انفاس...إنها الليلة الثالثة التي أبيت فيها ساهرا ذاهلا مترددا: أحفر أو لا أحفر..والعام الجديد تقترب بدايته بسرعة ما كنت أتصورها قبل هذه الليالي أبدا..و..
أتذكر أنني حملت الفأس أكثر من مرة ، وتراجعت عن الحفر أكثر من مرة أيضا عندما حلت بداية السنة الماضية..
أذكر أن أخي الذي يليني مباشرة في ترتيب ولادتنا حاول نزعها مني مرارا دون جدوى..
ترجاني إعطاءه الفأس ولم أعطه..قال: إذا خفت هاتها ، اترك الأمر لي ، سأحفر بدلا عنك .. لكنني لم أعطه..
منذ الصباح حتى بداية اليوم الثاني وأنا أرفع الفأس وقبل أن أهوي بها على الأرض أتراجع .. ويصيح أخي: هات الفأس .. هاتها..
حين انتهى اليوم الأول تنفست الصعداء وانسحبت خجلا ..ولم أعد إلى البيت إلا بعد أيام..
احتج أخي كثيرا.. حملني مسؤولية عدم الوفاء بالعهد .. وجر باقي أفراد الأسرة إلى تحميلي المسؤولية ..

انفاسكان نهارا حار ا وأنا وطفلتي رؤيا التي تبلغ الخامسة من العمر متوجهين نحو جزيرة (بويوكادا) في رحلة بعربة يجرها حصان . جلست في الخلف وكانت ابنتي تجلس بمواجهتي وكانت تنظر إلى الطريق الرئيس وقد مررنا بحدائق مليئة بالأشجار والأزهار وبالجدران الواطئة والبيوت الخشبية ومزارع الخضار .
وفيما كانت العربة تتمايل في الطريق كنت أراقب وجه ابنتي باحثا في تقاطيعه عن بعض الأحاسيس فيما تراه في هذا العالم من حولها .
الأشياء، المواضيع، الأشجار والجدران، الملصقات، الشوارع والقطط. كان الإسفلت حارا كما لم يكن من قبل ثم بدأنا نرتقي التل والجياد مرهقة والحوذي يشد سوطه.
تباطأت العربة، نظرت إلى البيت كما لو أن العالم يتدفق بعيدا عنا وبدا كما لو أنني وابنتي ننظر إلى نفس الأشياء .

انفاسطفلة
الطفلة التي تمرغت في رمال الحزن، لحظة أن أبصرت الصاروخ يسقط بين أخويها، أنجبت طفلاً مجنوناً يحمل بين كفيه البندقية.
بنت مجنونة
حين خرج جميع أفراد المنزل هلعين، ترتعش أقدامهم، وتصطك أسنانهم خوفاً ورعباً من سقوط الصاروخ قبل انتهاء الدقيقتين، التي أمهلهم إياها رجل المخابرات للخروج من المنزل، فوجئوا بعد القصف بأن صغيرتهم ولجت المكان دون إذن من أحد وحملت دميتها مبتورة القدمين، ثم خرجت بحمَّام من الدم.
طفل
سقط مسجدنا مضرجاً بحجارته، وبات علينا أن نصلي في الفضاء الرحب، الفسيح. وفعلنا، كنا نصلي بجوار الركام الذي تناثر كالمطر ساعة أن تهاوت مئذنة المسجد وقبته الخضراء.
.. في البعيد كان أحد صبية المخيم يحمل بين كفيه غمامة، يغطي بها روح أبيه الذي ما يزال ساجداً حتى اللحظة.

انفاستلح علىّ رغبة لا أستطيع تأجيلها،تدفعني أحياناً وبقوة لأن أفعلها نكاية بأبى،لكنني كلما تجرأت على فعلها،أفاجأ بوجهه يحتل المساحة الفاصلة مابين ناظري وعدستي نظارتي الطبية،يحرمني من ممارسة متعة تلك الرغبة،وعلى الفور يتوقف جريان نهر لعابي غيظا ًوخشية.
ولأنه يمتلك كل أدوات الردع وأساليب العقاب بحكم منصبه ـ كزعيم قبيلةـ ولأكون عبرة لكل من تسول له نفسه ـ مثلى ـ على رفض قانون القبيلة وفلسفتها،يصدر أوامره وبلا شفقة لرجال رعيته بربطي إلى جذع شجرة الجميز،السامقة أمام"ديوان"القبيلة، والماثلة على الدوام أمام عينيه كعقاب على ذنب لم يرتكبه.
ربماـ بغباء منى ـ قطعاً لا أقصده،منحته فرصة كم انتظرها لكي  يتخلص من كلينا،أما أنا فبسبب ـ كما يعتقدـ طعني شرف البداوة فى مقتل بزواجي من"حضرية"لا يمل إعلان ندمه على مشاركته في تلك المؤامرة،وأما شجرة الجميز الشاهدة على انتصارات جدي القديم ومجده المهدد،لم يزل رأسي الغليظ ـ كما يعايرني دائماًـ عاجزاً عن معرفة سر كراهيته لها،وتعلق روح أمي بها..؟!

انفاسعلى شط البحر وقفت تودع حبيبها الصياد ، كل عبارات الحب قيلت في هذا الوداع، ليست هذه أول مرة تودعه فيها، و لكن قلبها يحدثها بأنها قد تكون آخر مرة. البحر بالمقابل اعتاد أن يتابع هذا المشهد بحقد و كره ، غير راض و لا قابل أن يقتسم معه هذا الصياد الحقير قلب الفتاة التي تمناها ، فأمواجه تتلاطم بقوة و تزداد علوا متوعدة الصياد المحب بنهاية حزينة.
الحبيبان يتعانقان فوق رمال الشاطئ الدافئة غير عابئين بما يضمره البحر من توعدات مخيفة ، يتراءى خلف ظهريهما خيال الأمواج المنتظرة لخطوات الصياد الأولى. الكل حاول تنبيه العاشقين إلى لغة البحر المهددة، الرمال تنتفض ، الأحجار تتراقص ، حتى طفيليات البحر التي رماها إلى الشاطئ تحمل للصياد و حبيبته نذير الوعيد الشديد.
البحر يحب الفتاة و يغار عليها من ذراعي الصياد المعانقة المداعبة، لا يريد أن يرى منظر الحبيبين و هما يمارسان طقوس الحب ، يشيح بوجهه عنهما ، يحمل هدير أمواجه آهات معاناته ، كلما لمست المياه رجلي العاشقين إلا و أنبأتهما بمكنون ذلك الكائن العظيم ، لكن نشوة الحب تسمو بهما إلى عوالم ملائكية لا تترك لهما أي اتصال بما يجري فوق الأرض.

انفاسيقف أمام المرآة، يهتم بترتيب هندامه وتمشيط شعره، قبل أن يقذفه الهم نحو رحلة مملوءة بالتعب والمعاناة...هذا يومه الخامس منذ عودته من " دبـي "...لم ينم جيدا سوى ساعتين فقط..ليودع بذلك أيام الراحة والهدوء...بل آذاه انقطاع الكهرباء وأصوات الرصاص ...أشعلت القذائف سماء بغداد... لتشتعل في داخله نيران الأرق...يبتلعه الظلام الدامس ...يدثره السواد...ويزيد خوفه وحشة المكان.
لم يهمل المرآة كعادته، بل شده الغبار العالق على حوافها، ثم أمعن النظر إلى وجه المصاب بالذبول...تعجب من بروز صلعته وهو لا يزال على أعتاب الثلاثين..لم تدع له قسوة الظروف سوى شعيرات قليلة حتى توقظ أوجاعه الدفينة وتطرق أبوابه المغلقة، أكتشف إن أشياء كثيرة انسحبت من وجهه....أراد الهروب من مصارحة نفسه...لكنه أدار وجهه عن المرآة بسرعة...انتعل حذائه المهترأ....يتثاقل في المشي...ويستصعب الخروج من البيت...بغداد لم تعد آمنة في نظره...إذا لماذا قرر الرجوع، تتساءل نفسه: أهو الحنين إلى بغداد التي ترعرع في حواريها العتيقة ومدارسها التاريخية، أم هو الشوق إلى مقامات أوليائها ومراقد أئمتها.

anfasseانقطع التيار فجأة، فأسدل الليل ستائره وراح الصمت يغرس نابه منقضاً على ضجيج ٍ أبكم، تقوقع الجميع مكانه ساكنا لا تسمع إلا همساٌ، بكاء الصغار يقطع أنين السكون، وصوت ارتطام كرسى بصاحبه يأتيك من طرف خفى، واجتمع محاقُ الشهر وبرده مع غضبِ عواصفٍ، ورابعهم قيلولة التيار، تحولت القرية إلى أشباح وآذان صاغية، هدأ صوت الأطفال رويدا على ثدى أم التقطه جزعا لا جوعا، أو فناء شمعة تطعمنا نورها ليذوب داخلنا مانحا أمانا ودفئا نلتمسه .أهاج الظلام فى النفوس نوماً غير مأمول، وحرك فى آخرين يقظة أفئدةناسكة، أوشهوات مسعورة مكبوته، والتمست مذياعى القديم تريد أركانه أن تنقض، يقيم أوده أستيك فقد صفته حتى لا تخرج أحشاءه، ورحت أستجديه يسامرنى ظلام ليلى...أدرته برفق...أخرسه الليل، هززته بلين كى ينفض ما علاه من قسوة الهجر...أبى نطقا كمن يعاقبُ حين مقدرةٍ، رحتُ أتحسسُ بطاريته فصرخت وتقيأت بصدأٍ وصديدٍ فى جوفها وفاض ليعدى جيرانها، انقطعت أمعاء الرجاء لدى فى صديق أصارع معه أبابيل الليل العاصفة.

أنفاسفي تلك القرية الآمنة, حيث القلوب فيها هي الدليل إلى كل شيئ , لم يكن هناك حاجة لأنوار إضافية تضيئ الدروب , فالناس كل الناس أدمنوا تلك الزوايا والدروب, فكانوا يمشون مسترشدين بإستبصارات داخلية لايعنيها أي أضواء خارجية قد تزيد الطرق المرصوفة بالحب ظلاماً .
كانت الأفراح تقام على أضواء معتقة في زجاج قديم أمام إحدى دور العبادة , فيصبح أي فرحٍ عبارة عن تراث مقدس , يرتبط بالروح لا بأي شيئ آخر , ولذلك كانت أفراحاً حقيقية و سعيدة.
وكان التواصل روحاً لروح , لا يحتاج لأسلاكٍ ومحطاتٍ ومراكزَ خدمة،وكان اتصال الانسان بداخله هو ما يميز تلك البيئة وهذا المكان، و لم يكن الناس يحتاجون إلى كثيرٍ من المكر والدهاء والفكر ليصلوا إلى غاياتهم .وربما كما يقول أحد الفلاسفة , الحكمة و السعادة كانتا تلازمان الانسان منذ بدء الخليقة حتى تطورت لديه القشرة الدماغية المفكرة فغدا بعيدا عن الحكمة وبعيدا عن السعادة....