أنفاستجمّع النّاس في الزّقاق٠
غصّ الزقاق وتجشّأ ٠توقّفت الحركة في الشوارع والأزقّة المجاورة. أغلقت الدّكاكين والمحلاّت أبوابها٠ بعضها ظلّ مفتوحا نصف فتحة ، لكنّ أصحابها غادروها مهرولين . أخمدت آلات التّسجيل التي كانت تزعق منذ حين .جاء الناس من كلّ صوب ، بعضهم أتى راجلا وبعضهم اكترى عربة ببغل وبعضهم استأجر شاحنة .أبو اللّطف رجل شهم ،وجميع من في المدينة يحبهّ، وله أياد على الأرامل والأيتام وأبناء السبيل ،وأقلّ الوفاء ،أن يحضر الناس جنازته ويشيّعوه إلى قبره مهلّلين مكبّرين داعين له بواسع الرّحمة والأجر الوفير.تسارعت بعض النّسوة منفوشات الشّعر، وبعضهن متّشحات بالمحارم الدّاكنة٠ ولطمت امرأة سمينة وجهها وصوّتت أخرى ماطّة شفتيها، لكن ّالدمع لم يطاوعها فاكتفت بالاستغفار.تدافع الرّجال حاملين السّلال وأكياس الخبز، والأطفال تعثّروا في الأرجل وهم يزعقون  في فرق.تجمهر الناس وهم يتطلّعون إلى الباب المفتوح على مصراعيه منتظرين خروج النعش، غير عابئين بلذع البرد والمطر الذي بدأ ينهمر بعد أن كان ينثّ بطريقة مكتومة .

أنفاسلاح لها رجل في البعيد.
رجل كزوجها فابتسمت للاحتمال.
رجل كحبيب قلبها فخفق قلبها بقوة.
لوحت بيدها اليمنى لزوجها منتظرة إياه في مكانها.
وجرت، في خيالها، إلى حبيبها كطفلة تمكن منها الهياج فعَدَتْ حافية القدمين غير عابئة بالأشواك المنثورة على الأرض وشظايا الزجاج المكسور.
صافحها زوجها واحتفظ بيدها بين يديه.
عانقها حبيبها وغاب وجهه تحت شعرها المخبل.

أنفاسافزعها منظر المرأة الضخمة التى تتشح بالسواد وتتجول فى انحاء البيت
لفت انتباهها صراخ امها العالى من حجرتها .. حتى ان علبة الوانها سقطت منها ولم تشعر
غابت المرأة لحظات فى مكان تعرفه جيدا .. فهى تهدأ عندما تدخل هذا المكان وهى جائعة
خرجت وبيدها اناء تغلى فيه الماء وتتصاعد الأبخرة لتغطى سقف البيت المتساقط دهانه القديم
**
دخلت المرأة على حجرة امها التى لم تتوقف عن الصراخ .. خافت على امها
ظنت انها طريقة جديدة للقتل .. القت برسوماتها على الأرض وحاولت ان تتدخل
لكنها تراجعت عندما نطقت تلك المرأة بصوتها الغليظ كصوت ابيها .. روحى العبى

أنفاسدخلتُ المدينةَ أوَّلَ مرَّةٍ عندما كنتُ فتىً يافعاً غريراً، وعالَمي يقتصر على فضاء قريتنا الإنسانيّ البسيط: بيوت طينيّة قليلة متواضعة، تحيط بها حقول شاسعة خضراء، وتُظلّها سماء صافية الزرقة معظم أيام السنة، وتتغلغل أشعة الشمس الذهبيّة في كلِّ مكان: في المزارع والأزقَّة والمنازل والقلوب، تحمل معها الدفء والحنان، وتُشعِل الألوان زاهية في المراعي والحقول وا لبساتين، وتبعث البريق في العيون. وفي الليل غالباً ما ننام على سطوح المنازل أو في باحاتها المشرعة على السماء، فتبدو النجوم لنا كبيرة قريبة في متناول اليد. وعدد أهالي القرية لا يتعدّى العشرات ويعرف بعضهم بعضاً، وتربط بينهم أواصر القرابة والصداقة والعمل، ويوحِّد مصيرَهم الحرثُ والسقي والحصاد وأحوالُ الزرع والمحصول. البسمة على الشفاه والطيبة في الأفئدة.

أنفاسالطريق، نعبره مرغمين . والمسافة الفاصلة بين المدرسة والفيلاج ،تبعد بأميال كثيرة.مسافة كنّا نقدرها بخمسة فراسخ أو ما يزيد.. بعد ما نقطع نصفه . نكون قد أشرفنا على ربوع . تتسع إلى أمداد بعيدة ، نطأ ترابها ، بعد عبور النهر مباشرة ،تتناثر على شساعتها مساكن تنتشر عن اليمين وعن الشمال .
نقطع الطريق صعودا ،بين أشجار سامق علوها ، الى عنان السماء . من الأرز والصفصاف والزيتون .
كان الطريق ممتعا . تفترش مساحة الارتفاع ، الذي كنا نصعده لاهثين ، من مجرى النهر إلى قمة الهضبة . تاركين النهر يتبع مجراه نحو الخنادق . خنادق وشمها في التواءاته،الصبيب المندفع بقوة ،أيام الشتاء الممطرة والعاصفة.
كم كانت لحظة جميلة ، أحببتها كثيراً ،أن أظل أطل على النهر ، وأنا أصعد الربوة لاهثا ، بين الفينة والأخرى. أتملى بجداول الماء  التي تنساب  صافية ، محاذية ، لجنبات الربوع الممتدة على طوله الملتوي ..

أنفاسجمّع الحاج أيوب شجاعته وشحذها كلها في ساقيه حين راح بشبشبه يحف  درجات السلم، ببطء ، وتسلل في وهن صاعدا إلى الطابق العلوي من البيت.. يسبقه لهاثه المتقطع وهو يتكئ بإحدى يديه على عصا، وبشقيقتها اعتمد على جدار خشن غير مدهون.. و إلى جواره في صحبته كانت إحدى حفيداته التي لصغرها لا تستطيع مساعدته على المشي.
توقف الحاج أيوب للحظات يلتقط  فيها نفسه الذي تهدج، فراح يتنفس هواء ثقيلا فيه برودة معطنة لها لسعة الثلج في الأنف، وشم بلا رغبة منه رائحة الدم والموت، رائحة عبقت المكان بشدة، وبشدة كانت تنبث من بين الركام وبقوة تفوح. ثم تسمر الحاج أيوب قرب جثث ابنه وزوجته وأحفاده الصغار، الذين مزقت أجسادهم وقطعتها عصر أمس قذيفة طائرة صهيونية، اخترقت الحائط بعنف وحولتهم إلى أشلاء تطايرت، وتناثرت في البيت ورصعت فتافيتها الجدران، وبعض الفتات تناثر في الشارع عبر النوافذ التي كانت مقفولة بإحكام كبير، فكسرها الانفجار لقوته وطيّرها إلى بعيد.. ومكث الحاج أيوب ساعة أو أكثر وهو يجمع بيدين راجفتين الأشلاء شلوا بعد شلو، وشقفة وراء شقفة، وكانت تساعده زوجته التي ما زالت عيناها إلى الآن تبقبقان بالدموع. ولم يستطع مع زوجته رغم الجهد المضني الذي بذلاه في تنظيف البلاط  من الدماء، لانقطاع الماء منذ الساعة الأولى لبدء الحرب.. فبقي الدم على البلاط وتحت حطام الأثاث حتى جف بعد وقت وتجمد، كأنما تحول إلى رمز ثمين كي تدخره الذاكرة مع ما تحفظه من دماء قديمة، وتجلله القلوب.. أو ربما لينقلب إلى غصة تشتد وطأة لعناتها وتتعاظم مع الزمن في النفوس.

أنفاساللّيمون متجعّد في الصّناديق الخشبيّة المتداعية٠
الخوخ ازداد احمرارا ثمّ تعفّن يزحف بداخله دود لا مرئيّ ٠
الباب الصفيح ذو المصراعين مفتوح نصف فتحة تعابثه ريح خبيثة فيئزّ متمارضا ....
أنت هنا ياعم !
 لا أحد يردّ ،لكنّ رائحة آدميّة عطنة تنبعث من الظّلمة الملفوفة في الغبار . وقع أقدام بالدّاخل وقرقعة، وصراخ طفل أضاع بوصلة الطّفولة .
 أنحني لأجسّ الخوخ ،تغوص سبّابتي وإبهامي في إهابه العفن، فانفض يدي كما لو كنت المس جثة متفسّخة .
 مساء الخير ... لا أحد يرد ّوالميزان على المصطبة يتأرجح بفعل النّسمات المنسربة من الكوى العلويةّ ولا أحد يزن بالقسطاس .
يتمطّى طيف في الفراغ ، يتقدّم متثاقلا ، يأتي متعمّما بنصف وجه، وسيجارة توشك على الانطفاء يمتصّها فم دون أن ينفتح ...

أنفاسسريعاً تغادر المكان، تتعجل الخطى كبرق خاطف، تتهاوى مع كل خطوة تخطوها خارج سربك وأصوات القذائف تئن بين يديك. تتلمس الجدران، الأمكنة والعتمة تأخذ في طريقها نحوك، كل ما حولك ظلام دامس، لا ترى شيئاً سوى الضباب. تتلمس جدران المخيم بينما تنشطر قدماك في لجة من خوف، تهذي، تواسي جراحك، تتمتم بآيات من القرآن علك تصل إلى بيتك بسلام. وبين فينة وأخرى تراوغك الكلمات، تحاور نفسك كمجنون يهذي، "ليتنا نموت جميعاً في آن واحد"، "ليتنا نغرق مع أعدائنا في تسونامي جديد" تستعيذ بالله من شيطانك، تطفر دمعات عزيزة من عينيك، تواسي نفسك، "ألا تكتفي بالبكاء؟!" وتصمت، تمر أمامك ناظريك لوحات ولوحات لأطفال قضوا بعيداً عن آبائهم، عنك، تستعيذ من عقدة الحياة، تحث الخطى وصورة طفليك ماثلة بين ضلوعك، يجلسون القرفصاء، يرتعدون خوفاً من أصوات مجهولة، قذائف غير معلومة اللون أو الرائحة، يموتون، يخرج الزبد من أشداقهم، وجهوهم، يتدثرون التراب وأنت عاجز عن فعل شيء.