أنفاسجلست على مصطبة اسمنتية انتظر قدومها ...
قيل لي :ستاتي عند السادسة؛ وربما تتأخر الى السابعة ..وقيل لي ايضا : اذا تاخرت اكثر ’ فما عليك
الا الانصراف او اللجوء الى وسيلة اخرى ان كنت مضطرا للسفر..
فسر كهل طويل القامة عريض الوجه ’ قائلا بلكنة امازيغية : الحافلة يا بني لا تنطلق من البلدة انها تمر منها وهي في طريقها الى المدينة ’ وان كانت مملوءة فلن تدخل الى هنا ..
شكرت للرجل شرحه ’ ونظرت الى ساعتي ’ اكيد انها تشمت بي ..
هي ذي بلدتك ومسقط راسك ؟ من يصدق ثلاثة ايام وانت تلف الدروب ’ تسال هنا وهناك .. اين خالك حمدان ؟ اين عمتك ميمونة ؟ واين هو الحاج ؟ والاكواخ ؟ والحقول ؟ اسماء ’ مجرد اسماء ..انمحى عالم وانبنى اخر’ كانك تحلم ...
شهر غشت والحرارة لا تطاق ’وكل ما اتمناه : مغادرة البلدة اللحظة وباسرع ما يمكن .. اعدت النظر الى ساعتي ’كان عقاربها لم تعد تتحرك فعلا ’ واتكات الى الخلف مغمضا عيني ’ فاثار انتباهي جرس سقاء يرن في عياء ’ وانشغلت بالاستماع الى رناته الرتيبة الحزينة ’ لكن الرنين ايقظ احساسي بالعطش’ فجف حلقي وضاقت انفاسي ..اين هو هذا السقاء؟ اين هو؟قلت : لن يكن الا وراء هذه الحيطان .

أنفاسباب بيتك أبيض ، مثلك يكره الأبواب الزرق .تلك ماكرة ، مراوغة وتتآمر على السماء .  باب بيتك مقوّس ،  للشمس  نصفه والآخر للقمر ؟ أراك تنحني وأنت تلجه وما كنت قطّ محتاجا إلى كلّ ذاك الانحناء . لست سامقا ومع ذلك خلتك مرّة تجمع النجوم . كنت ليلتها أرقبك عن بعد وعيني زرقاء اليمامة وأذني مصغية إلى دبيبك ، خلتني نملة سليمان أحدس خطوك  وأسمع نبض حذائك يذرع الأرض . من أين تراك أتيت بهذه الليمونة اليافعة التي غرست على يمين المقبل عليك ؟ أنت لا تطيق اللّون الأصفر فكيف استطاعت هذه  إغواءك حتى دلّلتها على هذا النحو فاخضرّت بكلّ هذه الفتنة وأرسلت عبقا أنا أشمّه كلما أغمضت عينيّ أو جاءني النادل بعصيره المثلّج . ولماذا أغلقت كلّ الشبابيك وأرسلت الستائر ،كنت على الأقل تترك بعضها مفتوحا نصف فتحة حتى إذا عبرت مرّة أكون ظفرت بصوتك ينفلت من بين القضبان أو أمسكت بربع ضحكة ترسلها رغم حزنك المكابر . هذا الصباح غائم وثمن الزيت ارتفع وأشغال الأنفاق متواصلة والماء ينقطع بين الحين والحين ونحن لا نفتأ نملأ الأواني وبعضنا يستعير من بعض ونخشى مع انقطاع الماء أن ينقطع الكهرباء ولست أدري لماذا لا ينقطع الماء والهواء إلا في هذه الأحياء ولما ذا لا تنتهي الأشغال أبدا ولماذا  تزداد المدينة قذارة ولماذا قرّروا فجأة أن تتوقف أشغال المنتزه الوهميّ ، كنت على الأقل أذهب لأعابث الأيل أو أحاور الببغاء أو أدسّ في منقار البجع قطعة من الكاكي المالح  أو أرقب الفيل الحزين وهو يغضّ الطرف عن مغازلة الفيلة أو أشتري من عند البياع بالونة زرقاء أو رمادية كقميصك أو أجلس عند البحيرة تلك التي كنت تقرأ لي على مائها المغبّش أشعار كيتس .

أنفاسهي أسرة قليلة العدد تسكن في بيت صغير ذي فناء ضيق. أمام البيت تقف شجرة زيتون مسنة وكبيرة الحجم، تتشعب أغصانها صانعة عريشه تمتد ظلالها إلى باب البيت. تقف الشجرة بثقة وخشوع، حتى تظن أنها توشك أن تخر ساجدة في أي وقت إلى معبود كنعاني طواه الزمن.. مغروزة جذورها في أرض فضاء متوسطة المساحة.. وراء الفضاء يمتد سلك الحدود الشائك، الحدود مع إسرائيل.. خلف السلك من الناحية الأخرى تقف دبابة إسرائيلية متحفزة لنثر الموت وبث الذعر كالعادة.. تقف الدبابة شامخة بلا خوف، وبلا خجل.. تنتصب باعتزاز كأنها تقمصت ملك الموت عزرائيل وتنكرت به، دون أن تلبس طاقية الإخفاء.. وبعز تقف في قلب العرب.. لا تهاب طول اللسان ولا تخشى الجعجعة، إلى درجة أنها لا تكترث بالكلام الكبير الطنان الملتهب.
الأب في الخامسة والعشرين، جسده بالكاد ابيض وقامته مسرفة في الطول، وعلى بطنه كومة من الدهن تصنع له كرشا عظيما له مهابة وأبهة طيبة.. الزوجة في الثالثة والعشرين، سمراء، متوسطة القامة، لها جسد متوسط السمنة جميل ومسحوب بتناسق كأنه صب في قالب صنع خصيصا من اجلها، وطري مثل الملبن، جمالها متعطش للحياة بعيدا عن الموت والرعب.. الحياة التي تبحث عنها في كل يوم وفي كل ساعة بلا كلل، وهي دائما على أمل، ضئيل هو ولكنه أمل..

أنفاسوقفنا في طابور طويل، كل منا ينتظر دوره. بعضنا يضرب زميله بالصفيحة التي يضعها على رأسه، وبعضنا الآخر يقع متعمداً على ظهر رفيقته التي تنتصب أمامه كلوح مسجى.
كنت أقف وحدي، بعيداً عن كل أقراني، أتأمل العابرين والعابرات، تحاصرني دهشة الوجوه المحطمة، الملابس الرثة، المهترئة. أحدق بعيونهم تارة، وبالسماء تارة أخرى، لا ألوي على شيء، سوى العودة باكراً إلى خيمتنا، لا ككل مرة فيضربني أبي (علقة ساخنة).
أمام (طلمبة) الماء وقفت، ملأت صفيحتي ثم خرجت من هول الزحمة. وفجأة، ودون سابق إشعار رأيت رنا، تتقدم وكل رمال المخيم تتعلق بين قدميها، الماء يبلل ملابسها المتسخة. تنظر نحوي وتضحك، ثم تجري فأجري خلفها كمجنون أدرك فريسته اللذيذة أخيراً، وحين تصل باب بيتهم، أكون قد أنزلت عن رأسي تلك الصفيحة الصدئة التي أرهقني حملها، أعطيها لأمها، فتدعو لي بالخير، ثم تدعوني لشرب كوب من الحليب. أرفض خجلاً وأنا مطأطئٌ رأسي، ثم أعود حاملاً صفيحتهم بانتظار دوري مرة أخرى، ومرة أخرى يضربني أبي حين أغادر الطابور قبل أن أصل الماء المتخثر في أرضنا.
ذات ليلة، خرج أبي عن طوره، وضربني بكل قسوة، لعن (سلسفيل) رنا ابنة الجيران التي عرفتها، كان يعتبرني أحمق، أخدم الآخرين على حساب بيتنا المهدم في المخيم، ثم لا تهدأ ثورته إلا بعد أن يشتم أمي بجلافة، فيقول:

أنفاسجلس على كرسيه الجلدي المعتاد  ، في ركن بعيد عن شاشة التلفاز المسطحة و المعلقة بين فكي جدار سميك ، تشد إلى ألوانها و حركات صورها ، أبصار الكثير من الرجال المختلفة أعمارهم ، ينتظرون في خضم تفاعل أدخنة السجائر الرخيصة ، بدء مقابلة في كرة القدم ..ربما قد تكون مباراة للفريق الوطني .. لم أكن أدري و لا أهتم بتاتا ، بهذه اللعبة إلا من باب استحضار سحر قواعد اللعب  التي يخضع لها عشاق هذه اللعبة المسماة "شعبية" ، لأنها بالفعل صممت لتخاطب الفئة الواسعة من الشعب ، التي كان من المفترض أن تنفض عنها الغبار الكثيف العالق بأبصارهم ، و تكسر قيد خوفهم المٌتقًن  من ركوب سفينة نوح ..
شرع في كتابة ما يلي :
( هم ليسوا نحن . لا علاقة تذكر بينهم و بيننا ، سوى علاقة التضليل ، و التفنن في إبداع المزيد من وسائل التزييف و القمع و الإقصاء ، بشتى أنواعه و روائحه ، في عهد جميل ، بالصراخ الحالم ، الذي كان صمتا في الأمس القريب ، و الذي كثيرا ما تغنوا فيه بالكلمات الرنانة ، و أعلنوا على العديد من منصاتهم  المتحركة ، في خطبهم الرسمية ، عن ولادة جديدة و نوعية ، لزمن مختلف بحداثته المصنوعة من قصب السكر ..
 هم قلة ..، لكنهم أقوياء بصمتنا ، المغسول بسائل أسود يخفي أكثر مما يبوح ..، . أما  نحن فكثر كحبات الحصى المحاصرة ، داخل زنزانة غياب مد الموج الهائل ، لا يهمنا أن نرى غير أخطائنا . . و هي بالضرورة أخطاء الآخرين من قبلنا ، تعودنا تسميتهم بالآباء و الأجداد .. و السلف المبتور العين ..أعيانا الركض الخاسر وراءهم .. و الآن لا اتباع بعد اليوم ، سواء كانوا سلفا أو خلفا ..

أنفاسوعاد من سفره، لم تكن تتوقع أن يرجع بهذه السرعة، هو يسافر متى يشاء، ويعود متى يشاء، وفرحت رغم كل شيء، ثم رفرفت في البيت كفراشة. أخذ دوشا ،ثم تغدى ونام، وتساءلت: ما المانع لو قدم لي الهدية قبل أن ينام؟
في المساء استيقظ، شرب قهوته، دخن سيجارته في البلكونة، وعندما كان يهم بالخروج، قال لها: لا تنسي أن تردي أشيائي إلى الدولاب،أسرعت إلى الحقيبة، لا شىء في الحقيبة.. عند منتصف الليل عاد يتمايل، ارتمى عليها قائلا: تعالي، أريدك الآن، تعالي..حاولت أن تنسل منه، فترنح ودفع كرسيا بقوة، فصاح الرضيع باكيا،.نطت كغزالة نافرة نحوه، هزته وبدأت تهدهده وتغني له: نم ياحبيبي..نم يا..قاطعها وهو يستلقي على السرير: تعالي، قلت ضعيه وتعالي..

أنفاسنمت وأنا أتمنى لو أنهض فأجد نفسي في عالم آخر ، لا يوجد فيه أي صوت إلا الأصوات التي أودعها الله في مخلوقاته عند خلقها ، حفيف الأشجار، وتغريد الأطيار، وصفير الرياح تحمل الأتربة وتنثر الغبار ، وصوت البراح يتجول في الأسواق بصوته ذي البحة ، يبشر بالمواليد وينعى انطفاء الأعمار ، يرد عليه مغني السوق يروي قصة الإنسان أيام كان إنسانا ،يسكب روحه خالصة في مقطوعات، تتعانق فيها الأجيال تسمى أشعار تتراقص مواويلا تبكيها  الأوتار.
  ونمت،  يا حافظ يا ستار ؛  نمت وأنا أدعو: اللهم استرنا من الخافيات و المخفيات ،ومن المنافقين والمنافقات،  و من البارزين من تحت الأرض والبارزات، ومن النازلين من السماء والنازلات ، واسترنا من القياد وأتباع القياد و عبدة السادة والأسياد ، وممن شابههم من أبناء الحرام وأراذل العباد.
  نمت وما نمت ، وإذا بالباب يدفع ، ويدخل منه القايد ببرنوسه الأحمر على حصانه الأشقر ؛ تتبعه محلته ذليلة مهرولة،  أخذت تصطف وتلتف حولي حتى أحاطت بي من جميع الجهات وأغلقت الحلقة،وقدمت لي القايد بصوت واحد متجانس متناسق: أيها الأبله هذا الزعيم ،الشهم الكريم ،سيد بالأمس سيد اليوم ، بهذا شهدت الأمة وأقر القوم ، وأنت تتعوذ منه دوما قبل أن تخلد للنوم ، وتتناسى أن تلهج باسمه .
قال الزعيم: ماذا ترى؟

أنفاسشتاء يتكتم اسراره ، مغمس برائحة المطر والطين ، ومزاريب توشوش للارض الموات مخلفة اخاديدها وحفرها للصيف المعضود بسواعد تشق التراب في محاولة لتحرير اللقمه ، من ذل استعباد يهددها . قطرات المطر تدغدغ زجاج النافذة المكسور ثم تنساب بهمس عازفة سمفونية الشتاء تدفئ ارتجاف ضحكاتنا تهددها الليالي بوحشة ، اصابع الليل تنساب في الاركان والزوايا ، بلا استئذان بينما تنساب اشعة الفانوس الشاحبة على وجوهنا العتيقه ، البالية الملامح ..
وجه امي بالذات ، يثير في سؤالا قد يبدو للوهلة الاولى غريبا او ابلها ، حين كنت انظرها تعارك زمنها ، تحسم امر الحياة معها ، لها ولصالحها ، بقوة  لعل ملامحها ، قوتها وتحديها ، كانت جميعا لامرأة اكديه ، او سومرية ، ورثتها والدتي عنها ، كما ورثت بؤسها ، ولعل ملامحي انا نفسي بكل نحسي كانت مثل ملامح امي ، ارثا بائسا عن سومري ، او اكدي ، متعثر ، ارتاد كل حانات الفقر كما ارتدها ..
لازالت ذاكرتي تحيي في وجود تلك الوجوه القرمزيه ، بشعورها الشقر المصففه ، وعطورهم العبقه بحده ممزوجة بقهر يترصدنا ، وهم يسندون تماثيل اخرجوها ، الى حائط المدينة القديمه ،  يدارونها بخرق قماشٍ وفرشٍ غريبه ، ينفضون عنها التراب ووجودها فيه ، بينما نحن نتمادى متحلقين حولهم ، بعفويتنا ، وازعاجاتنا .... لازال مرفق احدهم منطبع الاثر في جبهتي ، بينما انا احاول بعبث طفولتي مهتما ، ان اعرف ماهية هذه التي يدارونها ، وسر اهتمامهم بها….

مفضلات الشهر من القصص القصيرة