أنفاسكنتَ جالسا هناك، ربما أمام مكتبك تتطلع إلى شاشة الحاسوب ببعض الفتور، تضع شبشبا ليدفئ قدميك، وبين حين وحين تمسد شعرك، تتناول شرابك وتفتح نافذة وأخرى، حين رقنت الكلمتين دون خطأ إملائي ودون نقطة نهاية..
وكنتُ حينها أسترق السمع إلى ضوضاء قلبي الغير المعتادة. وكان هو يسترق السمع إليك فلا يصله إلا الصمت. لا أذكر أي ليلة كانت تلك الليلة، فأنا أتجاهل منذ ابتعدتَ كل الأجندات.. لست معنية جدا بعدّ الأيام التي تبعدني عنك.
حاولت أن أعتبر انفصالنا حدثا عابرا. ابتسمت قدر ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وحين جافاني النوم وضعت اللوم على حالة الطقس أو فنجان القهوة الذي شربته عصرا.
لم أتصل بك مرة أخرى، فقد أضربت أصابعي عن تركيب الرقم إذ تجاهلتَ مجهودها وأناقتها وهي تنتقل بخفة على لوحة الهاتف لتركبه.
إذاً رقنتَ الكلمتين بيقين مطلق وببرود تام.
ربما تناولت كأسا بعدها ثم استسلمت لحلم سعيد. ربما تناولت هاتفك وركبت رقم امرأة أخرى..

أنفاسقصدت نزلا لتقضي ليلتها الأولى وحيدة,بعيدة عنهم جميعا.كانت الدموع تسيح من مقلتيها انهارا تتدفق  سيولا لتسقي بساتين خذيها  القاحلة.هالة زرقاء تحيط بألحاظها لتجعل منها كائنا تعتوره كل ضروب الألم الإنساني الفجيع.وجه حنون يشع بضياء قناديل الماضي الالق,يشي بمسحة حب غدرها الزمان والصقها نقطة  تائهة معلقة في الفراغ السديمي.يحاول نواس بندول أن يصل ساعات أيامها ولياليها كي يهز أرجاءها  بصخب رنين صاعق:لقد آن الأوان أن تستفيقي أيتها الغافلة... فما عاد الزمن في صالحك لتنتظري الأمل.تحركي صوب مصيرك ملئ إرادتك,رافعة راسك نحو الأعلى,بابتسامة عذبة نحو الماضي,فهناك في الأعالي وطنك المغترب ينتظرك مشرعا أراضيه ليحضنك حضن العاشقة التي  تركت  في يوم من الأيام ذكرياتها واكتفت بتلويحة من منديلها المضرج  بقطرات من دم الحيض الموعود ...  
كانت حياتها رتابة قاتلة تنتظر بفارغ الصبر منطقا يغير مسارها,ينعطف بها إلى سياقات مجهولة,يحكمها إحساس غامض بالتوتر,وغموض في اتجاه المسار وتيه في تساؤلات مؤرقة.كنت دائما أتسلل خلسة إلى منزلها لما يغادر زوجها البيت.كانت تنتظرني بأحر من الجمر,خلف الباب كانت تربض في انتظاري لساعات طوال.وقع خطواتي وأنا اصعد الدرج نحوها,يخلق منها شيطانة تحترق رغبة تودي بنا ونحن نتعانق إلى اشتعال حميمي يتوج بقبلات غادرة,تقضم العرف والأخلاق من أساسهما...

أنفاس- 1 -
لم يكن هذا الشعورُ جديداً علي، لكن شعوراً بالنذالة تملكني بقوة في هذه المرة. هل ثمة مَنْ يفرح لموت والده؟ أنا فعلت ذلك. حينما قالوا لي إنه مات شعرتُ بالفرح للحظة، ولم أستطع وقتها أن أخفي ابتسامتي، فأول ما خطر ببالي أن الأشياء التي أخاف منها في حياتي قد نقصت واحداً. أعرف أن احترام الأب واجب، ولكن ليس إلى حد الخوف منه، نعم خوف، ليس رهبة أو احتراماً بل هو خوف حقيقي.
كانت مساحة كف المرحوم تعادل مجموع مساحتي كفي الانسان العادي، وراحة يده لم تكن مكسوة بالجلد، بل بما يشبه الحراشف. لا أعتقد أنه فكر، ولو لمرة واحدة، أن الشيء الذي يضربه بهذه اليد كان وجه ابنه الوحيد، أغلب الظن أنه كان يتراءى له أنه يضرب جداراً أو شيئاً له صلابة البيتون المسلح.
أمي قالت لي إنه كان يخشى أن أصبحَ ولداً مائعاً كأغلب الأولاد الوحيدين، الذين يتحول حب آبائهم لهم إلى إفراط في الدلال، فيعتاده، ويدرك أن طلباته كلها مجابة، فيبدأ بالتمرد على والديه بعد أن يَبطر ويفسد، ووقتها إذا أراد الأهل إصلاحه أو إعادة تربيته، يكون الأوان قد فات. كان يختلق ذريعة ويضربني كلما تخيل هذا المشهد أمامه.

أنفاسالعم نهيان رجل اكتسب كثيرا من صفات الهيبة والرفعة، لما تعرض له من الأحداث الكثيرة فى حياته، والتي جعلت خبرته لا تقارن بكثير ممن يحملون شهادات عليا، ومتمرسي السياسة، وأصبحت له معرفة بالناس والمجتمع...
فالعم نهيان واكب عن قرب وجوها متعددة ممن حكموا البلدة، وكذلك ربطته علاقات متينة مع من قبضوا على مفاتيح الثروة والمال، وحكموا البلدة أيضا من وراء الكواليس..!! وها هو اليوم يجد نفسه حكما بين فرقاء اختلفوا فتعاركوا وتنازعوا فيما بينهم، فكادت أن تذهب ريحهم سدى، وذلك على قطعة أرض أصغر من "الغترة" (الغترة عبارة عن قطعة قماش حجم الكف)، على الرغم من تواجدهم فى بقعة جغرافية لا تكاد ترى على الخريطة الكونية المدرسية، تكثر فيها الأفواه التى لاتحتاج لخصام أو خطابات إنما تحتاج للدقيق..!! ويكثر فيها الفقراء أيضا..!!
فشياطين الجن تلبسوا فى كثير منهم، فخرج مزيج من عينات لاهي إنس ولاهي جان، شيطانية القلب والعقل..!! حتى أن البحر الذى هو أحد حدودها من المفترض أن يكون فيه الخير الوفير، أضحى مقفهرا كصحراء خالية، إلا من طحالب مائية، تخرج بين الحين والآخر على الشاطىء، فقد هجرته الأسماك والبحريات بأنواعها، ولوثت مياهه أنهارا آسنة من مخلفات بنى البشر، ومع هذا كله فقد تناحر وتجادل وتقاتل الأشقاء؟؟!!.

أنفاسفي مواجهة ساسة دور النشر في البلاد، تفتقت موهبة الوزيرة عن حيلة لا يبدع فيها إلا فنان، جاؤوها يشتكون كساد تجارتهم في زمن النت اللعين، فبادرتهم بالحل الذي نافست فيه إبليس الرجيم، نسيت أنها في حضرة عين الكاميرا المدفوعة الأجر لنقل مراسيم الاستقبال، فشمرت عن معصم للكوع لمع فيه دملج من ذهب أبيض ترصعه حبات ماس خضراء وحمراء: في عز تخوف العالم من كارثة أزمة اقتصادية كبرى قد لا تبقي ولا تذر، سنعلن عن مسابقة لنيل جائزة الوزارة في الإبداع السردي لهذه السنة،على أساس أن يترشح لها الكتاب من مختلف الأعمار، حرصا على الشفافية ودفعا لمقولة صراع الأجيال، لا شك أنكم لاحظتم طفرة الجراد من الكتاب خلال هذه الأيام، فقد صرنا بلد المليون كاتب بلا منازع، ثم استدركت : مع توفر شرط وحيد، يتمثل في تقديم عملين منشورين ورقيا في دار طبع وطنية، على أن يكونا حديثي العهد، بحيث لا يتجاوز تاريخ نشرهما سنة، وسترون أيها السادة كيف سيتقاطر عليكم هؤلاء الكتاب كالذباب في مأدبة اللئام، حين يعلمون قيمة جوائزها المالية، وما يمكن أن يرافق ذلك من توصيات لدى أكثر من جهة بتبني الأعمال الفائزة، سواء في المقررات الدراسية، أو في منتوجات الدعاية السياحية.

أنفاسلقد قتلتهُ وأمام أنظار ملايين المشاهدين.. هكذا بكل هدوء.. وأقفلتُ الخط.

كل البدايات رائعة وجميلة وهادئة ورومانسية وحتى صادقة، لكن العبرة بالنتائج!
شعرت بلحظة أن المكان ارتفع بي سابحاً في الفضاء الواسع عبر الأثير نحو تلك الأيام.. نافذة من الذاكرة تُفتَح على زمنٍ قد مضى.. انهُ الماضي يطرق أبواب ذاكرتي.. وأفتح الباب.. لِيُبحر بي زورق الذكرى في بحرٍ لا آفاق له.
دخل حياتي بتخطيطٍ مسبقٍ منه.. كنتُ حُلماً غير قابل للتصديق في خياله، وعندما اقترب مني بموعدٍ هيأهُ له القدر ما صدق بأنهُ أمامي.. تلعثم بالكلمات.. احمر وجهه وتفصد جبينه وتعرق جسده إلى درجة أن تبلل قميصه الأخضر. ما علِمتُ نواياه.. أراد مني حواراً في حينها.. أجبته بكل برود:
_ هيئ أسئلتك.
تألقت عيناهُ بالسعادة وهو يسمع موافقتي على إجراء الحوار.

أنفاسبصم ًالطيب ً على نهاية عام دراسي طويل، سلم كشف حسابه للتاريخ، خرج من الباب الكبير للمؤسسة بعد أن وقع محضر الخروج
ما أسرعك يا زمن بل ما أبطأ أفعالنا وأسرع رغباتنا.!
في نهاية كل عام، يستسلم الطيب لحالة من القلق المشروع، فتتناسل في ذهنه أسئلة كثيرة ملحاحة:
-  أتراني أتغير هذا الصيف لأصبح مثل باقي البشر ؟
-  أيعقل أن بإمكاني السفر هذه المرة ؟ لكن إلى أين ؟
- هل ثمة رابط سحري بين محضر الخروج والعطلة والسفر ؟
أسئلة لا تنقطع مع حلول كل صيف، وسوف تتكرر مادام التردد يسكن الفؤاد ويغزو الصدور.
هذه المرة سأسافر، ليس المهم إلى أين  ...قضيتي هذه المرة أن أتحرك..أن أتغير. تذكر الطيب بسخرية فوائد السفر التي طالما شنف بها أسماع مريديه الصغار، فكثيرا ما حاول إقناعهم بأن السفر ترفيه،وتعلم،وتدبر، وسياحة، وتنشيط، ومعرفة، دون أن ينسى تنبيههم إلى أنه أيضا قطعة من جهنم، وضحايا حقيبة السفر أكثر من أن يعدوا ويحصوا. هذه المرة سأكون كريما مع ذاتي، سأشبع حاجة نفسية عميقة ظلت تلح علي إلحاحا متواصلا.

أنفاسوقفت سيارة أنيقة بجوار رصيف قديم، وربما الرصيف الوحيد، يتشعب من دوّار صغير في وسط المخيم.. ومن السيارة نزل رجل طويل بشرته قمحية فيها سمرة طيبة، وكان منظره أنيقا.. وباين على شكله أنه رجل في غاية الاحترام وابن ناس طيبين، لابسا بذلة رمادية محبوكة على جسده وتزيد طوله الفارع، وتقلل رفعه الذي يبدو للوهلة الأولى أنه ممكن بيسر إدخاله في خرم إبرة.. وتكاد تخنقه ربطة عنق حمراء يتوسطها دبوس ذهبي لامع.. هذا وكانت سخونة الجو تسلق أجسادا تلهث منها الأفواه، وتتكتم في لهاثها الأنفاس، وتحمر للفحها الجفون. لمّا نزّل الرجل من السيارة رمى  بصره إلى اليمين، ثم سحبه وألقاه ثانية إلى اليسار، ثم أعاده وثبته قرب طرف الدوار في الجهة المقابلة، عند أول الشارع الذي نهايته توصل إلى وسط السوق.
 مشى الرجل عدة خطوات وئيدات فيها تردد، ترددها يقول أنه غريب عن الحي، مشاها على مهله في قلق وهو يتلفت لفتات حيرانة فيها ذهول، كأنه تائه عن مكان معروف.. لحظتها هبت الّسنة الناس الذين ينتشرون في الدوار بكلمات حانقة راحت تندفع من قلوبهم المعتصرة بالوجع، وعبارات غاضبة مكهربة كلها غليان، وعلت حناجرهم بهتافات راحت تنتشر كالرياح في شوارع الحارة، وتسري لعلعتها كأمواج متدفقة تتقوّس مع تقوّس الشارع، وكانت الآذان تلتقطها بغضب مستعر.