أنفاسهي تحدق في المعطف البني ،
وهو يحدق في صاحبته الشقراء ،
هي تتملى في أزاره الجميلة،
وهو في صدر صاحبته الناتئ.
ارتشفت المرأة من فنجان قهوتها ، ففرحت الزوجة لرؤية كم المعطف الآسر ، بينما كان هو يمج شفتي الأخرى مع قطعة سكر .
رن هاتف الحسناء ، فانتصبت في رشاقة واستدارت ، فأمسكت هي بيد زوجها في فرح طقولي ، وقد راقتها كثيرا فصالته، في حين أغمض هو عينيه فارا بلحظته  نحو الأعماق ، مستحضرا صورة دميته الفاتنة ، يتمنى لو أماطته عنها ، لتتخلص من ملاحقة نظرات زوجته اللعينة.

أنفاسانتفض المحراث الخشبي ، نفض الغبار وعش العنكبوت عنه ، وخرج ...
ووجدها كعهده بها تحت الشمس ممددة ، طرية ، طيعة تحلم بشيء
يخترقها على مهل ،ينغرس في اعماقها ، يرج احشاءها رجا ...
نظرت اليه فتورد خداها وارتخت جفونها وشعرت بالجفاف في حلقها ...
وانتصب ...
فتمايلت الاشجار وتعانقت ..
وغنت العصافير اغاني الحب ورفرفت بالمئات ، بالالاف فوقهما
تشكل غطاء يسترهما ...
اما الشمس فقد اختفت وراء غيمة على شكل قلب ...

أنفاسفارغة هي من كل مايشغلها..لا تعرف كيف اتسع الفراغ داخلها إلى هذا الحد..تحاول أن تتجول في أنحائها لتخرج بفكرة أو صورة باهتة لذكرى فلا تجد..هل توقف عقلها؟؟لم تعهده هكذا من قبل  وهو الذى لايكف عن النبض..نعم النبض.. لايكف عن العمل ولا يمل من مد يديه فى أحشاء الماضي و إلى عيون الحاضر و بين صفحات المستقبل البيضاء..يرتحل من هنا إلى هناك في طرفة عين ثم يعود أدراجه محملاً بما تمليه عليه حالته المزاجية..ولهذا فقد أعفى القلب من مهامه ويقوم بضخ المداد إلى أجزائها المرئية واللا مرئية.. اليوم  هو مختلف..شلل ما يسيطر عليه فيستسلم له دون مقاومة تذكر..محاولات محتضرة لتشغيل محركه الذى لم يتعود السكون حتى فى قلب الحلم أسلمت الروح دون أن توصي..
قررت الخروج من الفراغ مع سبق الإصرار..أسلمت أصابعها للوحة المفاتيح دون أن تشترط أو تملي عليها ماتقول..اندفعت الأصابع تشي لشاشة حاسوبها بكل مايدور فى الرأس المواجه لها دون تفكير..فاجأتها صورة حبيبها ..توقفت قليلاً تسترجع ماتفعله به..لماذا تعذبه وهي تحبه؟؟؟ماذنبه هو في تقلبها الذى لاينتهي..اليوم خيرها بين المكث معه وبين الحرف ..حاولت استرضاءه  وهي متعلقة بأذيال حرفها فلم تفلح...أغلق بابه دونها وتركها غارقة فى تيهها.. بينما فر منها الذى أغضبت حبيبها من أجله مخلفاً إياها تسبح فى أمواج الخرس...

أنفاســ" هل من مزيد ... ؟ "
ــ ط ..... "
و ركض النادل يلبي الطلب ، و انبطح آخر شعاع صريعا وسط الأهداب المنتوفة ، و انحجبت الشمس و انطوت الجدران الصلدة المغلقة من دون نوافذ على أنوار المصابيح المغبرة و دخان السجائر الرخيصة و رائحة العرق و الكحول و القيء الممزوجة برائحة السمك المقلي و بودر المومسات ... و غاص كل شيء ، و تولد خيط رفيع امتد حابيا مع طبقات الخنق و هستيريا من القهقهات الفظيعة و الثرثرة المحمومة يربط أجزاء هذا العالم المكهرب ببعضها ...
ــ ” و أنت ... “
ــ ” أنا ... ماذا ؟ “
ــ أنت تنزوي في الركن ، ظهرك إلى الحوت السابح في زرقة الجدار وراءك .. تتملى صورة أمامك و حواليك .. لوحة رائعة من دون شك .. يونس ينجو من جوف الحوت لتوه ، لكنه يستقر في قاع البحر ... تصفيق !

أنفاسدلفت إلى المقرخلفه..متباطئا ومرتبكا..رائحة الثورة تنبعث من هذا المكان ..صور شاحبة للذين قضوا دفاعا عن حلمنا.. ووهمهم ! أشار إليهم بزهو قائلا : إنهم الآباء !..انتابني ريب في شرعية الانتماء .. لا أحد منهم تبدو عليه سيما الثراء و الرفه !..ملامح رجولية غاضبة..قسمات تنبض بالعنفوان !
 ..دعاني بلباقة الى الجلوس ..وشرع يفك  طلاسم المرحلة !..كل خيوط  الأحداث تتشابك لتمنح حزبه العتيد أهلية الحكم ..ولذة الوصاية على ملايين البسطاء !
أنا ابن الكادحين !..هكذا قال ..ثم شرع بحماس ملفت يرتل آيات كفاحه المرير ..
نشأت فقيرا كشأن السواد الأعظم في بلدتي ..بيت متواضع يعوله اسكافي منهك.. تحملت شظف العيش أملا في مستقبل أفضل.. يشهد أساتذتي اني لم أكن سطحي الفكر كـأ ترابي, فطرقت باب العمل الحزبي وانا دون الثامنة عشرة, ونلت قسطا اوفر من المضايقات والاعتقال و التنكيل و ملاحقات المخبرين لسنوات طوال فآثرت الهجرة الى الخارج حيث لا رقابة على الفكر الحر !! وها أنذا بعد عقد ونصف ألتحق بزمرة الكادحين لأمنحهم عيشا أفضل ! .. ويسارا يليق بالمرحلة !

أنفاسفي ذلك اليوم لم تكن وحدها ، نظراتها التائهة في مقر عملها هي نفسها التي كانت في الطريق .. بحثَتْ عن شيء في الطريق لم تجده رأت الناس يتحركون بسرعة ..شعرها يلاحقها متعبا و هي ممعنة في سيرها ..انتبه إليها البعض ..دلفت المقهى أرادت أن تتملى الأشياء والكائنات ..لم تكن وحدها ..كانت معها نظراتها الخضراء و شفتاها المستلقيتان تحت أشعة شمس الشتاء بتعنت و الملتحفتان بأحمر الشفاه ..تبحث عن شيء بلا هوادة تلتفت يمينا وشمالا تقف عند محطة الحافلة تنتظر شخصًامَّا.. مازالت تلتفت ..ربما تأخر في المجيء ..حذاؤها الإيطالي بكعبه الرشيق العالي يمعن النظر من عليائه في المارة علَّه يجد أنيسا ينسيه ملل الانتظار و عفن الاسفلت الرديء لكنه يتحرك في النهاية مواصلا طريقه ..شامخة هي و جذلة تواصل طريقها تلاحقها خصلات شعرها الكستنائي ..صدرها يهتزّ بحرية جميلة  كلما نزل حذاؤها من على الرصيف ..عيناها ماضيتان بكل قوة و إصرار إلى الأمام .. هواء الشتاء البارد ينزلق على خدها ..يحاول الانتظار بدوره قليلا عبثا يواصل طريقه حاملا معه العطر الفرنسي الهادئ ..تتوقف عند حديقة عامة مازالت تلتفت بتوتر ..لاأحد هنا ترفع نظرتها الخضراء إلى الساعة الدائرية الباردة ..إنها الساعة العاشرة ..تُحكِمُ ياقة معطفها الأسود على عنقها و تواصل طريقها ... هذا الطريق الأخاذ لمْ تنسه تمشي بخطوات ملتفتة مازالت تبحث أو ربما تنتظر ..الطريق الطويل لم يتغير والمارة فيه عيون متحركة أنهكتها الأيام ..

أنفاس تعبت..ألا تصدق أنى تعبت؟؟حاولت إفهامك أنى لست مختلفة عن النساء..أنا منهن وهن مني...ظننت أنت غير ذلك..لم ترهق نفسك مؤخراً كثيراً في تقديم وردة حرف إلىّ..نثرت الآلاف منها حتى تمكنت من قلبي ولما حدث تركتني أسبح فى الورود الذابلة..منذ ابتعدت وأنا بين بين..لا أفهم إن كنت مازلت تحبنى أم أنى دخلت دائرة اليومي والمعتاد..كلما التقينا قال لسانك أنى أعيش بداخلك لكنى لا أجدنى بداخلى فكيف أكون بداخلك...بالأمس خلعت أقنعتي أمام مرآتي حين أحسست أنك تتهرب مني!! هل أوصلت أنا الأمر إلى هذا أم أن هذا كان مساره الطبيعي منذ أول لحظة تقابلنا فيها..اعتذرت ألف عذر ولم أكذبك لكنى تمزقت..تمزقت بين الحب والشك..متعب أنت ربما..منهك وغارق فى انشغالاتك ربما..لكن.. هل تعرف حقاً قيمة اهتمام بسيط تغرسه في قلبي فى خضم انشغالاتك؟؟؟لماذا تظن أنى سأقدر طيلة الوقت؟؟
يقطعنى رنين الهاتف..التقطه لأخرسه فأضغط زر الرد بدلاً من الإغلاق..مضطرة للتجاوب..يأتيني صوتك من بعيد..(ما أخبارك..هل أنهيت العمل؟؟؟مارأيك فى مشروعي؟؟...هل أنجزت  أعمالك؟)

أنفاسلهلبت الشمس وصار الجو يصهر الدهن في الأبدان، غير أن نسمات رشيقة فيها برودة هبت فحفت قميص عبد الجواد، ولفحت في طريقها وجهه المصّفّح الثري بالحشائش والأعشاب، وراحت بالمرة تداعب جسده الذي سخنه الجو لتبرده، فشعر ببدنه كأنه مدفون وسط شرائح رقيقة من ثلج، فانتعش.. ومن جلده الناشف تسللت برودة إلى جوفه الساخن فبرّدت قلبه.. لكن حلقه ظل يابسا عطشان.
راح عبد الجواد الجالس على حافة عربتة الكارو يدلدل ساقيه على آخر ما يكون الهدوء والانسجام، ويده ماسكة بالحبل الذي به يقود عربته بمهارة وخبرة سنين كثيرة مضت.. وعربته هذه يجرها حمار كان قد شراه في السنة التي فاتت، ورباه وكبره على يديه وسمّنه حتى لظلظ، وصار متينا لحمل الأثقال وقد انتفخت عضلاته وطلّزت. وإحساس رائع بالغبطة كان يموج في قلب عبد الجواد ويخلخله، وبعض هذه الغبطة تسربت صاعدة لتحوم في سواد عينيه المغطاة بشعر كثيف انسدل من حاجبين سميكين، فبرقت عيناه بشوق للنقود الكثيرة المرتقبة.. النقود التي سيكّحل عينيه برؤيتها ويقبضها بيده عندما يصل بالسلامة إلى وسط السوق، وينقل بعربته الصناديق التي اتفق بشأنها مع واحد من التجار الكبار.. وما اقل الفرص التي تقبض فيها يد عبد الجواد نقود كثيرة، ربما يجني هذه المرة  ما يكفي لشراء رطل سردينه كان قد وعد به زوجته وأولاده قبل أسبوع.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة