أنفاسمضى الى عمله ذات صباح مبكرا كعادته
كانت الأيام لديه متشباههة.. نفس الوجوه ونفس الأحداث كأنه ميقات معلوم
كان ينتظر طوفانا ً يجتاح خموله ونمطية الأشياء
شيئا ً يجعل الوجوه العابسة كأنها حزم أقمار
شيئا ً يحيل التقاليد البالية أجمل ابتكار.. ويحيل الجداول الزمنية المجهزة مسبقا ً الى أحلى المفاجأت
تتشابه الأشياء فى بلادى كأنها نقوش على أحجار صماء
كان يريد أن يتمرد على تقاليد القبيلة.. كان يشتهى العشق
كان يشتهى الجنون والعزف على أوتار من نار

أنفاسأصابعها تلا مس ُ بعطف ٍ وشوق ٍ أضلع َالبوابة ِالخشبية ....خطوة ٌ واحدة ٌفقط....
دفعت ِ البوابة َالخشبية َوتسللت ْكطفلة ٍصغيرة ٍعلى رؤؤس ِأصابعها ....لم يكن ِ الخوف ُالذي جعلها تفعل ُ هذا بلْ هناك شيء ٌ أقوى وأمتع
كانت ْ تخشى أن تترك َ مهمتها للهواء ِ.... للغبارِ....للرمل ِ لتقرفص َوتقطف َ كالعادة بضع زهرات ٍ برية ٍملونة ٍنمت ْهنا بين قطع ِالبلاط ِ الموزعة بعناية ٍ ودقة ٍعلى طول ِمدخل ِ البيت ِ أو ربما ذهبت ْواستسلمت ْ لخريرِ تلك السّاقية الجميلة التي وقعت ْفيها مرات ٍعدة ْوهي تطارد ُضفدعا ً أخضر مشاكساً يراقبها بعينيه ِ الكبيرتين كملعب ِ القرية ....هكذا كانت تقول.... تبرر سقوطها لأمها الحزينة المغتاظة (هو اللي بدأ )
كان َكل ّشيء يوشوش ُ حواسها يقول لها:أهلاً بك ِ...تعالي إلينا
لم تضعف ْ أمام َتوسلات ِ كل ّ ذرة ٍ في جسدها وعقلها وقلبها لتترك َ مهمتها وتلاحق َ طفولتها
هي فرصة ٌ ربما لن تتكرر أبداً

أنفاسكان مستغرقا في عالمه المغلق على ذاته..يستلهم تجربته ويستوحي تأثيراتها العميقة على نفسه..يلفه الهدوء وتغشاه السكينة..ثم سرعان ما يضطرب في حركات لاإرادية وتصدر عنه أصوات كالهمهمة حينا وكالهذيان حينا آخر..كان كأنه في حالة مخاض استعصى فيها الطلق وامتزج فيها الألم باللذة..ألم انفصال كائن جديد عن ذاته ، ولذة إعطاء الحياة لهذا الكائن الجديد..أصبحت هذه الحالة مألوفة لديه ، فاستأنس بها واستأنست به..أصبحت تلازمه كلما خلا إلى نفسه وشرع في كتابة قصيدة شعرية جديدة..لم يعد يذكر كم من الوقت مر عليه وهو على هذه الحال..ولا يريد أن يذكر.. فكل همه الآن هم اكتمال شروط الوضع وحلول لحظة قطع الحبل السري بينه وبين مولوده الجديد ، ليخلد إلى الراحة بعض الوقت قبل أن تعاوده الحالة من جديد..
كان منقطعا إلى عالمه السحري هذا عندما سمع طرقا على الباب..بدأ الطرق خافتا وهادئا ، ثم أخذ يعلو ويشتد مع مرور الوقت..أحس وكأن ماء مثلجا قد صُبَّ عليه من رأسه حتى قدميه..خمَّن أن يكون الطارق صاحب البيت جاء كالعادة يطالبه بالمتأخر من مستحقات الكراء..ظل يماطله لعدة شهور، ويَعِده بقصيدة مدح عصماء ترفع قدره بين المُلاك المنافسين له ، وتحقق له نوعا من الدعاية ليتهافت على دُوره الراغبون في الكراء..وهو يضمر له في قرارة نفسه قصيدة هجاء مذقع تفضح جشعَه وتكالبَه على جمع المال وقلة صبره على ذوي العسرة من أمثاله..

أنفاسأخذه التفكير طويلا وهو في حالة استرخاء على السرير الخشبي، لم يحدد قراره النهائي بعد، هل سيترك مسقط ويبتعد عن عمله الشاق؟ هل سيترك ابنة خاله التي تعلق بها قلبه؟.
تذكر أول يوم جاء فيه للعمل في الشركة الكبرى لتصليح السيارات برفقة صديقه " سالم"، أبهرته مسقط بما تحتويه من مناظر وشوارع، أعجبه تناسق المباني والبيوت البيضاء، كانت مسقط تحتفل بالعيد الوطني التاسع والثلاثين ...مسقط عالم جديد في مسارات حياته، لم يستطع الاندماج فيه والتكيف مع مزيج البشر القادمين من عدة ولايات ومناطق، وهو القادم من القرية، يجد نفسه مندهشا أمام كم المتناقضات العجيبة في هذه المدينة، كل شي فيها يلهث وراء المجهول.
 لم يشعر بالأيام فقد مرت سريعا، قضى وقته بين العمل صباحا في أحضان السيارات وفي المساء أشغله التردد على بيت خاله، يجالس الخال وابنته وهو الذي لم يحادث أي بنت قط، فاجأته في إحدى الليالي إنها لا تحب القرية والنخيل والبيوت القديمة والناس البسطاء، فلا تتصور يوما العيش في القرية وترك أجواء مسقط والمجمعات التجارية وصالونات التجميل، عندئذ أدرك مساحة الهوة بينه وبينها، وحجم الغربة في وجدانه بسبب هذا المكان، وزادت تصرفات ابن خاله المنحرفة شعوره بالضيق، يراه دوما في حالة رثة وملابس عجيبة وروائح كريهة، يصل البيت متأخرا، يتقزز منه عندما يرى حالة الشجار والصراخ بينه وبين أبيه.

أنفاسكنت – أنا – إلى حدود يوم الأربعاء الماضي مواطنا عاديا جدا : موظفا في الرابعة والثلاثين من عمري ، أقضي جل نهاري وراء مكتب قديم ، منكبا على ترتيب الملفات والوثائق ، وكنت منعزلا ومنطويا على نفسي ، أتفادى ما أمكنني معاكسة الآخرين في الحديث وفي الرأي وفي كل شيء ... فهزالة جسمي غالبا ما كانت تغري بي المختلفين معي فلا يترددون عن التعنتر علي وضربي بسادية غريبة ... وأعترف أنني عدت مرات إلى المنزل في حالة يرثى لها كما يقولون ، يحمل جسمي في أكثر من موضع كدمات وجروحا ، فتسارع أمي إلى مساعدة زوجتي لتنظيف الجروح ووضع الدواء الأحمر والمراهم عليها ، في جو من اللعنات والدعاء على ضاربي ، وعاصفة من التعنيف لي ولومي على التدخل فيما لا يعنيني وما لا طاقة لي به ... هكذا كان دأب حياتي إلى حدود صباح الخميس الفائت . كنت أنتظر الحافلة للتوجه إلى العمل ، ولما بدأ هطول المطر، اتخذت لنفسي مكانا على المقعد الطويل المظلل بصفائح الألمنيوم اتقاء للمطر ، جاءت "عائشة الكحلة"وأمرتني بأن أخلي لها مكاني لتجلس فيه هي بعجيزتها العظيمة ، فهي امرأة ومن اللباقة أن أتنازل لها عن مكاني أنا الرجل الشاب ، ولأنه كان هناك شبان آخرون جالسين، ومنهم من يملك مظلة لاتقاء المطر، فقد رفضت أن أتنازل لها عن مكاني !

أنفاسقبل هذا السقوط الجذاب لألوان شمس تحرسني و أعرفها .. لمع نجم في يسار المدينة .. لكنه نجم كباقي النجوم التي مرت من هنا .. لم يقو هو الآخر على هدم تماثيل القرية .. فخان العهد القديم .. حين صدق القمر .. و أفرط في مدح بحور الخليل .. و صعد إلى أسفل الجحيم .. فوق جسر هرِم معلق بخيوط من حرير في قمة هذا الهَرم .. هي الآن حروف تمضي  في حماية وضع حافل بمجاهل كوابيس الأمس .. قلت و قالت معي فراشات البحر القادم : لا فرق بين ألوان شمس أخمد لهيبها فيضانُ الثلج ..
 لكِ مدينتي الفاتنة العينين جلالة المساء .. و لك صفاء هذا السكوت المحمل بغيمات حبلى بأمطار الحجر .. عني الآن تزدادين  ابتعادا و أحيانا تتواري عن أنظاري إلى حد لا يطاقٌ .. حيث  وجدت نفسي اليوم أتيه بين أدغال ركض أزرق لأجسام هذي الطريق الطويلة المزروعة بأنفاسي . . هي ذي الآن تبدو لي المقاهي مكعبات ثلج مصقولة الكراسي بنظرات روادها المدعوين لمداعبة مدخنات يبس أزمنة عنيدة  . . أكره تحديقات صديق  مستلب الذراع .. و بالحروف المتنازعة و المتقاطعة .. كأحلام الجراد في جريدة حزبية مكبلة الصوت بترديد إملاءات الأقمار العارية إلا من غصن توت تدمع عيناه ..

أنفاسأتته بكامل زينتها دون موعد فكانت مفاجأة  أن تدخل عليه في مقهى الانترنت حيث يشتغل. كان منزويا يقرأ كتابا إلكترونيا رغم ما قد يشكله ذالك من عظيم خطر على عينيه.
في اللحظة التي وصلت كان يقرأ قصة مثل عربي أثير إلى قلبه-أكلت يوم أكل الثور الأبيض-
بعد التحية ومدح المفاجأة انقلبت فرحته خيبة ابتلع ريقه ليتجرعها :
قالت : -كنت على موعد مع صديقتي كريمة وقد تأخرت وقلت لا بأس من انتظارها هنا.ثم أضافت:لقد اشتقت إليك، ما أخبارك ؟
أجاب بأنه بخير وعلى خير وانه اشتاق إليها وأنه وانه....
في أعماقه تحسس ثقل السؤال جاثما على صدره :        
(أكل هذه  الزينة من اجل كريمة؟)

أنفاسإلى اللقااااااااء...».
صاحت الأفواه الصغيرة متلاحقة تنفذ واجبها اليومي المقدس، فجاءت العبارة شاردة، متعثرة وساحرة. لفظتها شفاه صغيرة مازالت تتحدى رخاوتها لترويض الأبجدية.
تلك عادتهم حين يخرجون من الروض كل مساء.. أطفال بطراوة الخيزران، يتسابقون ويتدافعون،  وبمجرد ما يتجاوزون الباب يطلقون من حناجرهم المنهكة بالأناشيد وعد اللقاء، وينطلقون منتشين بالانعتاق من طاولاتهم الخشبية الصغيرة. فتسبح العبارة في الفضاء كغمزات النوارس. وينتشرون في الأزقة متوجهين إلى بيوتهم كفراشات ملونة.
غدا خروجهم مألوفا لدى المارة والجيران. وأضحت وشوشاتهم وهتافاتهم لازمة يومية، تنبه الخاملين في غفوة المساء، وتذكر النسوة العجائز بموعدهن اليومي، فيأتين إلى متربة الروض، بعد فراغها، ليكملن النهار بالثرثرة ومشاطرة الأخبار والأسرار "العجوزة".