أنفاسكنت أعلم أنكِ الأجمل بين الحضور يا صغيرتي , ليس كونكِ ترتدين فستان زفافكِ ووصيفاتكِ يرفعون أكمامكِ البيضاء والملائكة الصغيرة تحمل شموعكِ , والمصاحف تبسمُ لنا بين الخزامى, بل لأن أحزان الزهور وجمال الملائكة يندرأن يتقاطعا في وجه أميرةٍ معلقة إلى صليبها في فستان زفافها ..
لم أشهق كالجميع حين ترقرقت دموعكِ وأنتِ تقطعين الكعكة , وسقط السكين الزهري من يدكِ فألتقطته ووضعتُ يدكِ الصغيرة في يدي كي نكمل تمزيق قلوبنا دون ضجة والهمهمات سهام سددت نحونا  , فقلبي الشاهد الوحيد على مسائكِ الأتي , على الأيدي المتباعدة فوق الجسور المحطمة , على وداع الحمائم للحمائم ذات عاصفةٍ ماجنة ..
راقصيني فقد كبرتُ كثيراً وحزنت كثيراً ,أحتاج لبعض الفرح كيما أعبر أنفاقي المتناثرة خلف أستار الفصول , لكل الجمال الذي أقاتل أشباح الحياة دفاعاً عن براءته , وتحتاجين لكل الفرح في حفل زفافكِ , تمايلي صغيرتي .. إبتسمي .. لا تطالعيني كثيراً فأنا أودع ثلاثيني وأنتِ كل الرقة الواقفة خلف أبواب العشرين  ...........,

أنفاسالمكتب واسع وثير. النظارة فوق الأوراق تلمع. على مهل أتى، بهدوء مهيب جلس.  في هدوء أيضا يده تمتد، تضع النظارة. بسرعة يتصفح الأوراق، وبالقلم عليها يوقع.
رشف من الفنجان أول رشفة، شفتاه على نكهة الهيل أطبقت، وحبس تنهيدة لو فلتت من المؤكد ستكون حارة، وطويلة.. وراح يكح. للحظة في بذلته الأنيقة ضم جسده، ثم نفشه وأبقاه منفوشا. ثم راح فمه يبذل أقصى جهد لعصر تكشيرة استقرت ذيولها فوق الحاجبين، وما لبثت أن امتدت إلى فروة رأسه، رأسه الأصلع. بعدها أخذ رشفة قهوة أخرى. أشعل الغليون، ومص الشفة السفلى، وكز.
جاوز الخامسة والسبعين، طويل وابيض، عوده سميك، له نصف كرش، وله بعض شعر أسفل أنفه، بالكاد افلح في صنع شارب صغير، تخلله سواد. ها هو أمضى ما يقارب نصف عمره وزيرا، ويشعر أن زمن عمره كوزير كان قصيرا جدا، كيوم، كساعة، كلحظة.. واليوم هو آخر يوم له في الوزارة.. فلكل شيء مهما طال نهاية، ولكل بداية أجل.. ولأي شيء زمنه الخاص، الذي فيه يعيش وبه يحس. وغدا سيطلع على المعاش، هذا صحيح.. فأدرك أنه حان وقت نزول النظارة عن عينية، وأدرك أن النظارة بالمرة لا تدوم، ولكل نظارة كتاب.. وأدرك أنه بما تبقى له من عمره كوزير أبدا لن يكون.. وأمورا أخرى أكيد أدرك.

أنفاسكبريـــاء:
 أمسكت يدي تسحبني إليه:
- أرجوك، إنه يصارع الموت، واسمك بين شفتيه مع  كل أنة.
 - لا أستطيع.. ذاك ماضٍِ بعيد.
 -  ساعديه، ليغادرنا في سلام.
طأطأت رأسي خجلا أمام صمت امرأة اتشحت بالسواد
- سامحيني.. سرقت زوجك أعواماً.
- سامحتك منذ زمن..
- الحب عطاء..
 - أحَـبّكِ، فضحى بنا.. وأنا أحببته، فصنت عائلتي..!

أنفاسمات الرجال منذ أمد، وبقيت الأرامل واليتامى واللئام ، والأرض ساحة ، والدهر مدى له في مصائر البشر رأي ويد.
وعاش أحمد وإخوته وأبناء عمه وخالته اليتم والفاقة ملتصقين بالأرض التي مات من أجلها أبوه وعمه وخالته،  في قرية بيوتها من طين وقش ؛ مندسة بين أشجار الصنوبر والزيتون وبعض شجيرات اللوز المتشبثة بالجبل تمسك تربته وعباده من الانزلاق نحو المنحدرات السحيقة ؛ قرية معزولة معلقة بين السماء والأرض  ملتصقة في وجه جيل منحدر  يكاد ينتصب عموديا ، بلغ من انحداره حدا أجبر جميع من مر به ومشى بأديمه على السير على ثلاثة ،لا بصلح إلا للفارين من المغضوب عليهم  والمطاردين ؛ والضباع والذئاب والكواسر؛ أراضيه وعرة جعدة مشحاحة ولكنها منحت للصابرين بها  زيتونا مباركا ولوزا يعزيهم  ويسر الناظرين من بعيد.
عاش الجميع على أمل أن يلقوا يوما جزاء التضحية والقرابين التي قدموها لكن الدهر أبى وطال التصاقهم  بمنحدارات بني جعد يتدربون على احتمال الشدة والنصب وألم المعاناة ، ومن الطفولة الرخوة الطرية تشكل رجال أقوياء ، في سلوكهم صلابة وتحد تشبه كثيرا صفات أبائهم ، لكن هذا الدهر غير ذاك الدهر وللدهر في الخلق أحكام.
لم يتمكن اليتامى من نيل حظهم في التعليم ، فما كان بمقدور الأيامى مفارقة اليتامى ، وما كان اليتامى يدركون معنى العلم .

أنفاسأيحسبه استهزاءا ؟، متى كان له مثل هدا الحق؟ ، أغبياء ، متأكد من أن ارتسامات وجهه هي التي خانتهم ، يعتقدون بل و يجزمون أن بإمكانه فعل ذلك ، كيف لا وهو يبدو سعيدا ، ضحوكا ، لا ... إنها صيغة داهية، يتفنن في ارتداء حالة اليسر ، يحلم بما يريد ويتفوق في الإيهام .لكنه الآن يشعر بايهاماته تقف ضده.... أليس موضع شفقة وهو يستقبل صفعات تدعوه إلى الاستجمام في منطقة ما ؟.يعانق الحلم هنيهة لكنه يستفيق على وقع خطوات الواقع .
- ننتظر منك يا ولدي ما تسد به رمقنا.
- نعم نعم فهمت.
 - وننتظر منك ان تخبئ بعض الدريهمات لتشتري كتبا و ملابس لدخولك المدرسي المقبل .
- نعم نعم فهمت.
 وننتظر منك يا ولدي أن.......
- نعم فهمت ، نعم فهمت.

أنفاسعشقه للحروف لا يضاهيه عشق ..
صحيح أنه أحب وتعذب وذاق مرارة الهجر حتى كاد يكفر بكل شيء .. غير أن عشقه للحروف ظل راسخا لا يتبدل.
وهاهو "النيت-NET" يفتح أمامه بابا من أبواب السماء .. عالما زاخرا بالحروف الزاهية الأشكال والألوان .. أنشأ مدونته وأغرقها بكل ما جاشت به حياته خلال السنين الثلاثين التي عاشها على الأرض حينا وفي عالم الحروف أغلب الأحيان.
ظل يتجول بين المواقع والمدونات صائدا مقيدا إلى أن وقع بصره صدفة ذات يوم على مدونتها.
فتاة في العشرين .. جامعية .. مليحة الوجه .. دافئة ابتسامتها  وفي نظراتها ثقة و دعة ..أما كتابتها .. حروفها .. يا الله ..إنه لا يعرف كيف يصفها .. هذه الفتاة لا تكتب أفكارا .. لا تتفلسف ..لا تحاول أن تقنع أحدا .. كتاباتها نوع من الخواطر الصافية المشرقة .. روح شفافة بريئة تنساب مثل جدول رقراق على الصفحات فتصيب عدوى الابتهاج والسكينة كل من يلامسها.. حتى الحزن لديها يبدو شفافا كأنه الفرح.

أنفاسوالتقينا مرة أخرى...
كانت كما القمر الذي اكتمل نضوجه، فارعة، سامقة. وجنتاها صبغت بحناء تناسق مع تلك الخصلات الكستنائية اللذيذة. تغني مواويل وتضرب العود (أووف يا وطني أووف)، ونحن نردد خلفها بصوت مرتفع (أووف).
لم تكن تنظر إلى أحد سواي خلال تلك الجوقة الملتفة حولها كطوق كبير، ربما ظنت في قرارة نفسها بأنني الوطن الذي سيحتضنها، وعندما ستراني فإنها سترى قلاع المخيم كلها، لكنها –ولسذاجتها المحببة إلى قلبي - ترفض أن تفهم أنني لن أعود إلى رحاب الأهل والبندقية. أخبرتها بذلك قبل وقت قريب، حين حصلت على إقامة في هذا الفراغ المريب المسمى فرنسا، سألتني يومها متكدرة:
- أسنعود للوطن؟!
لم أعرف كيف الجواب، حارت قافلة الكلمات في الخروج من قمقمها، راودتني صور شتى، أي وطن تريدين ونحن نمكث في صومعة من حزن، كررت سؤالها كغبي لن يفهم، هل أقارنها بي؟ وطنها بوطني، حدقت بوجهي وقد بدت علامات الارتياب تتملكها، لحظتها كأنني تأوهت من برد حاصرني، أو من شيء لا أعرفه الآن. قالت:
- أأنت مريض؟

أنفاسالطقس شتاء والمدينة مغطاة برداء أبيض ناصع، يبرق بريقا جميلا مع أشعة الشمس. وقف (غريب) بأعلى منطقة ب(هولمن كولن). رفع عينيه إلى السماء يبحث عن غيمة أو سحابة أو ربما أمنية تتحدر عبر سماء من الحلم. سرح ببصره المحيّر إلى فضاء المدينة. يرى وجوها متعددة الألوان. بعضها تشع حيوية، أخرى ترتعش بجنون، وجوه هشمتها تجاعيد لزمن طويل من الغربة والأسى، للبعد عن الوطن ووجوه ممسوحة من الملامح ممسوخة لاتعرف هويتها. من تلك التلة كان (غريب) يفترش قلقه المضطرب، على بساط الثلج، يجوب حذرا على أعقاب الزمن الذي أجهض أحلاما، ولوث رغبات.و آمال مزقتها انفجارات الوعود المبتلة بالسراب وأخرى التهمتها أمواج سحبتها تيارات لتنتهي في بطون حيتان "الخلاص". نزلت قطرات شاحبة على وجنتي غريب التي أصابها الجفاف. قطرات تحترق حسرة وترتعش بالجنون لذاكرة الماضي والحاضر الذي يجمعهما حضوره المدثر بالوجع القديم والخوف من الآتي. كان يلملم هدوء سكونه المفتعل في صمت، جاثيا وكأنه يصلي لحلم مخنوق، يبحث فيه عن سكينة تمسح عن روحه دموع المنفى وشرود العزلة القاتلة. تطلع إليها والحزن يرشفه، تصنع ابتسامة تفضح استياءه المتراخي على جسده المثقل بلا شيء . أحس أنها تعيش فيه كل يوم ويعيش فيها. تسجنه بقيودها ، بسحرها الغامض. هي كريستيانيا التي أوقعت الكثيرين بسحر جمالها فتضاربت آراء عشاقها بالمد والجزر، هناك من ذاب في كأس ثمالة عشقها فرمى حقيبة الماضي بكل ما فيها من متاع وآخر أحبها بصدق فأعاد بها أختلاق نفسه.