أنفاس -1-
ثورة :
" يحيا بوغاتشوف، قائد ثورة الفلاحين! "
" يحيا بوغاتشوف، زعيم الفلاحين الثوار!  "   
" يحيا بوغاتشوف، يحيا بوغاتشوف!  "   
كان يصيح الثلاثون ألف فلاحا ثائرا على سياسة الإمبراطورة كاترينا الثانية وهم يلوحون بالبنادق وراء "بوغاتشوف " العسكري الهارب من الجندية الذي ادعى أنه الإمبراطور الشرعي المغتال بيدي الإمبراطورة والمبشر للفلاحين بإنهاء نظام  الإقطاع وتحرير الأقنان والفلاحين.
كان " بوغاتشوف " يتقدم المسير على متن حصانه نحو المدن الكبرى واثقا من وزنه ومن وفاء أتباعه ومن بركة الرهبان الذين كانوا يباركونه على طول الطريق قبل أن يقفز من حصانه ويفر هاربا مذعورا بين الوديان والصخور يطارده أتباعه من الفلاحين الذين علموا أن إمبراطورتهم كاترينا الثانية تعد من يسلمها "بوغاتشوف" حيا جائزة مالية خرافية.

أنفاسلقد ترك ذلك العيار جرحا عميقا، لكنه ما يلبث أن يبرأ حتى يصاب مرة أخرى ، جرح تعرض للنكسات مرات و مرات ،استمعت إليها بتركيز كما تعودت مع الجميع، حدقت بعينيها و هي تحكي كيف تتمنى  أن تعود مرة أخرى للحظات كانت تتذوق فيها  حلاوة الدعاء لله عز و جل  ،لأنها لم تعد تفعل ، لم يعد قلبها يبكي خشوعا و براءة ، لم تعد تتألم من وخزات جروحها ، فقدت شهية التمني و أصبحت أحلامها كلاسيكية لا تمتطي صهوة حصان، لا لذة فيها و لا يستثنيها مذاق....
تابعتۥ محطات بوحها ، محطة تلو الأخرى.. وجدتها و قد شارفت على البكاء ، سمحت لنفسي أن أسمع تذمرها و حرصها على إبلاغي أنها غير سعيدة، و أن حياتها أصبحت روتينا يوميا ..كانت بعينيها الجميلتين واللتين أصبحتا شاحبتين تعبران عن حزن كبير.. عن فقد بداخلها ..ألا زالت تحلم به رغم أنها بحضن آخر ..؟ ألا زالت تنتظر رسائله التي كانت تحمل لها أخباره؟ .. لماذا انتابني هذا الاعتقاد أنه ما زال بداخلها رغم مرور السنوات ،هل أسألها ؟ أبدا... قاومت رغبتي لأن السؤال لن يزيدها إلا عبورا نحو استحضار ذكريات  مكلله بدماء الكدر،فأسرعت قائلة  أعيدي البرمجة ربما السعادة في الرصيف الآخر فغالبا لا نأبه لها ، برهة ووجدتها و قد شدتني من يدي لنعبر للرصيف الآخر.. ضحكنا ملأ قلبينا  ونظرنا في عيون بعضنا و همسنا معا.. يا ليت نعود لأيام شعرنا فيها بطعم السعادة.. بطعم الانتظار و الشوق..صرخت بوجهها مازحة أنت الخائنة ..أنت من تركتني وحيدة .أكان عليك أن تتزوجي ؟

أنفاسحديث مع رَبّة الشفاء
 
لقد تمرأيتُ هنا في ظِليَ المديدْ
رأيتُني أُقَرِّبُ البعيدْ
أجمعُ أشتاتي
ما كان حَولي أحَدٌ
وقبلَ أنْ ينفتِحَ العالمُ لي ثانيةً
طويتُ مِرآتي !  

--------------
في الصباح جرت الأمور كما هو مألوف , عاملة التنظيف أتمَّت عملها اليومي بتنظيف أرضية القسم والممرات ومسح الزجاج , والممرضات والممرضون انتهوا من تهيئة الأدوية اليومية والعلاجات وأيقظت إحدى الممرضات النزلاءَ بتحية الصباح فذهبوا الى الحمامات والمغاسل وبعدها خرجوا  لتناول أدويتهم ثم تسربوا إما الى قاعة التدخين او الى برامج التأهيل والتي هي عبارة عن تمارين رياضية تسبق محاضرات طبية مبتسرة تتخللها أسئلة وأجوبة وهي تكون عادة غير ملزمة وتأتي بعد الفطور , وجاء موعد الفطور !

أنفاس تهيأوا جيدا..اسبوعان من المطالعة الدؤوب لما يُحتمل من أسئلة..و استنفار لكل الأخيلة الممكنة حول لجنة الامتحان..أجسام مترهلة..نظرات حادة مصوبة خلف زجاج سميك..أسئلة يُخيل للمترشح أنها تنبع من حقد دفين لتصب في قوالب اتهام ! ..ملامح جليدية لا يذيبها دفء الرضى و لاجمر الغضب !
تجمعوا أمام البوابة الخارجية حلقا حلقا..دردشات و تعارف و تظاهر بالصلابة ..إخفاء لتوتر كاسح . فُتحت البوابة.. رحب المسؤول بالمترشحين متمنيا للجميع حظا سعيدا !
اشرأبت الأعناق بفضول لتفحص قاعة الامتحان..بدا على الوجوه استغراب ممزوج بسخرية..طاولات و أوراق بيضاء ..و كهل متعب ..بسحنة ريفية..و بذلة تعبت من توالي الفصول !
و لجوا القاعة بصمت ..أظهروا أدبا جما وهم يلقون تحية الصباح..أجاب الكهل بتثاقل و مضض , ثم شرع في تلاوة النص المراد تحليله , وتفكيكه , ثم صياغته وفق المتغيرات الجديدة.
انكبوا على الأوراق بتلهف ..ساد القاعة صمت مشوب بصرير أقلام واثقة من النصر !

أنفاس_الله يخليك رقم الحافلة التي توصل إلى الجامعة؟؟
_خذ رقم ستة
  صعد الحافلة مع جموع   الطلبة التي كانت مصطفة تنتظر قدومها، ورجع إلى الوراء ينزع نفسه وسط الزحام واضعا يده في جيبه حتى لا يكون فريسة سهلة  لنشال يصطاد في الماء العكر، أما اليد الأخرى فكان يمسك فيها بعصبية على الملف الذي يحمل الشهادة التي طالما حلم بها، والتي أمضى في سبيلها اثنتا عشرة سنة من الدراسة دون رسوب حتى استطاع أن يحصل عليها عن جدارة واستحقاق ، لم ينتظرها لوحده وإنما كانت كل الأسرة تترقبها وتبني أمالها وأحلامها على شهادة الباكلوريا التي سيحصل عليها "عبد السلام "   هي الآن بين يديه ، وليس بينه وبين دخول الجامعة إلا وصول الحافلة...
كان يطل برأسه من النافذة مشدوها إلى هذه المدينة الجديدة التي لم يزرها من قبل وإن كان سمع عنها كثيرا "الله يعطي لأصحاب فاس الجنة ويعطينا احنا فاس" كانت هذه العبارة وحدها كافية ليرسم في ذهنه صورة خيالية لهذه المدينة الجميلة، التي خلدت حولها هذه العبارة. وأحس بنشوة غريبة تعتريه وهو يتخيل نفسه طالبا في جامعة فاس العاصمة العلمية التي يتمناها الناس كما يتمنى المرء الجنة!!

أنفاسجلده ، بارد ، كالجمر ،، كماموث يدور ، يدور داخل غرفة رديئة إكتراها حديثا في نزل رديء ،،، غرفة يتوسطها سرير خشبي قديم ، يتيم ، بالركن طاولة قفر ، و أمامها كرسي ثلاثة من أرجله متشابهة و سبحان الله الرابعة معدنية ،، نشاز ،،، رسم لوجه مكسر معلق على جدار دهنه متلاش ،،،، يدور ،، يدور كماموث ، ينتبه إلى حقيبته الموضوعة على طرف السرير ، يفتحها ، لا شيء ، سوى بعض أدباشه ،، لكنه يفتقد الآن كتبه و أوراقه التى تركها عند التى إلتهمت نصف عمره ،، و كابد نصف عمره أن يتقبلها كما هي، مراعاة للتقاليد ووووووووووو ، و لكنها كانت كتلة من العقد و كومة من أشياء أخرى ،،لذا بمجرد أن إستقرت في رأسه فكرة أننا لا نعيش مرتين ، حمل جثته و هرب بجلده منها ،،، و لكنه مشتاق لمكتبه و كتبه و كراريسه ،، إنه الآن ملغوم بكلام كثير ،، لابد له من ورق ،،القلم فر معه في جيبه ،إنه يريد أن ينفجر داخل ورقة ،،، يبحث في البيت عن جذاذة يكتب عليها ، حتى علبة سجائره فرغت فألقاها في الشارع ،،لابد له من سيجارة و ورقة .

أنفاسأرجعت لها خاتم خطوبتنا..امتقعت,وعصفت سحنتها الواجمة دهشة..أمسكته بأيدي راجفة..هوى أرضا..فدوي صداه في شقوق الأيام العاشقة..قلت لها:
اعذريني حبيبتي سأمضي...
إلى أين؟ سألت
أجبت: إلى حتفي..
يممت وجهي شطر مشنقتي..التي نصبتها منذ أن أحببتها..تعلقت بعنقي..قبلته بجنون..أسبلت جفنيها توسلا..سددت نظراتي نحو عينيها..قلت لها: يجب أن انتهي..
قالت:وحبنا؟
حبنا قصة حب يجب أن تنتهي..
أيادينا كانت في وثاق حاد..متشابكة كميثاق وعد أزلي..تلاشت أصابعنا في غمرة صهد الرغبة في الموت..أما صفحة الذكريات فقد تمزقت من حرقتنا..فصارت دخانا...

أنفاس "نادني من آخر الدنيا اُلبي، كل دربٍ لك يُفضي فهو دربي
ياحبيبي أنت تحيا لتنادي، يا حبيبي أنا أحيا لألبي
".
(فدوى طوقان)
كطوق نجاة أتاني صوته الواضح عبر الهاتف ينقذني من بحر الحزن الهادر، يغسل قلبي  من غبار الهموم ..
"يسحرني صوتها ، و رنة الموسيقى من  مخارج الألفاظ  تصيبني بعدوى الحيوية، لأعزف لحن أمل اللقاء المرتقب..
لم أعرف امرأة تشبهها، تضج أنوثة مجبولة بروح الحياة والمرح، يسكن داخلها تعب سنين مستتر، مجبولة بالطيبة، الأخلاق، والتضحية..!".
لم أصادف رجلا مثله،  يفيض دفئا وحنانا من الأعماق، يرتدي وجها واحدا، دون قناع
"سنوات طويلة، أستمد القوة من ضعفها، الأحلام من صبرها، الحب من عطائها.."
أعوام شرّع أمامي  آفاق المعرفة، منحني الإيمان بغدٍ ليس نصفه مر، وتحمل صعوبة أن يفهم الإنسان نفسه ويتكيف معها..

مفضلات الشهر من القصص القصيرة