أنفاس سأموت....
هكذا، في شارع ما من بلدتنا الضيقة، وبينما أسير في طريق ترابي يعج بأكوام من القمامة ستصدمني تلك العربة التي أكرهها، أكرهها حتى الموت وأموت، شاحنة مترعة بحمل ثقيل، تجثو فوق قلبي، صدري، ثم تقلع أحشائي إلى الخارج، دون أن يلتفت السائق لي، أو حتى الذين يجلسون إلى جواره. لن أفكر لحظتها بلون تلك العربة، كما افعل دائماً حين أتفادي السيارات الرعناء والطرق الملتوية، فسائقو السيارات اليوم منشغلون عن أمثالي برفيقاتهم اللواتي ينثرن عطورهن وملامحهن داخل جدران تلك الغرفة المتحركة ذات اللون الأحمر ، سيولِغون في أفواههن كل لعابهم دون أدنى شعور بأن هناك من يراقبهم عن كثب.
إنني الآن في المشهد الأخير من عمري، وكما ترون فإنني أحتضر، أموت، لا حول لي ولا قوة، ستبقى جثتي هامدة في مكانها، لا تحرك ساكناً، سيحضر الجميع بما فيهم أبي، لن يعرفوني بسبب التشوهات التي حاكتني، لكن أحدهم سيبلغ والدي بأنه أنا، نعم أنا وليده الوحيد، فملامحي "الفقروية" ستدلهم على شخصي الكريم، لحظتها سيبكي، بكاءً مراً شديداً، لم يذق له طعم يوماً، سيغشى عليه، يترنح كذبيح طعنته ألف سكين، ثم سيحملونني إلى بيتي الذي سأحن إليه كما حننت دوماً عند خروجي في مهمات قتالية بحثاً عن طعام.

أنفاس بدأت الأوتار الأخيرة تعزف بقوة تعلن قرب المغادرة ..فالنوبة الموسيقية أشرفت على النهاية.. لم يعد يحول بيني و بينها شيء و لا عائق ..لا عتبة انتظار و لا رمش أمل و لا غمضة عين.. بات كل شيء مرسوما واضحا ..كل دفاتري بها حبر فيه هزيمة و انكسار ..لكن مصباحا ..أو ضوءا خافتا يظهر من بعيد.. أهو سراب أعتقد فقط بوجوده و أنا الظمأى لوردة حب؟ ..وأنا التي تحتاج عناقا يجعل عضلاتي تصطك فرحا و رقصا ؟ أهو الحلم الجميل الذي طالما انتظرته و عبرت عنه أحلامي الجميلة و ألبسته أبهى الحلل و زينته بأغلى الأحجار .. ؟أهو سند جاء ليعتقني من نار حيرتي و ظلمي لنفسي؟ أجاء لكي يفك أغلالي و يحطم الخوف بداخلي ..؟أهو بالفعل يحمل لي كل تلك المشاعر الجميلة...ما الذي تعنيه إنسانة  متعثرة خالية الوفاض من السعادة  مثلي ؟حاولت أن تسعد مرات و مرات غيرها.. لكنها فشلت فرجمت.. و تعثرت فتبعثرت.. ألجمت فأغلقت عليها الأبواب ..ووقفت ضدها كل الأصوات تشتم و تلعن إيمانها بالنبض بالصدق بالوفاء ..

أنفاسلف سيجارته الأخيرة بأصابعه المصفرة عند الأطراف، بعناية ثم وضعها بين شفتيه. أخذ نفسا عميقا بعد أن أشعلها تاركا الهواء الدافئ يتغلغل في صدره المتعب.
كان واقفا تحت شجرة اللوز العملاقة، يتأمل حقله الذي يمتد نزولا أمامه إلى أسفل الوادي حيث جف النهر منذ شهور عدة. لقد أوشك على إتمام عمله: حرثَ الأرض ووضع السماد، لم تتبق سوى عملية الزرع وسينتظر بعدها هطول المطر. لم تبد فوق الجبل المقابل تباشير رياح الغربي. غير بعيد، كانت زوجته تلم الحطب بدون كلل بينما يحرس صغيرهما الغنم.
تذكر أوامر الطبيب، لا سجائر بعد اليوم، لا تعب.. وعلاج سريع ومكلف لاستئصال المرض.

أنفاسأنهى المكالمة و أعاد هاتفه الخلوي إلى  جيب معطفه الداخلي , حاصرته الأسئلة..لماذا؟ ما السبب؟ كيف الخلاص؟..ساقته رجلاه رغم قلبه إلى حيث تواعدا ..خفق القلب المنهك لمرآها كعادته , ودارت رحى تفكيره بحثا عما يناسب الموقف , لم تكن وحدها المذنبة ..تحينت أول فرصة للخلاص من أسره ..لم تسعفها حلاوة الاشتباك اللذيذ بين قلبين على التولي..رنت ببصرها إليه ..ألحت على الشفتين لتأخذا منحى التبسم ..بادلها البسمة بتهلل أساريره, ثم استدرك مكابرا : هل من مشكلة؟
تلفعت بصمتها لحظة ..أفي القلب متسع لنبض جديد..أم هو الحب المراوغ خلف ستار الأنفة؟ تطلعت إليه بأناة و مكر أنثوي بارع:  لنتمش قليلا ....
تلعثم كعادته .. لا مس كتفها بيد مرتعشة: هيا ! و انساب الكلام بينهما كجدول ماء رائق..لا لوم و لا شجب..مكاشفة للاعتذار عن زلة قلبين آثرا يوما خيار القطيعة !
في المقهى امتلأ الصمت معنى..سال دمع متلأليء على خد متورد..وارتقيا معا سلم الاعتراف صعودا إلى مملكة الصفح !

أنفاسنهدان
******
نبضُكِ ,
نبضُكِ لا يحتاجُ الى قيثارٍ كي يعزفني
أما جسدانا فَهُما ما عادا جسدينْ
باتا بَرَّاً مسحوراً
ويزقرق عصفوران على تَلَّينْ
من خمرٍ ولُجَينْ !
---------
أغلب الأحيان عندما أقرأ شعراً موزوناً يعجبني لا أستطيع إلاّ أن أردده بصوتٍ مسموع وأتمايل مع لحنه والفاظه ومعانيه وكذلك أفعل مع قصائدي الجديدة من أجل أن أرسِّخَها في الذاكرة ولهذا خرجتُ الى الممر قبل الفطور بساعة ...
إقتربت الممرضة مني بوجهها المتهلل دوماً ,سألتني عن أفضل الأوقات عندي لملاقاة الطبيب اليوم ام غداً .

أنفاسأُنْهِي شَغَبَ التَسَاؤِلِ فِي حُمَى الوَجِعِ الأَزْرَقِ، تَتَدَلَى ذَاكِرَتِي بِلا أَقِدَام ،وََتَتَلاصُقُ أَشْلائِي المُقَدَدَةِ أَمَامَكَ دَرْوِيش ،أَفْتُقُ حَقِيبةَ الوَطِنِ اللازُورْدِيَةِ وَأَنْعَى المَوْتَ بَيْنَ أَرْجَائِكَ، يَحْتَطِبُنِي الثَرَى وَقُودَاً فِلِسْطِينيَّ الدَّمْعِ ،لَيْلَكِيَّ الوَجَعِ .
رَحَلْتَ وَشِفَاهَ البَنَادِقِ غَيْرَ مُنْضَبِطَة ،وَرُمُوشَ الوَطَنِ حُبْلَى بِأَقْفَالِ الزَنَابِقِ ، انْطَوَتْ قَلائِدُ يَافَا بَعْدَكَ،وَانْحَنَتْ صُلْبَانُ المَسَاجِدِ ،وَتَكَشَّفَتْ حُرِيَةُ الأَصْقُرِ بِلا مَخَالِب.
الآن مَاتَ البَحْرُ وَدُفِنَتِ الشَوَاطِئُ مُنْكَسِرَةَ المَوْجِ ، بَقِيَ لَنَا القَلِيلُ الذَي يُدَغْدِغُ ذَاكِرَةَ الرَّمَلِ ،وَبَقِيتِ أَصَابِعُ النَّايِ إِبَاحِيَةَ الغِيَابِ .
عَلَى خَاصِرَةِ الجَمْرِ انْتَهَى التَارِيخُ،وَبَدَأَ هُنَا العَزَاءُ وَهُنَاك ،وَاسْتَظَلَتْ أَفْيَاءُ الجَسَدِ فِي ضَرِيحِ الذَاكِرَةِ ، وَسَدِيمُ الرَصَاصِ انْحَفَرَ فِي ثَدْيِ امْرَأَةٍ تُرْضِعُ طِفْلَهَا نَبِيذَ الشَّفَقِ ،تَسَلَّحَ الحِصَارُ بَيْنَ أَنَايّ وَجَدَائِلُ السََّمَاءِ تُقَّشِرُ السَّمَاءَ غَيْمَةً بَعْدَ غَيْمَةٍ .
خَامَرَتْنِي خَيْبَةٌ مَكْتُومَةُ الرَعْشَةِ عَلَى أَرْصِفَةِ الصَدِيدِ ،فَلَمْ يَعُدْ هُنَاكَ مَا يَكْفِي لأُمَرْهِمَ جُرْحِي اللامُنْدَمِلِ ،بَعْدَ أَنْ عَادَتِ المَقْبَرَةُ الأُولَى إِلى غَمْزَةِ العَسَلِ .

أنفاسجاؤوا قريتنا مساء من جهة الشرق،بلحاهم الكثة الشديدة السواد،وعباءاتهم البيضاء الناصعة البياض ، تجمهرنا حولهم ،فعانقوا الكبار وقبلوا الصغار...
بالدار الكبيرة لشيخ القبيلة ، جلسوا وجلسنا ، فقال كبيرهم : نحن ضيوفكم ، اتيناكم بمفاتيح الخير، ولكن لاتتعبوا انفسكم ،طعامنا جاهز ،ولن ناكل شيئا اخر ،فلا تحرجونا..و ظننا ان مائدة ستنزل عليهم من السماء، فالقوم قدموا خفافا طوالا...
ثم طلب كبيرهم وكان شابا طويلا عريض المنكبين ان تفرش ساحة القرية وان يحضر الاهالي الكبار والصغار، النساء ورالرجال، وباتوا يحدثوننا عن الخير والشروالحلال والحرام والصبر والاحسان والعفو والموت وظلمات القبر وعذاب السعير...
ولما حان النوم تركناهم و لا نعرف ماذا اكلوا...
وبعد صلاة الفجر والدعاء ،قام كبيرهم وخاطبنا :من يخرج معنا لزرع الخير ومحاربة الشيطان ؟ من يخرج معنا بماله ونفسه ؟من يخرج معنا بنفسه وزوجه؟

أنفاس دلف إلى المركز بحذر شديد كأنه يسير في حقل ملغوم..ورمق خلف فاصل زجاجي شخصا منهمكا في قراءة جريدة وقد أخفى كامل وجهه وراء صفحاتها..توجه نحوه بعد أن بقي مترددا بعض الوقت..وضع الاستدعاء الذي حمله إليه مقدم الحي ووقع نظير استلامه في دفتر كان معه..وضعه تحت نصف الدائرة التي فـُتحت أسفل الفاصل الزجاجي للمكتب لتمرَّر منها الوثائق..ثم اصطنع سعلة خفيفة ليثير انتباه الشخص الغارق في قراءة الجريدة..لكنه لم ينتبه إليه إلا بعد فترة..فخفض الجريدة قليلا حتى بدت عيناه المنتفختان وقد خالطتهما حمرة كأنها الشرر المتطاير..ودون أن يقوم من مكانه قال مزمجرا:
"انتظر هناك..العميد مشغول الآن.."
التفت حيث أشار الرجل ، فرأى كرسيا خشبيا مستطيلا موضوعا بجانب الجدار..ألقى بجسمه النحيف على طرف منه بعد أن تفادى الجلوس على بقعة من الدم ما تزال عالقة به.. ثم استرق نظرة إلى الرجل خلف الزجاج وهو مشغول عما حوله بقراءة الجريدة..واستغرب كيف لم ير صورة الحاكم بزيه العسكري وهي تتصدر وسط المركز بحيث لا تخطئها عين الداخل إليه..

مفضلات الشهر من القصص القصيرة