أنفاس- 1 -
لم يكن هذا الشعورُ جديداً علي، لكن شعوراً بالنذالة تملكني بقوة في هذه المرة. هل ثمة مَنْ يفرح لموت والده؟ أنا فعلت ذلك. حينما قالوا لي إنه مات شعرتُ بالفرح للحظة، ولم أستطع وقتها أن أخفي ابتسامتي، فأول ما خطر ببالي أن الأشياء التي أخاف منها في حياتي قد نقصت واحداً. أعرف أن احترام الأب واجب، ولكن ليس إلى حد الخوف منه، نعم خوف، ليس رهبة أو احتراماً بل هو خوف حقيقي.
كانت مساحة كف المرحوم تعادل مجموع مساحتي كفي الانسان العادي، وراحة يده لم تكن مكسوة بالجلد، بل بما يشبه الحراشف. لا أعتقد أنه فكر، ولو لمرة واحدة، أن الشيء الذي يضربه بهذه اليد كان وجه ابنه الوحيد، أغلب الظن أنه كان يتراءى له أنه يضرب جداراً أو شيئاً له صلابة البيتون المسلح.
أمي قالت لي إنه كان يخشى أن أصبحَ ولداً مائعاً كأغلب الأولاد الوحيدين، الذين يتحول حب آبائهم لهم إلى إفراط في الدلال، فيعتاده، ويدرك أن طلباته كلها مجابة، فيبدأ بالتمرد على والديه بعد أن يَبطر ويفسد، ووقتها إذا أراد الأهل إصلاحه أو إعادة تربيته، يكون الأوان قد فات. كان يختلق ذريعة ويضربني كلما تخيل هذا المشهد أمامه.

أنفاسالعم نهيان رجل اكتسب كثيرا من صفات الهيبة والرفعة، لما تعرض له من الأحداث الكثيرة فى حياته، والتي جعلت خبرته لا تقارن بكثير ممن يحملون شهادات عليا، ومتمرسي السياسة، وأصبحت له معرفة بالناس والمجتمع...
فالعم نهيان واكب عن قرب وجوها متعددة ممن حكموا البلدة، وكذلك ربطته علاقات متينة مع من قبضوا على مفاتيح الثروة والمال، وحكموا البلدة أيضا من وراء الكواليس..!! وها هو اليوم يجد نفسه حكما بين فرقاء اختلفوا فتعاركوا وتنازعوا فيما بينهم، فكادت أن تذهب ريحهم سدى، وذلك على قطعة أرض أصغر من "الغترة" (الغترة عبارة عن قطعة قماش حجم الكف)، على الرغم من تواجدهم فى بقعة جغرافية لا تكاد ترى على الخريطة الكونية المدرسية، تكثر فيها الأفواه التى لاتحتاج لخصام أو خطابات إنما تحتاج للدقيق..!! ويكثر فيها الفقراء أيضا..!!
فشياطين الجن تلبسوا فى كثير منهم، فخرج مزيج من عينات لاهي إنس ولاهي جان، شيطانية القلب والعقل..!! حتى أن البحر الذى هو أحد حدودها من المفترض أن يكون فيه الخير الوفير، أضحى مقفهرا كصحراء خالية، إلا من طحالب مائية، تخرج بين الحين والآخر على الشاطىء، فقد هجرته الأسماك والبحريات بأنواعها، ولوثت مياهه أنهارا آسنة من مخلفات بنى البشر، ومع هذا كله فقد تناحر وتجادل وتقاتل الأشقاء؟؟!!.

أنفاسفي مواجهة ساسة دور النشر في البلاد، تفتقت موهبة الوزيرة عن حيلة لا يبدع فيها إلا فنان، جاؤوها يشتكون كساد تجارتهم في زمن النت اللعين، فبادرتهم بالحل الذي نافست فيه إبليس الرجيم، نسيت أنها في حضرة عين الكاميرا المدفوعة الأجر لنقل مراسيم الاستقبال، فشمرت عن معصم للكوع لمع فيه دملج من ذهب أبيض ترصعه حبات ماس خضراء وحمراء: في عز تخوف العالم من كارثة أزمة اقتصادية كبرى قد لا تبقي ولا تذر، سنعلن عن مسابقة لنيل جائزة الوزارة في الإبداع السردي لهذه السنة،على أساس أن يترشح لها الكتاب من مختلف الأعمار، حرصا على الشفافية ودفعا لمقولة صراع الأجيال، لا شك أنكم لاحظتم طفرة الجراد من الكتاب خلال هذه الأيام، فقد صرنا بلد المليون كاتب بلا منازع، ثم استدركت : مع توفر شرط وحيد، يتمثل في تقديم عملين منشورين ورقيا في دار طبع وطنية، على أن يكونا حديثي العهد، بحيث لا يتجاوز تاريخ نشرهما سنة، وسترون أيها السادة كيف سيتقاطر عليكم هؤلاء الكتاب كالذباب في مأدبة اللئام، حين يعلمون قيمة جوائزها المالية، وما يمكن أن يرافق ذلك من توصيات لدى أكثر من جهة بتبني الأعمال الفائزة، سواء في المقررات الدراسية، أو في منتوجات الدعاية السياحية.

أنفاسلقد قتلتهُ وأمام أنظار ملايين المشاهدين.. هكذا بكل هدوء.. وأقفلتُ الخط.

كل البدايات رائعة وجميلة وهادئة ورومانسية وحتى صادقة، لكن العبرة بالنتائج!
شعرت بلحظة أن المكان ارتفع بي سابحاً في الفضاء الواسع عبر الأثير نحو تلك الأيام.. نافذة من الذاكرة تُفتَح على زمنٍ قد مضى.. انهُ الماضي يطرق أبواب ذاكرتي.. وأفتح الباب.. لِيُبحر بي زورق الذكرى في بحرٍ لا آفاق له.
دخل حياتي بتخطيطٍ مسبقٍ منه.. كنتُ حُلماً غير قابل للتصديق في خياله، وعندما اقترب مني بموعدٍ هيأهُ له القدر ما صدق بأنهُ أمامي.. تلعثم بالكلمات.. احمر وجهه وتفصد جبينه وتعرق جسده إلى درجة أن تبلل قميصه الأخضر. ما علِمتُ نواياه.. أراد مني حواراً في حينها.. أجبته بكل برود:
_ هيئ أسئلتك.
تألقت عيناهُ بالسعادة وهو يسمع موافقتي على إجراء الحوار.

أنفاسبصم ًالطيب ً على نهاية عام دراسي طويل، سلم كشف حسابه للتاريخ، خرج من الباب الكبير للمؤسسة بعد أن وقع محضر الخروج
ما أسرعك يا زمن بل ما أبطأ أفعالنا وأسرع رغباتنا.!
في نهاية كل عام، يستسلم الطيب لحالة من القلق المشروع، فتتناسل في ذهنه أسئلة كثيرة ملحاحة:
-  أتراني أتغير هذا الصيف لأصبح مثل باقي البشر ؟
-  أيعقل أن بإمكاني السفر هذه المرة ؟ لكن إلى أين ؟
- هل ثمة رابط سحري بين محضر الخروج والعطلة والسفر ؟
أسئلة لا تنقطع مع حلول كل صيف، وسوف تتكرر مادام التردد يسكن الفؤاد ويغزو الصدور.
هذه المرة سأسافر، ليس المهم إلى أين  ...قضيتي هذه المرة أن أتحرك..أن أتغير. تذكر الطيب بسخرية فوائد السفر التي طالما شنف بها أسماع مريديه الصغار، فكثيرا ما حاول إقناعهم بأن السفر ترفيه،وتعلم،وتدبر، وسياحة، وتنشيط، ومعرفة، دون أن ينسى تنبيههم إلى أنه أيضا قطعة من جهنم، وضحايا حقيبة السفر أكثر من أن يعدوا ويحصوا. هذه المرة سأكون كريما مع ذاتي، سأشبع حاجة نفسية عميقة ظلت تلح علي إلحاحا متواصلا.

أنفاسوقفت سيارة أنيقة بجوار رصيف قديم، وربما الرصيف الوحيد، يتشعب من دوّار صغير في وسط المخيم.. ومن السيارة نزل رجل طويل بشرته قمحية فيها سمرة طيبة، وكان منظره أنيقا.. وباين على شكله أنه رجل في غاية الاحترام وابن ناس طيبين، لابسا بذلة رمادية محبوكة على جسده وتزيد طوله الفارع، وتقلل رفعه الذي يبدو للوهلة الأولى أنه ممكن بيسر إدخاله في خرم إبرة.. وتكاد تخنقه ربطة عنق حمراء يتوسطها دبوس ذهبي لامع.. هذا وكانت سخونة الجو تسلق أجسادا تلهث منها الأفواه، وتتكتم في لهاثها الأنفاس، وتحمر للفحها الجفون. لمّا نزّل الرجل من السيارة رمى  بصره إلى اليمين، ثم سحبه وألقاه ثانية إلى اليسار، ثم أعاده وثبته قرب طرف الدوار في الجهة المقابلة، عند أول الشارع الذي نهايته توصل إلى وسط السوق.
 مشى الرجل عدة خطوات وئيدات فيها تردد، ترددها يقول أنه غريب عن الحي، مشاها على مهله في قلق وهو يتلفت لفتات حيرانة فيها ذهول، كأنه تائه عن مكان معروف.. لحظتها هبت الّسنة الناس الذين ينتشرون في الدوار بكلمات حانقة راحت تندفع من قلوبهم المعتصرة بالوجع، وعبارات غاضبة مكهربة كلها غليان، وعلت حناجرهم بهتافات راحت تنتشر كالرياح في شوارع الحارة، وتسري لعلعتها كأمواج متدفقة تتقوّس مع تقوّس الشارع، وكانت الآذان تلتقطها بغضب مستعر.

أنفاسافترقوا خلف أبواب العشرين يلتمسون رفاف الجناح , قاربت بينهم القصيدة وصفة لاجئ على وثيقة السفر, وباعدت بينهم أحلامهم المتباينة , حلم باسل باكتشاف العالم فتخرج من الأكاديمية البحرية كمساعد قبطان كي لا يرسو أبداً وحفر أحمد كل الأنفاق التي تفضي إلى الأضواء والنجومية وحمل شهاب معوله كي يهدم قبوه حالماً بصعود درجات الطوابق العليا ..
وبعد مرور عشرين عاماً التأموا مرة ثانية على متن يخت  تعود ملكيته لشهاب الذي أصبح من حيتان البورصة , ومع قصائد أحمد الذي لمع نجمه وأصبح مذيعاً كبيراً بإحدى القنوات الفضائية المشهورة عبروا إلى العشرين على جناحي القصيدة ثم إنحنوا يلملمون صدف المحيطات الذي جمعه باسل بعد أن أصبح قبطاناً !!
وبين العشرين والأربعين رفعوا مساتر الفصول بحثاً عن قبعات الرمال لكنهم لم يجدوا سوى هياكل الأيام , أسدلت نظراتهم الحزينة ستائر الخيبة فوق الواجهة الجميلة التي أخفت تصدعات الفصول لبعض الوقت , قال باسل :

أنفاس جلست - بعد ثلاثين عاما- على مصطبة خشبية متآكلة الحواف.. بدت الساحة أمامي خاوية والأبنية حائلة الألوان.. حقيبة ملابسي بمحاذاة المصطبة, وإلى جانبي كيس به ما تبقى من طعام.. انظر إلى الشجيرات العارية من أوراقها- مع أننا في منتصف الربيع- وأجتر الصور التي اختزنتها ذاكرتي, فلا أجد أيما تطابق أو تشابه يوحي بملامح واضحة لما أرى.. كل شيء شائخ ومهترئ, وأنا أعود بعد ثلاثين عاما بجلد لم تعد خلاياه تتجدد.
السيارة التي أقلتني من عم ان الى بغداد رمتني إلى هذا المكان.. نزل كثير من الركاب وبقي القليل منهم.. ترددت قبل النزول وأنا أتطلع من نافذة السيارة.. قلت للسائق:
- أروم الوصول إلى »مدينة الثورة«.
رمقني ولم يعلق بشيء.. أنا من ناحيتي كنت أستعيد الكلام الذي قلته, فربما أخطأت في التسمية, ولما كانت عيناه ما تزالان تحدقان باستغراب فقد نزلت في ساحة مربعة الشكل.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة