانه.. رغم ان انطفاء احدى عينيه يزيل ذلك البهاء عن مخيلة الرائين اليه.. ولعل ما يدعو الى القرف منه ـ في نظر البعض ـ سحنته المربدة ووجهه المتجهم وخيلاؤه المهارش، في تلك القرية التي راج فيها لغط واخز واستشرى همس مترع باللمز.. عن مشاهدة الناس لوالد محفوظ وهو يزيل الغبار عن كتف ـ البيك احد كبار الملاك ـ الذي كان يزور القرية للاشراف على مزرعته.. فيما كان يتبعه والد محفوظ كظله بذلة وخشوع أثارت حفيظة أهل القرية وسخريتهم..
عدنا.. انا ومحفوظ من المدرسة.. نغذ السير في طريق غير ممهدة الى قريتنا الجاثمة قرب الجبل كفرطوسة خنزير.. كانت حباحب المطر.. تغسل وجوهنا المقترة.. قال محفوظ وهو يمحص النظر في التراب البليل: (نحن يجب ان نعمل لا ان ندرس).. لم اجبه.. رمض وجهي.. اندلق الدمع من عيني كرد فعل شرطي على حبيبات المطر الصافعة القريرة.. داخلني شعور بالمهابة له.. وكأنني امام شيخ جليل ينطق بالحكمة.. احجم لساني عن الدوران.. لكنني همست في قرارة نفسي: (وماذا يمكننا ان نعمل ونحن لم نسلخ العشر من العمر؟).. وقف كالجندي.. فاغر الفم كالابله.. وقبل ان يروم مكانه.. قال بحزم وثقة عالية كآمر: (انا قررت ان اترك المدرسة نهائيا)..

أنفاسقضى خمس عشرة سنة من عمره في القسم ... تعرف عن قرب على أسرار الطبشور ، تركيبته ، وزنه ، لونه ، ثمنه ، طوله ، عرضه ... يعرف عدد الذرات المتناثرة من الطبشور على وجهه ، ولباسه .. والتي تغمر عينيه وتتسرب إلى حلقومه .. كان يعرف كل هذا منذ خمس عشرة عاما .. وهو صابر صبر ايوب على هذه المعرفة المفروضة عليه فرضا.. .لقد تآخى مع هذه المحنة كل هذه السنوات حتى أضحت مألوفة لديه ...أصبح الطبشور بالنسبة إليه حاجة يومية لايفتأ يستعمله كل وقت وحين .. لقد أضحى مصدرا من مصادر عيشه..فقد اختار ذلك بمحض إرادته.. فلم اليأس والتشاؤم ؟؟
كان يعرف أن كل الموظفين في جميع القطاعات لا يدرون عن أسرار الطباشير أي شيء .. بل إن من أصدقائه ومعارفه من يتخذ من معرفته المعمقة بالطبشور وحديثه عنه أحيانا أمامهم ، هزؤا للتندر والفكاهة .. كان بعضهم يقول له : لو كنت تجمع يوميا مقدارا من الطباشير وتبيعه " للجباصين " لينقشوا به الدور والحدائق لغدوت من اصحاب الملايين ..
كان يزدرد تعاسته وامتعاضه بصمت .. أفلا يعلم هؤلاء الملاعين أن الطباشير لايساوي حبة خرذل ؟. ولكن مع ذلك ، فأغلب المشاهير والعلماء والمفكرين ذاقوا من ذراته المتناثرة .. فملأوا منها الخياشيم والأشفار والمقل.. وتناولوه بين أناملهم وخطو به جملا وسطورا ..

أنفاسيتسلقنا الفقد....كما تتسلق عُلّيقة عجوز ..حاقدة ..جدار بيت الجيران العتيق..في حارتنا الحمراء الطينية ، فتتوحد فيه لتصير كالوريد المتوغل...وحشي بخضرته في جسد ذاك الجدار القديم الفاتر ...حياةً.
...وتندفع الذكريات بداخلنا ..كاندفاع مسافري القطارات ..ببوابات القاطرات النحيلة ، فيضج بضوضاء التناقض ....ويوغل الكف بداخلنا ...ويجتثّ السكينة منّا...ويعتصر براحته أحشائنا ..وهو يترنم بأنشودات طقوسه بنشوة ...
... فيشعرنا كمسلوبي الإرادة .....عاريين من قدرة اتخاد القرار....لانرسو على ميناء....ولاندري بما نشعر... بالضيق أم بالبهجة؟؟؟ ...بالغضب أم بالسكينة ؟؟؟ .....بالرغبة في الهروب أم بالحنين والعودة ؟؟؟؟
لاندري حتى ماهيتنا.... وما نحن ؟؟؟؟ بعدما انبعثت الحيرة جدولا بشراييننا وأوردتنا .... لتجرف كل ما أعتقدنا ببقائه شامخا في حيواتنا.....وتلك النُظم والقوانين...والرموز التي لطالما شعرناها لاتخبو...
"حين لاتتوقف عقارب الحزن بساعة عالمك الحائطية......لاتحاول ضبطها بأناملك.، بل اجعل حزنك قوة.....واستثمره في مشروع إنسان..، فلا إنسان دون حزن "

أنفاسودعت صديقاتها على ان يلتقوا فى الصباح الباكر قبل تحية العلم
القت نظرة خجلة على الفتى الذى يتبعها كل يوم كأنه حارسها الخاص
كل يوم يراقبها من بعيد وتراقبه ولا تفهم ماذا بعد
وفى ذات يوم هتف باسمها..تلجلجت كيف عرف اسمها وكيف تجرأ على ان يستوقفها فى منتصف الطريق
اقترب بخطواته التى تقارب بعضها وتشبه الخطوات الأولى لطفل
**
اقترب اكثر .. كانت المرة الوحيدة التى يقترب فيها الى هذا الحد
لمحت فى وجهه الطفولى عرقا غزيرا كمن ارتكب ذنبا
لم يتلفظ بحرف.. ركز النظر فى عيناها السوداوان وتبسم
اخرج من جيبه ورقة ودسها فى يدها وانطلق يسابق الريح

أنفاسبعينين ممتلئتين دموعا جامدة يتتبع المشهد ......تعاليق تبارح الأفواه وكأنها مادة أولية لرصاص نافد.....لا يكاد يعلق على ما يدور ، إلا انه يفهم كل ما يجول في حلبة صراع تجمع الام و الأب .هدا الأخير لا يبدي غليان الدم ، في مقابل الأم التي لا تلوي على شيء .تدرك بأبسط صيغة أن الزمان يستعد لصفعها مرة أخرى بعد أن أمنت منه لفترة :
- نوض قلب على خدمة.
يقابل نداءها ببرودة دم . وفي  قرارة ذاك البرود يدرك بدوره أن نومه ستقضه فاتورة ثقيلة تهديها مصاعب العيش .
بعينين حزينتين يتتيع المشهد ، ليس بوسعه أكثر من ذلك ، يؤنس أمه بأسئلة عميقة المعنى ، تتعمد بدورها أن تضعه على الخط و تحيطه علما بما يقع .... وتضع له سيناريو محتملا لما سيقع ، تزيد من هروبه ، ومن معانقته لصداقة الحلم الكبير .....يوم يكون له شان كفلان وفلان ....يوم يكتب له أن ينقذ أمه و أباه من براثن الزمان ...يوم يكتب له أن يلامس حلمه.....ويوم ...... يستفيق على وقع صراخ غريب ، ولكنه معتاد ، يلعن في قرارة نفسه الأقدار التي رمت به إلى هناك .

أنفاسكان كل شيء حوله يبدو هادئا ، الغرفة الضيقة تسبح بحمد سلطان العتمة ، والأريكة العرجاء تندب حظها العاثر الذي رماها في هذا المكان ، والكرسي المهترئ يترنح بزهو مترقبا سقوطه قبل الأوان .
في هذا الفضاء الذي يوحي بالبؤس ، كان ً با علوان ً يقضي أفضل أيامه ، كان يحب كل شيء في غرفته اليتيمة ، كان دائما يعاين المشهد والابتسامة لا تفارق محياه ...التيساع في الخاطر...هكذا يجيب كل متذمر من الفوضى والأوساخ وضيق المكان.
أيام صاحبنا تكاد تتشابه ، فلا جديد يميز يومه عن البارحة ، انعقد لسانه بفعل الروتين ، فأصبح لا يتكلم إلا بعسر وثقل شديد. كان يخرج كل صباح متجها إلى السوق الشعبي القريب من محل سكناه ، يتوقف كالعادة عند ً داعلي ً صاحب الحريرة العالمية، ذات النكهة الخاصة بفعل خلطات سحرية متقنة ، يتناول صحنين ، ثم يستلقي على كرسي بلاستيكي في انتظار قدوم بقية الوجبة ..خبز وزيت وزيتون وشاي بالزعتر.....    يلتهم با علوان ما بين يديه وما خلفه التهاما ، ثم يشير الى داعلي بإشارة يشمئز منها الأخير اشمئزازا عظيما ، فهي تعني تدوين الحساب إلى أجل غير مسمى في الكتاب المعلوم.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة