أنفاسبدأت قطرات المطر ,بعد ليلة عاصفة ,تنساب بهدوئها الناعم الأخرس على زجاج النافذة المطلة على فناء المنزل.فناء ملأته أقفاص طيور الحسون التي كانت أيضا تملأ صباحاتى باحساس تواصل الربيع حين تشدو.
   عمر شاب في عقده الثالث,يسكن الطابق الأرضي.وحيدا مع طيور الحسون.
يشتغل سائقا لحافلة نقل المستخدمين,يدخن الحشيش ويشرب الخمر مع كل موعد صرف الرواتب.يقضي وقته وسط طيوره,يحدثها " بس بسس بسسس..." يزاوج بينها ,يعتنى بفراخها,يعلمها الشدو بواسطة اشرطة واقراص تكرر النغم آليا دون كلل.
 كلما جالسته ,كان يكشف لي عن نوادر كبار المبدعين .بادرنى بالسؤال مرة
" أتعرف ذلك الكاتب الذى كانت ترافقه سلحفاة؟"
" نعم ,أعرفه انه كاتب عظيم رجم عوض أن يكرم .."
لم يفهم كلامي على مايبدو,لكنه أضاف " لا أحب ما يكتبه العرب ـ ونطق "العرب "برطانة فيها عداء ـ
  عمر لا يقرأ كالكثيرين,لكنه يطلق احكاما كالكثيرين أيضا.يداوم على اقتناء جريدته الاسبوعية,يلوك ما جاء فيها مع قليل من الحذف وكثير من الاضافات التى توافق هواه,فيتفتق خياله عن تخريجات ماشاء الله...

أنفاسيثور غاضباً في وجه سحنته المُتجعِّدة أمام المرآة ، تكاد سباته المعقوفة إلى الجهة اليمنى أن تلامس  أنفه :
أنا من أنا ، أقف عاجزاً لحد الهزء بين حُثالة هؤلاء القرويين  . 
يَرتدُّ إليه صوته المنحبس في جوف محاصر بحموضة مقززة ، كم  نصحته زوجته بقلع أسنانه  :
هذه الرائحة الكريهة ، لن تزول إلا بتغيير الفم المُسوَّس حتى ضرس العقل  .
في المدرسة الابتدائية التي ودعها غير آسفٍ على طرده لغير رجعة , لقّنوه مفردات الكرامة والعزة والإباء وما جاورها , فظل يربطها بهذا الأنف اللعين ، تحسَّسه ، لم يشعر بأدنى أسف على تضييعه لتلك القيم منذ تولَّى رئاسة المجلس البلدي بالاسم ، حتى الحزب الذي زكَّى ترشيحه باسم شعارات أدبياته ، لم يعُدْ يقبل العمل بها في الواقع ، لمس حرج الإخوان من التعرُّض لما كان يُسَمَّى إلى حين ، بالمبادئ الحزبية في أوَّل لقاءٍ بالزعيم القائد   .
غطَّتْ بدانته أمام اللوحة الزجاجية على ما خلفه ، فلم يلمح وقوفها مشدوهةً تعاين الرجل مُكلِّما نفسه ، للمرة الثانية ، تضبطه في حالة تلبُّس ، لن تحاول إيقاظه من غفْوته ، سوف يتهمها بالتوهم  : 

أنفاسلو تعرفين وهل إلاَّك عارفة هموم قلبي؟ رددت الكلمات مرارا وأنا أحس كأنما هي كلماتي آتية من الأعماق يغلفها الحزن ويجللها إحساس بانكسار في داخلي. كادت أن تهمي دمعة من عيني. ترقرقت ولكنها تحجرت في الجفن. تذكرت أمس حزني المكبوت وقهري الصامت وبكائي في سواد الظلام كي لا تحس بي أمي فيصيبها الحزن وتشرع في البكاء والنشيج.
كانت فيروز تغني بصوتها الملائكي والدنيا تألقت باشراقة نورانية. كان الفضاء صحوا والهواء باردا عليلا في صباح من صباحات نيسان. لكن الأمر لم يخل من إحساسي الدائم بالحزن يسري في أعماق القلب وفي شراييني فأحس باضطراب داخلي . بدت الدنيا كلوحة انطباعية بألوانها اللازوردية الزاهية من ريشة فنان كرذاذ أثيري رائع. لكن إحساسي بالحزن صار غريزيا. لقد تغير شيء ما في داخلي. لم أعد أنا ذاتي. أفكر بالألم قبل اللذة، وأستشعر الحزن قبل الفرح. نيسان يثير فينا ذكريات. يوقظ الشجن وينكأ الجراح. نيسان وما أدراك ما نيسان. تذكرت اليوت حين قال انه أقسى الشهور ينبت الزنابق في الأرض اليباب. أحس نفسي مثل صحراء جرداء لم يعد ينبت فيها نخيل وجفت واحاتها. صار البيت عالمي الوحيد وأرضي اليباب. كنت أشعر بالضيق والاختناق أول الامر، لكنني تعودت عليه وطوعت إرادتي وآمالي وأحلامي لتعيش فيه بغير شكوى أو حزن. لم تعد الوحدة ترعبني كما كانت أول الامر.

أنفاسهرولت مسرعا ومن فراش نومي الى مفوضية الشرطة , رغم أن الساعة تجاوزت منتصف الليل , لكن الطارئ الذي حدث في منامي أرغمني على الهرولة الى هناك!
وجدتني أمام شرطي نائم ملقي بجسده ذو البناء العشوائي على الأرض مباشرة أمام المفوضية ويغط في نوم ثقيل , دلفت ومباشرة   أمرت قدمي بالتوجه الى درج البناية لأجدني واياها في غرفة مضاءة من مجموعة مغلقة , ودون أن أشتم رائحة كائن بشري هناك. ولأجلس على كرسي هو كل ما هنالك!
وشرعت أصرخ وبصوت رخيم ورومانسي: لقد سرقوا الشمس! أعجبني هذا الموال وأعدت : لقد سرقوا الشمس!
أحسست بثقل على كتفي , وبيدين بحجم جبل تجثمان علي , وبرعشة تغمر كل جسدي وصوت جهوري يستفسر أي شمس؟
_ قلت: الشمس التي خلق الله!
لكن اليدين توزعتا , واحدة ربتت على كتفي وأخرى التفت حول رقبتي , و بالصوت يهدأ من روعي وبلطف لا تخف ستعود الشمس؟!!!!
بعدها ما عدت أذكر الا أن تيار الكهرباء في جسدي انقطع , ولاستيقظ صباحا مهشما كلوحة زجاج سقطت من اعلى, بالكاد بقيت بضع أضراس في فمي, ووجدتني ممددا وسابحا في بركة من دمي , وخشيت أن أكون تعرضت لإتلاف سلطوي , لكن حذاء أسود لمحته عينياي وصوتا يدغدغ - هنيئا لك - تمتصه أذناي بل وتحدث عن فشل محاولة قلب النظام باعترافي الخطير عن أسرار " عملية شمس" ورمى أمامي كتبا من حجم أربعمائة صفحة لتوقيعه.

أنفاسفسحتها الوحيدة، نافذة بشباك حديدي.. تعودت أن تقف أمامها لساعات طوال رغم اعتراض أبيها.. يأتي صوت الجدة، حادا:
هل نادى المؤذن على الصلاة؟
باقي.. تجيب بصوت غائب
وتواصل وقوفها هناك.. تخشبت رجلاها.. تغير زاوية الرؤية.. تلتفت إلى يمين الشارع.. تتابع حركة المارة، وتستنتج آخر أخبار الجيران..
منذ منعها والدها من متابعة الدراسة قبل سنوات، قلّت فرص احتكاكها مع الناس.. بالكاد تخرج مرة أسبوعيا للذهاب للحمام..
تلك الجارة كانت حاملا قبل أسبوع.. وهاهي تنزل من سيارة الأجرة برضيع بين يديها.. وصديقتها نورة التي تلتقي بها في الحمام، قد غادرت للتو لملاقاة حبيبها.. وعدها أن يتزوجها الصيف القادم..
هي، كانت تتوقع زيارة من أهل ابن البقال، لكنه أتى بعروس من قريته قبل شهرين.. أخبرتها نورة أن العروس صغيرة جدا ولا تعرف شيئا من أشغال البيت ولا ال....

أنفاس- توقف يا إبراهيم، توقف وإلا أطلقنا النار عليك.
هربت كمجنون يسابق الريح، هربت وأنا لا أرى شيئاً سوى الفراغ، صحراء من الخوف تحاصرني. أعدو رافعاً بنطالي إلى أعلى كي لا يتسخ، لكنه رغم ذلك يغرق في أوحال القمامة.
عند مفترق للطرق تواجهني زحمة غريبة. جميع ركاب الحافلات يحدقون في وجهي، أصحاب السيارات يشيرون ببنانهم تجاهي أيضاً. وأنا لا أعرف شيئاً سوى الفرار. شيء واحد يهزني من الداخل، "ماذا حدث؟!"، وفجأة أصطدم بسيارة تمر من أمامي مسرعة فأسقط أرضاً، أهذي، أترنح بين الإغفاءة والحلم، كأنه أغشي علي، أو كأنني مت، كنت أسمع خلال ذلك بعض الهمهمات، واللغط واللعنات.
عندما استيقظت وجدت نفسي مكبلاً بالقيود داخل أحد الكهوف، وعلي عينيّ عصبة سوداء، حينها خشيت أن أكون قد عميت، أو أن عينيّ غاصتا في بحيرة من عتمة. خلال تلك الأوهام بصق أحد الأشباح في وجهي وهو يلج المكان، فصرخت في وجهه:
- اللعنة عليكم.
- ............
- لماذا أنا هنا؟ ومن أنتم بحق السماء؟

أنفاسأجزم.. لم يكن لأبى يوماً مثل هذا الصندوق الأسود المرتفع؛ لم يكن في بيتنا مكان يمكن  إخفاؤه به.
  .... وكان يمد يده ويخرج أشياء متعلقة بطفولتي، لا أعرف، يقيناً، إن كانت مرَّت بسنوات عمري الأولى. أذكر الحُـلل العسكرية الثلاث: جيش، وطيران، وبحرية. أذكرها، وكانت – كلها -  تحمل رتبةً لم تتغير، هي "البكباشى"؛ ولا يزال محفوراً في وعيي حزني وحسرتي، لأنها كانت –  جميعهـــا -  بلا غطاء رأس.. كانت نقود أبى تعجز - في كل مرة- عن شراء الزيِّ كاملاً .. وكنت أقضي أيام العيد أحاول ألاَّ أُبدى النقص الواضح، ليكتمل زهوي بين عيال الشارع وتميزي عنهم. وكنت - عندما يسألونني - أرد عليهم، كما علمني أبى، وبشيـئ من عدم الاكتراث: الضباط العظام لا يضعون غطاءً للرأس في كل الأوقات!.
     دعوني أُســـــــلِّم بأن أبى كان يملك مثل هذا الصندوق الأسود الكبير؛ والحقيقة هي أنني متأكد من أن هذا الصندوق، نفسه، كان يخص "الجاويش الشوربجي"، زوج "الست أم محمود"، جارتنا بالبيت الكبير، في ( غيط العنب ). تسللت يوماً إلى حجرة النوم الملحقة بـ "المقعد الكبير".. كان الصندوق مفتوحاً، تفوح منه رائحة الملابس والمهمات المخزونة، وكان به بذلات الشاويش البيضاء الصيفية والسوداء الشتوية،  وأحذية غليظة،  وبطاطين ذات ملمس خشن؛ كان هدفي أن آخذ غطاء رأس أسود،  وأن ألمس المساحة النحاسية المستطيلة اللامعة في حزام الشاويش الشوربجى؛ ولكن الوقت لم يسعفني. كانت أم محمود مستلقية عارية فوق السرير .. لم تنهرني،ولكـن أطلقت ضحكتها الرنانة ذات الذيل، وقالت بلطف: " عايز إيه يا ولد إنت يا عكروت؟! ".

أنفاسحبات المطر في الخارج تتناثر بتمهل على زجاج النافذة ، فتحدث صوتاً ناعماً يشبه النقر البطيء على صفيحة فارغة . وضوء الشمس لم يعد يرسل جدائله.... يتسلل عبر خروم الستارة العتيقـة المتدلية على النافذة بوساطة مسمارين مثبتين على الحائط . كانت العاصفة الثلجية قد انجابت، وهدأت قبل قليل... وثقل المكان بالسكون، والقلق والترقب ، باستثناء نقر حبات المطر الخفيفة المتباعدة ، وصوت خرير مياه الأمطار تسيل باتجاه القنوات والحفر في الشارع الموحش الخالي من المارة .
في الداخل ، كان الزوجان جالسين حول وابور الجاز يطلق فحيحه باتصال قبيح ، يمـدان ذراعيهما فوق رأس الوابور المغطى بقطعة معدنية صدئـة ، يبسطان بطون أكفهما الباردة لحظة ، ثم يخطفانهما، ويشرعان بفرك البطن بالآخر، والأكف ، ينفخان، ويتوحوحان مثل طفلين بريئيـن يحاولان طرد البرد من أصابعهما البضة المتورمة . بالقرب منهما كيس بلاستيكي شفاف يطفح بالكستناء ، يأخذان منه الحبة يضعانها على الوابور يشويانها ، وفور أن تحترق القشور يدفعانها فتسقط على الأرض ، ثم يندفعان يقشرانها ، يلتهمانها بشراهة ، وهكذا دواليك الحبة تلو الأخرى .
قبالة الزوجيـن يرقد تلفاز لا يند عنه صوت ، هيئتـه تزيد من حدة القلق والقرف في نفسيهما ، بسبب صوت الأنيـن المنبعث من الغرفة الأخرى ، ينصتان إليه دون اكتراث أو وجل . كانت أم الزوج وحماة الزوجة : العجوز طريحة الفراش منذ مدة ، تصرخ وتتألم كأن ناراً نهمة تزدرد أحشاءها، تتـاخم حدود الموت : وتتأوه تأوهات جشاء . أنينها يقطع القلب ، ويكاد يهزّ الجدران ، ويصفق الأبواب والشبابيك ، وكأنه يريد فتحها يشرعها نحو الفضاء شاكيا علّ أحدا من العالم الخارجي تتحرك لواعجه .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة