أنفاسهكذا تمضي الأيام
لست ادري بالدافع الذي يشدني لاجلس امام النهر متأملاً اندفاع الماء اللانهائي . كانت تمر علي عشرات الوجوه، تجذبني للحظات وانساها، لأعود أتأمل حركة الماء. وكثيرًا ما يعتريني شعور الوحدة القاتل، ولكني بقيت ملتزمًا لعادتي غير المفهومة.. احيانًا اقتنع باني الضائع الوحيد في هذا العالم؟.. او على الاقل في هذا المكان. وتبعًا لذلك استنتج بثقة اني التائه الوحيد امام هذا النهر.. وانه لا قيمة للزمن في حياة التائهين.
جميل ان يرى الانسان الوجوه عبر انعكاساتها في اعماق الماء. بعضها يبدو اكثر طولاً وبعضها اكثر عرضًا، ولكنها امور تمر بسرعة بحيث اني لا اتذكرها. احيانًا يخيل الي ان الجلوس أمام النهر هو حل شجاع لمشاكل الضياع .. المشكلة اني لا اشعر داخليًا بشيء.

أنفاسإلى القاص، الأستاذ  أحمد بوزفور
حذرته زوجته كالمعتاد، وهي تقرأ ليلة من ألف ليلة وليلة، بعدم النوم مباشرة، سيما وأنه تناول وجبة عشاء ثقيلة، لأن شخيره يرج الغرفة، يصم الآذان، وأضحى مصدر إزعاج كبير بالنسبة للجيران الذين ما فتئوا يطرقون الحائط المجاور لغرفة نومهم كل ليلة وليلة …
لم ينبش بأي كلمة، بل اكتفى بالاحتماء خلف نظارتيه الطبيتين السميكتين، من نظراتها الحادة، فأحس بتضاؤله وهو يندس بهدوء كبير تحت الفراش، موهما إياها بأنه يتابع على التلفاز  ،برنامجا وثائقيا حول الفراشات الليلية.. تسللت إلى خلده ذكريات الطفولة، وهو في البادية  ،كيف كان في غرفته البئيسة يتلذذ بمشاهدتها وهي تحوم وتبتعد، تقترب، ثم تحترق بضوء الشمعة، كان دوما يتساءل عن سر تلك اللذة في الاحتراق : الشمعة مع نفسها ، ربما غبنا لمفارقتها الشهد إلى الأبد، والفراشة مع اللهيب المترقص ، المليء بالنور ، والنار ،والدخان وكأنه قانون حتمي، فرضته لعنة الحب مثلا، أو الرقص، أو الجذبة، أو الموت … تساءل لماذا يتجمد الرقص في منحوتات الصخور ، والخشب ، والأقنعة .. وقد ارتسمت الدهشة على وجهه المتعرق ، كالسكون من ماء وطين.. مستأنفا تساؤلاته حول سر الروح  ،التي تنأى عن الالتحام بالجسد إلى الأبد، وكأنها مرآة للعبور إلى حيث تنمحي مسافة ما … شعر بدفء لذيذ يلف جسده، وبارتخاء غريب، فاستسلم ونام..

أنفاسهي تحدق في المعطف البني ،
وهو يحدق في صاحبته الشقراء ،
هي تتملى في أزاره الجميلة،
وهو في صدر صاحبته الناتئ.
ارتشفت المرأة من فنجان قهوتها ، ففرحت الزوجة لرؤية كم المعطف الآسر ، بينما كان هو يمج شفتي الأخرى مع قطعة سكر .
رن هاتف الحسناء ، فانتصبت في رشاقة واستدارت ، فأمسكت هي بيد زوجها في فرح طقولي ، وقد راقتها كثيرا فصالته، في حين أغمض هو عينيه فارا بلحظته  نحو الأعماق ، مستحضرا صورة دميته الفاتنة ، يتمنى لو أماطته عنها ، لتتخلص من ملاحقة نظرات زوجته اللعينة.

أنفاسانتفض المحراث الخشبي ، نفض الغبار وعش العنكبوت عنه ، وخرج ...
ووجدها كعهده بها تحت الشمس ممددة ، طرية ، طيعة تحلم بشيء
يخترقها على مهل ،ينغرس في اعماقها ، يرج احشاءها رجا ...
نظرت اليه فتورد خداها وارتخت جفونها وشعرت بالجفاف في حلقها ...
وانتصب ...
فتمايلت الاشجار وتعانقت ..
وغنت العصافير اغاني الحب ورفرفت بالمئات ، بالالاف فوقهما
تشكل غطاء يسترهما ...
اما الشمس فقد اختفت وراء غيمة على شكل قلب ...

أنفاسفارغة هي من كل مايشغلها..لا تعرف كيف اتسع الفراغ داخلها إلى هذا الحد..تحاول أن تتجول في أنحائها لتخرج بفكرة أو صورة باهتة لذكرى فلا تجد..هل توقف عقلها؟؟لم تعهده هكذا من قبل  وهو الذى لايكف عن النبض..نعم النبض.. لايكف عن العمل ولا يمل من مد يديه فى أحشاء الماضي و إلى عيون الحاضر و بين صفحات المستقبل البيضاء..يرتحل من هنا إلى هناك في طرفة عين ثم يعود أدراجه محملاً بما تمليه عليه حالته المزاجية..ولهذا فقد أعفى القلب من مهامه ويقوم بضخ المداد إلى أجزائها المرئية واللا مرئية.. اليوم  هو مختلف..شلل ما يسيطر عليه فيستسلم له دون مقاومة تذكر..محاولات محتضرة لتشغيل محركه الذى لم يتعود السكون حتى فى قلب الحلم أسلمت الروح دون أن توصي..
قررت الخروج من الفراغ مع سبق الإصرار..أسلمت أصابعها للوحة المفاتيح دون أن تشترط أو تملي عليها ماتقول..اندفعت الأصابع تشي لشاشة حاسوبها بكل مايدور فى الرأس المواجه لها دون تفكير..فاجأتها صورة حبيبها ..توقفت قليلاً تسترجع ماتفعله به..لماذا تعذبه وهي تحبه؟؟؟ماذنبه هو في تقلبها الذى لاينتهي..اليوم خيرها بين المكث معه وبين الحرف ..حاولت استرضاءه  وهي متعلقة بأذيال حرفها فلم تفلح...أغلق بابه دونها وتركها غارقة فى تيهها.. بينما فر منها الذى أغضبت حبيبها من أجله مخلفاً إياها تسبح فى أمواج الخرس...

أنفاســ" هل من مزيد ... ؟ "
ــ ط ..... "
و ركض النادل يلبي الطلب ، و انبطح آخر شعاع صريعا وسط الأهداب المنتوفة ، و انحجبت الشمس و انطوت الجدران الصلدة المغلقة من دون نوافذ على أنوار المصابيح المغبرة و دخان السجائر الرخيصة و رائحة العرق و الكحول و القيء الممزوجة برائحة السمك المقلي و بودر المومسات ... و غاص كل شيء ، و تولد خيط رفيع امتد حابيا مع طبقات الخنق و هستيريا من القهقهات الفظيعة و الثرثرة المحمومة يربط أجزاء هذا العالم المكهرب ببعضها ...
ــ ” و أنت ... “
ــ ” أنا ... ماذا ؟ “
ــ أنت تنزوي في الركن ، ظهرك إلى الحوت السابح في زرقة الجدار وراءك .. تتملى صورة أمامك و حواليك .. لوحة رائعة من دون شك .. يونس ينجو من جوف الحوت لتوه ، لكنه يستقر في قاع البحر ... تصفيق !

أنفاسدلفت إلى المقرخلفه..متباطئا ومرتبكا..رائحة الثورة تنبعث من هذا المكان ..صور شاحبة للذين قضوا دفاعا عن حلمنا.. ووهمهم ! أشار إليهم بزهو قائلا : إنهم الآباء !..انتابني ريب في شرعية الانتماء .. لا أحد منهم تبدو عليه سيما الثراء و الرفه !..ملامح رجولية غاضبة..قسمات تنبض بالعنفوان !
 ..دعاني بلباقة الى الجلوس ..وشرع يفك  طلاسم المرحلة !..كل خيوط  الأحداث تتشابك لتمنح حزبه العتيد أهلية الحكم ..ولذة الوصاية على ملايين البسطاء !
أنا ابن الكادحين !..هكذا قال ..ثم شرع بحماس ملفت يرتل آيات كفاحه المرير ..
نشأت فقيرا كشأن السواد الأعظم في بلدتي ..بيت متواضع يعوله اسكافي منهك.. تحملت شظف العيش أملا في مستقبل أفضل.. يشهد أساتذتي اني لم أكن سطحي الفكر كـأ ترابي, فطرقت باب العمل الحزبي وانا دون الثامنة عشرة, ونلت قسطا اوفر من المضايقات والاعتقال و التنكيل و ملاحقات المخبرين لسنوات طوال فآثرت الهجرة الى الخارج حيث لا رقابة على الفكر الحر !! وها أنذا بعد عقد ونصف ألتحق بزمرة الكادحين لأمنحهم عيشا أفضل ! .. ويسارا يليق بالمرحلة !

أنفاسفي ذلك اليوم لم تكن وحدها ، نظراتها التائهة في مقر عملها هي نفسها التي كانت في الطريق .. بحثَتْ عن شيء في الطريق لم تجده رأت الناس يتحركون بسرعة ..شعرها يلاحقها متعبا و هي ممعنة في سيرها ..انتبه إليها البعض ..دلفت المقهى أرادت أن تتملى الأشياء والكائنات ..لم تكن وحدها ..كانت معها نظراتها الخضراء و شفتاها المستلقيتان تحت أشعة شمس الشتاء بتعنت و الملتحفتان بأحمر الشفاه ..تبحث عن شيء بلا هوادة تلتفت يمينا وشمالا تقف عند محطة الحافلة تنتظر شخصًامَّا.. مازالت تلتفت ..ربما تأخر في المجيء ..حذاؤها الإيطالي بكعبه الرشيق العالي يمعن النظر من عليائه في المارة علَّه يجد أنيسا ينسيه ملل الانتظار و عفن الاسفلت الرديء لكنه يتحرك في النهاية مواصلا طريقه ..شامخة هي و جذلة تواصل طريقها تلاحقها خصلات شعرها الكستنائي ..صدرها يهتزّ بحرية جميلة  كلما نزل حذاؤها من على الرصيف ..عيناها ماضيتان بكل قوة و إصرار إلى الأمام .. هواء الشتاء البارد ينزلق على خدها ..يحاول الانتظار بدوره قليلا عبثا يواصل طريقه حاملا معه العطر الفرنسي الهادئ ..تتوقف عند حديقة عامة مازالت تلتفت بتوتر ..لاأحد هنا ترفع نظرتها الخضراء إلى الساعة الدائرية الباردة ..إنها الساعة العاشرة ..تُحكِمُ ياقة معطفها الأسود على عنقها و تواصل طريقها ... هذا الطريق الأخاذ لمْ تنسه تمشي بخطوات ملتفتة مازالت تبحث أو ربما تنتظر ..الطريق الطويل لم يتغير والمارة فيه عيون متحركة أنهكتها الأيام ..