anfasse.orgأنظر.. كيف جرت الأمور  على نحو غير متوقع! تراها بوادر كسادك الأولى منذرة   في الأفق ؟ أم  دب سوس عارض يمتص الرحيق.
فما عادت رغباتك الخالصة محضرة لديك ؟ ها أنت ترى بأم عينك ما يحدق بك . انقضى نصف ساعة شطبت خلاله خمسة أسطر على ورقة عريضة.  لم ينج من سن قلمك سوى نصف سطر!..
- نصف سطر بنصف ساعة !؟..لا..لا!..أنا كاتب فاشل بكل المقاييس.!  قلت ذلك بعصبية فيها حنق. لو لا حرص شديد بدا عليك، وقد حسمت أمرا تعلق بنشر ما ستكتب بمجلة أنوثة.*
لاسترداد مزاج ، تنظر إلى المنحوتة الساكنة  على يسار مكتبك . بين الفينة والأخرى ، تمرر أناملك على تعرجات شكلها الأنثوي ووجهها الوضاء . ثم  تسيح...أليس  لكل هذه الفتنة من طيبة ترجى  ووفاء يذكر ؟
 لولا تواطؤ حصل بين أزميل وفنان، لما تم هذا ولا مكن للفتنة أن تنفث سحرها إلى أغوار الناظر إليها. وإلا ما سر هذا الحجر الذي سكنت به أنثى تضع الذكر في متناول ألف رغبة للعثور عليها ؟...

أنفاسكم وطأتني الاحلام .. وأنا أنوء بحملها .. أطنان .. أطنان من الاحلام .. تثقل كواهلي .. لكنني استمريء ذلك والوذ بألمه .. فأنا عاشق متيم بالحلم ..فحياتي صحراء قاحلة ليس لي فيها سوى حلم هو عبارة عن واحة خضراء وسط بحر من الرمال السافية .. حتى صار عندي الحلم كالروض في العام الارمل !! . بل صارت حياتي ماءاً راكدا أخشى ما أخشاه أن يأسن اذا ما ضيعت احلامي .. كأن حياتي وقوف في قلب الصحراء تنتظر السحابة ـ الحلم ـ : (( غيمة محلاة بالبرق في وسطها واطرافها تمطر بماء الورد من طل وطش .. وتنثر حصى الكافور كانه صغار البرد . )) .
بل رحت اعتقد بان نهاري بدون حلم كنهار لم تنضخه الشمس ولم تنديه السحب ، وليلي بدون حلم .. كليل لم تطرزه النجوم .. ولم يفضضه القمر . عدت ادراجي الى البيت تتقدمني خيول الاحلام الوردية .. واجر خلفي قطارات الاحلام الكسيحة .. وانا اترنم هياما بحلمي بقول الشاعر : ـ

يامن اياديه عندي غير واحدة  ..
ومن مواهبه تنمو من العددِ

أنفاس-1-
مناضل
 
أخذوا أطفاله للضغط عليه وحمله على الوشاية برفاقه والاعتراف بما لم يقترفه فهز كتفيه وقال:
- سيعلمونهم الثأر للحق، سيعلمونهم الانتقام!
هدموا بيته فهز كتفيه وقال:
- قبرُ الدنيا: مجرد قبر!
احتجزوا سيارته فهز كتفيه وقال:

أنفاسالتقى الصديقان بعد غياب ...
-أهلا بوبي ...
-مرحبا روكي ، بالأحضان يا عزيزي ...
-لا ، لا، أنت تعرف كرهي لهذه العادات البشرية السيئة...
-أين غبت أخيرا؟
- كنت في زيارة للوالدة ، ببلدتنا النائية...
-ولم تصلك الأخبارالخطيرة طبعا ...
-لا، لا، ماذا وقع ؟
- انتشر مرض خطير يسمى انفلونزا البشر ، فأصيب الكثيرون منا...

أنفاسفرشت السجادة المصنوعة من السعف وسط المجلس(1)، سجادة والدي التي ظل يصلي عليها حتى آخر لحظة، لا أنس لحظات رحيله، حينما حاولت إيقاظه لصلاة الفجر، رأيته يحلق في عالم آخر .. تمسكان يداه بالمصحف ويرسم وجهه ابتسامة المؤمنين.
لم أبك عليه وظللت مذهولا، ليستغرب الجميع من صمتي المطبق، تزعمت مأتم الموت، وتصارعت أشياء متباينة في داخلي، رفضت تفسير السكوت الطويل، ودارت سيول من الأسئلة في ذاتي: هل يبعثر الحزن نفسي؟ هل تعذبني أهوال الموت؟
توقفت عن التفكير لعدة دقائق، حتى لا استرجع الذكريات الأليمة التي تعج بها حياتي..أردت التفرغ للصلاة..صليت..ركعت..دعوت الله..لتغزو أحاسيس الراحة والطمأنية أرجاء جسدي.
انسلت سريعا تلك الأحاسيس وطغت الذكريات المرة على تفكيري، أفكر برحيل والدي، ترك أحمال ثقيلة، وخلف هموما كبيرة، ينتقل بصري بين الدكي(2) المتناثرة في كل المجلس، تذكرني الفواله (3) الموضوعة بقرب الباب بأصدقاء والدي الذين كانوا يأتون إليه من كل حدب وصوب، أين هم؟ اختفت أحاديثهم وانقطعت زياراتهم.

أنفاسكلما أردت الاستيقاظ غلبني التثاؤب .. تثاقل وإحساس بالعدمية ..
 هل صباح ذا اليوم كسالف الصباحات؟؟
يحاصرني البيت بأثاثاته وحيطانه المتآكلة .. أما تقطيبة الوالد المتهالك فتزيدني حسرات  .. وما يتعسني أكثر تبرم الأم المستسلمة لمرارة الزمن الثقيل .. كيف لي  أن أتابع دروسي في ظل هذا الغم الجاثم على القلب!!
 بيت يضيق الخناق على جسدي النحيل .. ومدرسة فيها من كل أصناف التعذيب السادي ما يعجز اللسان عن وصفه.. أساتذة يستلذون التعسف المجاني .. ويستسهلون إخراج التلميذ بدون أدنى سبب .. أما الإداريون فحدث ولاحرج ..زعيق وصراخ يصم الأذان .. تهديد بالضرب والرفس والطرد .. لا رحمة ولا شفقة لجسمي الغض..  فأين المفر ؟؟
تتكاثف الأشياء وتنصهر، وتتلون بألوان سوريالية حينما أفكر في المصير .. وما يزيد من سخرية القدر،  اشمئزازي من التحصيل الدراسي في أي مادة من المواد .. فكلما فكرت في مادتي الرياضيات ، لعنت طاليس واينشتاين والخوارزمي في سري .. وكلما أردت النطق بكلمة فرنسية شتمت المستعمر الغاشم ، الذي فرض لغته بالقوة والفعل في الذاكرة العربية الموشومة بالخزي والذل  والعار .. ما أعظم عربيتنا، لولا غدر التاريخ !!
سني لم يتجاوز الخامسة عشر ، غير أن وجهي وجه كهل، من أثر الكآبة الزاحفة على جسدي المرهف..

انفاسما أن فـَتـحت الباب حتى اندفعت جارتـُها إلى الداخل مثل قذيفة مسددة بإحكام..حدست من طريقة دخولها أنها تحمل خبرا عاجلا..يسميها جاراتها في الحي"الجزيرة مباشر"..ويعرفن حرصها على تحقيق "السبق الصحافي" في كل مرة..طبعت على خديها قبلتين سريعتين ، ثم سألتها :"هل عاد زوجك؟"..توجست خيفة لأنها أدركت أن ما تحمله من أخبار تتعلق بزوجها دون شك،إذ ليس من عادتها أن تسأل عنه..فقد ألفت أن تقدم "نش رة أخبارها" دون مبالاة بحضوره أوغيابه..وأحيانا كانت تتعمد أن ترفع صوتها في بعض المقاطع حتى يسمع كل من في البيت "منجزاتها"..
     لم تنتظر أي ترحيب بها ، بل دخلت من تلقاء نفسها إلى غرفة الجلوس..وألقت بجسمها النحيل على الأريكة التي تتوسط المجلس..انتظرت التحاق ربة البيت بها..وعندما رأتها تجلس أمامها مثل تلميذة مهذبة بدأت تحرك رأسها الصغير مثل رأس عود ثقاب وكأنها بذلك تنذرها بخطورة ما تحمل من أنباء..وتعمدت أن تطيل لحظات الصمت لترفع من وتيرة الشوق لدى زميلتها..وضعت رجلا على أخرى وسوت جلستها مثل مذيعة تتهيأ لتقديم برنامج مشوق.. وبعد أن سعلت سعلة خفيفة اطمأنت بعدها إلى سلامة حبالها الصوتية ، قالت:"الثقة اليوم عملة نادرة..أحيانا نعتقد أن أقرب الناس إلينا لا يمكن أن يصدر عنهم ما يسئ إلى ثقتنا فيهم..قد يصدمنا ذلك.. وقد يؤدي إلى انفصام كل رابط بيننا وبينهم..الثقة كنز كبير..ولكن علينا أن نحسن وضعه في المكان المناسب..أقصد الشخص المناسب.."

انفاسفي آخر ساعة دوام كانت شلالات الغبطة تنحدر بشدة فتغمر قلب الدكتور عاموس، وتبلل ابتسامة ناعمة نضجت منذ قليل كانت تتهادى وهي تموج على طول فمه.
ولم يتوقف الأمر بالدكتور عند هذا الحد، ففي لحظة الحظ تلك التي لا يعرف كيف ملصت خلسة من قبضة النحس، وأشعرته أنه يعيش في أمتع لحظات حياته.. تذكر نكتة جميلة كان قد سمعها عن العرب بعد انتهاء الحرب على غزة، فأخرجت فمه عن نطاق سيطرته.. وفرقع ضحكة لعلعت في جو المكتب وكادت أن توقعه عن الكرسي، لكنه لم يقع.. واستمر لوقت غير قليل ميتا من الضحك كأن أحدا يزغزغه أو يحك له على جرب. ثم عدّل الدكتور جلسته وهو لا يزال يضغط على نفسه ليغالب فمه وضحكته معا، خشية أن يكبس عليه أحد فجأة ويمسكه مقهقها لوحده فيفضحه بين الدكاترة والموظفين.. فارتد بظهره إلى الوراء والصقه تماما بظهر الكرسي، وأمال رأسه وركزه إلى أقرب مكان يصله قفاه قبل قمة المسند، لأن الدكتور قصير بالكاد يبلغ ثلثي طول رجل عادي، وبجلسته هذه صار فمه مصوبا بدقة نحو ساعة الحائط في الجهة المقابلة، وما زال فيه بقية ضحك اخفق في كتمه.
وأكثر ما كان يغبط  الدكتور عاموس حينها ويبهج قلبه أن غدا هو أول أيام إجازته السنوية، التي انتظرها بشوق كبير وصبر طويل لا يفرغ، كشوق وصبر طفل عربي للعيد الذي يجيء بعد رمضان. وفوق هذا كله فإن اليوم هو عيد ميلاده، وزوجته تنتظر وتتفتت وقد أضناها طول الانتظار، ولهذا تلفنت عليه منذ الصبح مرات ومرات.