أنفاسوجاءت الحرب، واللعنة على الحرب وعلى الذين يصنعوها، لم تجلب لنا غير القهر والتعاسة. 
وكنت أحلم  حالما أعود من الحرب أن ألبس ذلك الحذاء الجديد  و أن أخاصر زوجتي اللحيمة ونسير في شوارع المدينة وأن أكون سعيداً وأنا أسمع طقطقات الحذاء على  إسفلت الشوارع .
طاق ..طاق ..طاق .  ذلك الحذاء الجديد. !! هي الحرب ولعنة على الحرب التي لم تجلب لنا غير غلاء المعيشة وندرة الحليب للرضع وانقطاع الماء والكهرباء  وأكواما  من الجثث . هذه الحرب حرمتني من أن أنتعل حذاءي الجديد.
حين جاءت، كدت أن أضع الحذاء في حقيبتي الوحيدة٬ لكنهم  قالوا : " هذا الحذاء لن تحتاجه في الحرب ".  تركته في علبته البيضاء ملفوفاُ في ورق حليبي شفاف،  بعد أن مرَرت أطراف أصابعي على جلده اللامع الأسيل وألقيت نظرة أخيرة عليه. لكنني عقدت العزم على إنتعاله حالما أعود من الحرب . لكن !! حين عدت،  تعذر علي إنتعاله،  ليس فقط لأن الحذاء لم يعد يلازم علبته التي قد تكون إنتهت إلى سطل القمامة،  ربما منذ زمن بعيد ، بل كذلك لأنني عدت بلا قدمين بل حتى بلا رجلين ، وبعطب في رجولتي.
 حين قدمت من الحرب ، زارني عمُو ، ذلك الرجل الغريب .  لم يسبق لي أن شاهدته في الحي فكرت " لقد تغيَر كلُ شيء بعد كل هذه السنين التي قضيتها هناك !" ربما يكون الرجل قد قدم إلى الحي في غيابي .

أنفاسقال الموظف للشاب الذي تقدم من مكتبه : ألم أقل لك أمس وقبل أمس بأن ملفك ناقص ... تنقصه وثائق ، تساءل الشاب : أنت لم تحدد لي الوثائق اللازمة ... وبنبرة صارخة قال الموظف : هل أنت أمي ؟ ألا تقرأ ؟ أسأل نفسك ، هذه ليست مهمتي ، أنا أتسلم الملفات كاملة ، بعد ذلك أنجز عملي لا أقل ولا أكثر ، مفهوم ؟ رجع الطالب الشاب القهقرى وهو يتساءل وبصوت مسموع : ما الذي ينقص هذا الملف ؟ لقد تأكدت أكثر من مرة من الوثائق ... تقدم منه رجل في متوسط العمر ، أمسك بيده ... جره بعيدا ... قال له : لاشك أنك لم تتمكن من دفع الملف ، أليس كذلك ؟ أجاب الشاب بحماس : نعم ... نعم كان يطمح في أن يقدم له الرجل إرشادا ... لكن صاحبنا قال : لا شك أنك لا تحسن الإدغام ... هنا رد الشاب بغضب : كيف لا أعر ف الإدغام وأنا طالب جامعي في شعبة الأدب العربي في السنة كذا ... في كلية ...
ـ انتظر يا ولدي ... أن تعرف الإدغام شيء وأن تحسنه شيء آخر ...
قال الطالب الجامعي والحيرة تملأ محياه : ما هذه الهرطقة ؟ الإدغام هو :<< إدخال الشيء بالشيء >> هكذا يقول صاحب كتاب التعريفات ... العلامة ...

أنفاسنظر اليها وابتسم ، فابتسمت ، واسرع الخطى نحوها
تصافحا  ، وسارا الى اقرب مقهى ..
-لنتعارف..
-اهلا وسهلا
-انا سيمو
-وانا سهام
-انت رائعة ،انت ملكة جمال
-وانت ايضا رائع
-شكرا
لا شكر على واجب

أنفاس لم يكن يتوقع وهو يحتضن نسخًا من كتابه الأول، مثلما تتلقف أمّ بحنو فرحتها البكر وأول عطر الأمومة.. أن ينتهي به المطاف بائعًا متجولا ، تخيّـل لو أنّ بضاعته (سي دي) لاختلف الوضع، ووجد من يتحلقون حوله حد الاختناق...!
واصل طريقه كاتــــــــمًا حنقه، لاعنًا اللّحظة التي اكتوى فيها بنار الحرف.
 أجابه صاحب المكتبة العجوز- وهو يقترح عليه الاطلاع على نسخة من كتابه، ودون فتح حقيبته اليدوية التي يضعها على كتفه- محرّكًا رأسه بالنفي..
العجوز استكثر عليه حتى الرد بكلمتين.. فكّر في أن يقترح عليه أن يغيّر مهنته، ويبيع أيّ شيء غير الكتب، حث الخطو في اتجاه مكتبة أخرى مقاوما رغبته في التقيؤ على الزمن الرديء!
انتظر صامتًا حتى سألْته عن رغبته وهي منشغلة مع زميلتها بالزبائن وحاجياتهم من الكتب المدرسية.. كرّر نفس الجملة الرتيبة، التي بدأ يحس بكراهية بغيضة اتجاهها، جاءه ردّها - باردًا- بأن صاحب المكتبة غير موجود، أيقن أنها تكذب، فمنذ ما يفوق عشر سنوات وهو يلمح طلعتها البهية في هذا الدكان الأغبر.. أحس ببقية كلامها كالصفعة :"مرة أخرى...!!".

أنفاس… لم يبرح الحزن فؤاد "السيد سين" بعد، حزينا، منكسرا، كسيف البال ما يزال، بيد أنه يتحامل على نفسه، فيتصنع الانشراح، يتباسم طورا و "يتمسحق" بأمارات السعادة الظاهرية ليخفي شقاءه وتعاساته.  
بات شديد النقرة من الناس، كثيرا الازورار عنهم. قلى الأمكنة التي ارتادها هنا وهناك في أحياء مدينته المكمورة في جوف الأطلس لتحرسها الجبال من كل الجهات. في العدوة الشرقية للمدينة تسيدت مقهاه الأثيرة "لافونتين" الأنيقة والفخمة، هناك يقهي، ويلتهم ما يقع في يديه من كتب الأدب العزيزة على قلبه، ويتصفح الجرائد التي يجود صاحب المقهى بها على زبنائه من "العيار" الخفيف، أمثال السيد سين، هناك يحس بالاغتراب وعدم التجانس مع فضاء أعد لغيره : لأعيان المدينة. خلا هذا المكان، وتنبه السيد "سين" ألا يوقفه أحد قط، وأن يكتفي بإرسال التحية إليه من بعيد، لكن لما يحدث أن يستوقفه أحد يبدل جهدا كبيرا كي يبدو متماسكا، محاولا السيطرة على أعصابه، والحفاظ على هدوئه وإذا كانت نار ملتهبة تثوي بداخله، آه لكم ودّ أن يصرخ في وجه الناس : كلكم منافقون، لئام، ثعالب، أنانيون، وصوليون، انتهازيون، همازون، لمازون، مشاؤون بنميم، ولكنه يتذكر الناس الطيبين فيتراجع في آخر لحظة.

أنفاسلعل أمنيته تحققت ..وهل ما بعد أمنية "المدير" أمنية أخرى أجل وأعظم !! الكثيرون يتمنون وظائف أقل بكثير من وظيفة "المدير" .. أما هو فقد أحس أن مفاتيح الدنيا كلها ، قد منحت له ليرتع وينعم كيفما شاء وأنى شاء.. أموال طائلة ستدر عليه من خزينة الدولة ، لم يكن يحسب لها حسابا .. أناس كثيرون سينحنون له إجلالا وإكبارا ، في ذهابه وإيابه ، في غدوه ورواحه... أهلا بالسيد المدير .. مرحبا بالسيد المدير .. !! سيغير من حاله رأسا على عقب .. سيرتدي أفخر الثياب وأغلاها ثمنا.. سيدخن أغلى السجائر ، حتى يزداد مهابة ووقارا بين الناس .. أما السيارة فيترك الاختيار لأصدقائه العارفين بنوع السيارات الفارهة .. سيتدرب منذ الآن أن يحسن من مشيته حتى تتلاءم ومشية المدير .. أما رأسه المطأطأ دوما ــ من كثرة ما عانى أيام العسر ــ فسيرفعه عاليا حتى يعطي لسمعة "المدير" وهيبته ما تستحق .
أما حليلته ، فستزداد فتنة بين النساء من كثرة ما سيغدق عليها من الذهب والألبسة الحريرية .. ستغادر حليلته أحلامها البالية ، إلى أحلام وردية تتحقق على أرض الواقع بفعل الجاه والثروة .. كم ستتحسر صديقاتها ويعضضن على أناملهن من الغيظ والحسد والكمد !! حين سيلمحن ما تغير من حياتها جذريا .. آه لو كان كل أزوجهن مدراء !! يا ألله ما أسعد زوجة المدير !!

أنفاسكانا مرهقين متعبين، خرجا إلى طرف المدينة التي كانت تضغط لتلفظهما إلى خارجها كجسمين غريبين، وحسنا فعلت ،  لأنها سمحت لهما بقسط من الراحة ،  وفسحت أمامهما المجال لمد البصر عبر الروابي والتلال التي كانت الريح تغازل حقولها العامرة ،  البديعة التلوين ، فتنثني خضرتها وألوانها متموجة  وتتكسر في دلال وغنج آ سر ،  تنفث أنفاسها الساحرة فتنتشي الريح أكثر وتزيد في صفيرها ، تعاند الأزهار في بث عبيرها ، وتسري هبة الله في جسديهما النحيلين فينتعشان، ويفتحان رئتيهما يريدان طرد  ما بداخلهما من أدران هذا الزمن الموبوء.
تنهد صابر وقال : صبا الشام جاء يقرؤني السلام ، فبلغ يا صبا المغرب سلامي لأهل الشام. وقل لهم وعدا مني لبلدي باني سأعود بعد سنة، بعد مائة ،سأعود ولو بعد ستين ألف عام.
وستجتمع- بعد شتاتها في المنافي- الأرحام بالأرحام.
نظر نحوه غريب : وقال ما أسعدك يا صابر ، وما أروع حلمك الذي حققته فقد عشت-فعلا- ستين ألف عام.
- عجيب أمرك  ، يا غريب ، أبث لواعج قلبي وحرقة منفاي إلى الريح  فتحسدني، متجاهلا ، مأساتي ، أنا يا غريب لا أدري بأي أرض أموت ،وأي تربة ستمتص جزيئاتي...

أنفاسالى روح البير قصيري الكاتب النبيل.
خرج باكرا ومشى ..مشى بعيدا بعيدا ، في يده  مصباح  وفي جيبه  حفنة  تراب.
وكانو قد دخلوا ليلة البارحة بيته ، داسوا ورود حديقته ، مزقوا اوراقه  ،كسروا اقلامه ، ولما حضر كسروا اصبعه .
لم يبال ، ابتسم وقال : وستستمر الحياة ..ونام
صباحا افاق على جرس المنبه ، فتح عينيه ،ليس امامه الا الظلام ..
-لم يطلع النهار بعد ، قال في نفسه واغمض عينيه .اصاخ السمع  ، الشارع يعج بالحركة وبالاصوات ، اهتز من فراشه وجرى الى الشرفة ، المحلات
 فاتحة ابوابها كالعادة كل صباح : المكتبة والمخبزة والحانة وصالون الحلاقة ...  وبائع الحليب يدفع عربته ، وبعض الاطفال بمحافظهم يتوجهون الى المدرسة..
كل هذا في الظلام ..

مفضلات الشهر من القصص القصيرة