أنفاسأكاد أجزم أن جميع أبناء الحي أو جلهم إن خفت المبالغة في القول ، لا يعرفون مهنة  ً محمد العارف ً ، ولا أخالهم يعرفون من هو أصلا ، فتراهم يحسبونه من التجار الذين بارت تجارتهم وخلفتهم قعودا تحت الأسوار يتحسرون على ما فات ، ومنهم من يظنه مؤذنا لدوام ملازمته لفقيه الحارة ، ومنهم من يقسم بأنه مخبر لتردده المشبوه على أقسام الشرطة . المهم... لا أحد استطاع أن يقف على خبر ذلك الرجل مهما بلغت درجة تقصيه وتحريه.
كان العارف يتوجه كل صباح صوب سور مدرسة قديمة ، فيأخذ مجلسه في مكانه المعتاد ، ثم يخرج من تحت جلبابه قطعة  كبيرة من ورق الكرتون ، ويضعها فوق حجرة مسطحة ،كان يحرص على إبعادها عن الأنظار بعد قيامه ، حتى لا يعبث بها العابثون ، ويذهب بها الفضوليون من محبي الجلوس على الطرقات ، ثم يخرج غليونه القديم ، ينظفه ببطء مقصود ، ثم يملأه بوريقات من التبغ يمزجها ببعض الأعشاب التي يسهر على جنيها بعناية ، ثم تجفيفها و طحنها لتصبح شبه غبار يزيد من انتشائه ، وضبط مزاجه الحاد.
ولا يلبث أن يوافيه أصدقاء الأمس ورفاق الدرب ، فواحد يطلب منه اقتسام نشوة تدخين الغليون ، وثان يلح على سماع حكايات  مغامراته إبان الحرب الهند الصينية التي يتقن سرد أحداثها بشكل أسطوري، يضاهي به رواة سير المغازي وأبطال أيام زمان. وثالث يحاول استدراجه للتعليق على الغلاء الفاحش المستشري بالبلاد ، والفساد الذي عم البر والبحر ، ورابع يحاول لفت انتباهه لأحد المارين ، بعد عرض سيرته وسيرة آبائه وأجداده الأولين والآخرين.

أنفاستذوي الأوراق فلا يعبق الزهر و تنطفئ شموع الآمال... 
كذا كانت الصور تنداح في مِخيالها الفائرلحظةَ ساحت في براري النجاة المأمولة..
كانت الدنيا تهتز و تنحط  كخفقات طائر يُرنّق فلا يطير الا بمقدار ما يجعله في متناول صائديه...
لم تصدق أنها وصلت دار خالتها ...
كانت تلهث وكاد ينقطع نفَسها حين دخلت حتى أن سامر الذي لم يكن يستلطفها أحس بالشفقة عليها     و أسرع فقدم لها كأس عصير وجلس يواسيها  و يستفسر عما جرى لها حتى تُقبل في هذا الوقت وهذه الحال.
وحين جالسها وبكت رأى لأول مرة مقدار الجمال الذي عليه البنت وتساءل:" ألم يكن أعمى خلال كل هذه السنوات"
 لهذا تمنى عدم عودة أمه.
ونظرت من وراء الدموع فوجدت ابن خالتها  يتنمر ليأخذها بين أحضانه...
وقالت ألهذا هربت... و قامت و ادعت له أنها تقصد الحمام.

أنفاسلم يبق في ذاكرته المكــتظة بالألم .. والمكسوة بالحــسرة .. إلا ذلك الوجــه الجميل .. والصدر الرحب  لتلك المرأة ، الذى تمنى أن لا تــودعه إلي رحاب اللّــه إلا بعد أن يستقر بـه المقـام في الوطن بـعد رحلة الإغـتراب التي استمرت سنــوات طويلة ..ولكن الــقدر .. كان اقوى مــن تمنياته .. فبـقي ذاك الوجـه العنصر الجميل في ذاكرة زاخرة بشتى الآلام ..يرتبها كعادته ..ويجعل منها مجسماً أركــانه مترعة بقسوة ونذالة  أقرب الأقربين اليه . في لحظات ضعــفه  الشديد تجتاح نــفسه  تلــك الكآبة القاسية المتمثلة فـي تصرفات نزقــة لأخـوة مسحت ملامحهم أيـادي زوجات وقــحة ، وأخــت طمس معالمها الجمـيلة الخــيرة زوجٌ .. مــترعٌ بالغم  يبحث  عن الشيطان في أركان  ذاته .
تتـجمع المظاهر الثلاثة  في كُـنه نفــسه .. مكونـة اضلاعاً مثلثة فــي حركة نزقة لا أصالة فيها ..يتربع علي اطــلالها  يًحــدقُ فيهم يحاول أن يبــحر في بــؤس ذاكرتهم .. ليعرف ماهية أنفسهم .. ولكن ..!!
يهفو بروحه ونفسه إلـى ذلك  الوجــه المتميز الذى يتمثل فــي وجـه أمه ..فيطل عليه باكياً مترعاً بألم خلّفه عبث الآخـرين .. ومتقلــصا من ألم الداء .. الـذى يأكل داخلها الجميل .. ينتفض وهو يرى الوجه المخضَب بالألم .. قد ملأته بســمة يانعة .. والكلمات تنساب من خلال شفتين تحمل مشقة كل هذا الكون .

أنفاسعند نقطة ما، في مسار العمر، بين الأربعين والخمسين، يطرأ على الزوجين اللصيقين تبدُّلٌ في العواطف نحو مسـتوى مختلف؛ فيحرصان على الاحتفاظ بمسافة تفصلهما، لا تقل عن ثلاثة أقدام؛ وكان اعتيادياً، وهما في الثلاثينيات، أن يسيرا وقد تماســكت يـداهمــا؛ ولا يني الرجل يقابل إمعان زوجه في مداعبته بكلمات شكر يهمهم بهـا؛ ويحدث ذلك بالرغم من احتفاظهما بالحميمية البـكر.
     وها هما " بالو " و " أنجانا " تدركهما تلك الحالة، بعد زواج دام اثنين وعشرين سنة ... فذات مسـاء، بعد أن غادرهما إبناهما إلى كُـلِّـيَّتيـهمـــا، وقد انتهـت العطلة الصيفيـة، فأحسَّــا بالمنـزل وقـد خـلا إلاَّ منهمـا؛ فاقتـرحــت " أنجـانـا "، تزجيـةً للوقت، أن يعودا لقراءة الرسائل التي تبادلاهـا خـلال فترة خطبتهما الطويلة التي سبقت ارتباطهما بالزواج. وكانت الخطابات، التي تكاتباهـا في ثـلاث ســنوات،  تـمــلأ ســتة صناديق من الورق المقـوَّى، خُبِّـئــت في عليَّــة المنزل. وبذل " بالو " جهداً كبيراً ، واقفاً على كرسي بلا ظهر ولا ذراعين، ليأتي بأحد هذه الصناديق، وكانت " أنجانا " تثبِّـتُ الكرسي بيديهـا. واستعان " بالو " بقطعة قماش لتنظيـف الصندوق من التراب، ولإزاحة عدد قليل من حشـــرات ( السُــميكة )، قارضة الورق، العالقة به، والتي كانت قد تمكَّـنـت من غزو العُليَّـة، بالرغم من أنها قد تمَّ رشُّــها بالمبيدات. وعرضت " أنجانا " أن يقوما بقراءة الخطابات وهما جالسين على ســلَّم البيت، وبادرت بالجلوس على ثاني درجة من الســلَّم، فجلس " بالو " على الدرجة الثالثة، على بعد يقرب من ثلاث أقدام منهـا. سحب هو أوَّلَ رسـالة.

أنفاسالكورنيش : مقهى شهيرة بمدينة الجديدة المغربية
هدمت صيف 2004
كان يرتادها الشاعر والقاص والنقابي والطالب الجامعي
وعاشق البحر والصحافي والزجال وبائعة الهوى ...

لأول مرة يتبدّى لي وجهي أليفا . لازلت لحد الآن أعتقد أن جلوسي بمحاذاة المرآة لم يكن بالصدفة . لا شك أن قوة عاتية دفعتني إلى هذا الكرسي لأرى وجهي على المرآة مشرّحا وواضحا كموال جميل .
رغم الدخان والزحام واللغط ، كان صوت وديع الصافي " الله يرضى عليك يا ابني " يخترق الوجوه والكؤوس والحيطان ليعرّش على قلبي كسرب حمام ..
مقهى الكورنيش بالجديدة جسد أنثوي مخضّبٌ بريش النوارس ودم السفن الهاربة . والبحر من خلال النوافذ يتثاءب ، يتمدّد ، يصبغ الساحل بالرغوات الكثيرة .
كم سيجارة سوف أدخن ؟ أي بحر عروضي سأشتغل عليه ؟ أية وجوه أليفة سأستحضرها الآن ليكون لمذاق الكأس طعم السيوف وطعم النزيف ؟

أنفاسفي مطعم ... تقدم منه قط بئيس ... كان يموء بصوت يكاد لا يسمع ، كان ينظر إلى الرجل البدين نظرة استعطاف ... ولسان حاله يقول : أطعمني أطعمك الله . نظر الرجل الضخم في عيني القط ، حدق بإمعان ... حتى يتأكد من أن رسالته ستصل إلى عقل القط الباطني : وبصرخة هزت القط هزة زلزال قلب قرية رأسا على عقب : " تصاب ألحمار "... وعوض أن يفر القط في اتجاه ممر النجاة فإنه اصطدم بالكرسي ... وفي لحظة وجيزة أصبحت أرجله أعلى وظهره أسفل ... بدأ يتلوى بشكل دائري ، أصبح همسه صرخة ... أعاد المحاولة تحت تأثير الألم ليصطدم مرة أخرى بباب المطعم ... سمعت صرخات القط ومعها صرخات نسوة تألمن لحاله ... يا الله ما ذنب قط يطلب طعاما ؟! قط يتسول طعاما في بلد الخيرات ... إنه أمر مخز ... وصمة عار في جبين ذوي البطون المنتفخة ... اللئام الذين يملئون ويهضمون ثم يفرغون ... لا يسمحون لشيء أن يتسرب يمينا أو شمالا ... فتحات أفواههم تسد مشارق الأرض ومغاربها ... آه هذا القط التعيس ! قد يكون أبا أو جدا ... قد يكون يتيما ... لا أدري ... كل ما أدركته أنه بقي مدة قد تطول وقد تقصر ... بقي في غيبوبة ... وحين استفاق من غيبوبته وجد أمام عينيه قطعة لحم ... لكن كرامته وعزة نفسه حالتا دون أن يمد إليها فمه ... انسحب في كبرياء ممتلئ ومعدة فارغة .

أنفاسقديما قالوا : ً الولد سر أبيه ً ، وإذا صح هذا القول ، فإن ً المعلم إبراهيم ً صاحب هذا السر بامتياز ، فقد كان والده ً الحاج علي ً شيخ المقاولين في مدينته التي اتسعت أطرافها على يديه ، فكم عمارة أعلى ، وكم برج بنى وشيد ، وحمل عنه ابنه إبراهيم أمانة البناء ، وأضاف إليها دهاء ونباهة وذكاء أكبر ، ولم لا وهو المتخرج من مدرسة الحياة التي أكسبته حكمة وصبرا وجلدا أقوى وأمتن. تلقى أصول الحرفة من أبيه ، وعمق خبراته من اتصاله بأصدقائه البنائين ، وزملائه المقاولين من داخل المدينة وخارجها ، فتهيأ له الاطلاع على خبايا  هندسة العمران ، ودهاليز فن البناء.
كانت الغاية التي بلغها ً الحاج علي ً أنه وضع ابنه على المسلك الصحيح ، ومكنه من اقتحام المشاريع برباطة جأش ، تقيه من الخسارة التي تلازم عادة جل المقاولين الشباب أينما حلوا وارتحلوا. أما المعلم إبراهيم،  فقد تجاوز حدود أبيه ، فقد آل على نفسه الابتكار والإبداع ، وكانت آراؤه وأفكاره الجديدة حلقة من حلقات تطور فن البناء بمنطقته ، ناهيك عن كونه صاحب مبدأ في الحياة ، هذا المبدأ الخالد سمعه كثيرا من والده  : ً من غشنا فليس منا ً

أنفاسابتلعت العتمة كل البيت الصغير الذي يشبه شكله أكثر ما يشبه علبة اللحمة البرازيلية، من الخارج.. أما من الداخل فهو إلى حد بعيد مثل مكعبات شوربة ماجي. هو بيت في احد مخيمات وسط قطاع غزة.. يزيد عدد سكانه في الليل عن عشرين نسمة، الأب وألام والأبناء وأبناء الأبناء، يحشرون به حشرا حين يجتمعون إذا حل المساء.. وبالكاد يصل العدد إلى خمسة أنفس في النهار. تأبى الشمس أن تزور البيت، كأنها حلفت بالله على ذلك، والهواء قليل وفاسد لا يتجدد إلا ليفسد مرة أخرى.. وليس بمقدور أنوفهم انتقاء ما يشتهون من هواء نقي وطازج ليتنفسوه، فيبذلوا أقصى جهدهم لنيل حصة أجسادهم منه، بعد كفاح مع صدروهم المليئة بالحنق على الحياة.. والزمن الذي على الدوام يلعنونه ويسبونه..
- يلعن أبا الدنيا.. حياة مثل الكندرة القديمة.. ساق الله على أيام زمان.
جلسوا مثلما اعتادوا أن يجلسوا في مساء كل يوم بعد أذان المغرب بقليل، وكان يقينهم في نيل وجبة عشاء مشبعة أو غير مشبعة بدأ يزوغ، الوجبة التي تأخر مجيئها.. وكان الجوع قد بدأ يتسلل إلى أجسادهم النحيلة التي أنهكها التعب، فهمدت قواها، واسندوا ظهورهم إلى جدار مشقق مائل، جدار بحاجة إلى جدار آخر كي يسنده. كانت الوجوه العابسة تقابل العيون المكسورة في وجوم وقلق.. بعضهم مدوا أرجلهم ليريحوها، والبعض تربع على حصير تثنت أطرافه مع مرور الأيام، ونسلت زواياه ومزقت حوافه أيد الصغار، الصغار الذين لا يكفّون عن تحويل أي شيء إلى أداة لهو.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة