أنفاس أسند إبراهيم ظهره إلى الحائط، وسحب رجليه متلاصقتين متخذا من ركبتيه متكئا لذقنه، وأرسل وجدانه يلملم جراحا مبعثرة من ماضيه،  تمتد غائرة متقاطعة كنسيج العنكبوت، كل خيط يهتز منها، يهز الشبكة كاملة.
كانت أمه حزينة، ومازالت ،حزينة لأن الأيام كانت تعاكسها ، مات زوجها الثاني واستمر الحفر في عمق الذات ،كانت خناجره تقطع أوصال الروح وترمي فتاتها لديدان الهم ،  فترسل الروح نشيجها تمتصه حافات الشعاب المحيطة ذات الألوان الشهباء المصفرة وقد تعلقت بها أشجار الطاقة والصبار.
 وكثيرا ما كان  إبراهيم  يتساءل وهي تهز أخاه الأصغر فوق ركبتها : هل هي تغني باكيه  أم تبكي مغنية!؟ .
– ما سرك يا أماه!؟ و من أين يغزوك هذا الأسى !؟، يهم بسؤالها ولكنه يتهيب، فيندفع كالسهم خارجا كي لا تمتد جراحها إلى وجدانه.
يهيم إبراهيم على وجهه مشردا ، يقفز من حجر إلى حجر ، يعتلق بهذا الغصن ثم بذاك ،يكسر ما استطاع تكسيره، يلتقط  الحجارة ،  يقذف بها الغيلان التي تحاصر آسرته ؛ يشعر بوجودها ؛ تطل عليه من وجه أمه ولا تغادره يغني يصرخ ، ينادي تدخل حفيدته .
- ما بك يا جدي، لم تنادي
- لا شيء، لم أناد يا بنيتي.

أنفاس.." قل لهم بأنني لن أرجع,لا يوجد شيئ يحملني على البقاء في هذي البلاد,أنا ميت في كلّ الأحوال, ولياكلني الحوت ولا ياكلني الدود .." .. [ رسالة عثر عليها في قميص حرّاق جزائري مات غرقا قبالة السّواحل الإيطالية ]
*****
..يجلس أربعتهم على شاطئ ما,قد يكون أحد شواطئ عنابة,الجوّ مشمس والبحر هادئ والرّؤية التّخيلية البعيدة تغري لمن سولت له نفسه التّحديق برغبة وتمني في أثر حلم الأرض الموعودة, الدورادو ضريبة الموت المصنّفة حسب كتالوج عولمة اتخذت في بادئ الأمر شكل نبوءة حضاريّة واعدة لكنّ فيما بعد انكشفت الخديعة وظهر الاليزيونيست المتلاعب على حقيقته و انشطرت حيله البصريّة الآسرة الى ما يشبه اللّعنة المتفشيّة في حواس غلبتها الغيبوبة على الاستيقاظ,العبودية على الانعتاق والإعجاب المهووس على التّحرّر التّام,ضريبة موت محصّلتها كشوف اسميّة عديمة الأهميّة لغرقى ومفقودين ومجهولي الهويّة في حضيض الوطن الفوضى والانهيار,وطن مريض الوهم التّاريخي يقرأ معالم مستقبله بالتّنقيب بين رفات أمجاده الماضويّة الغابرة طواها القدم والنّسيان مؤسّسا لثقافة تمسيح الموت وتمسيخ الحياة[البحث عن العظام,الطاهر جاووت], يتحدّثون بحماسة وإعجاب عن سيرة مهاجرين عصاميين كلاسيكيين جعلوا من مغامرة اللاممكن والمستحيل نجاحا باهرا و انتصارا مذهلا على عقدة الفشل هي مكتوب إنسان الجّنوب الملعون حسب الرّواية الشّائعة بين عامة الّناس القائلة ان هذا الانسان ان لم تغتله ديكتاتوريّة الزّمر والسّلط التوتاليتارية والحروب الأهليّة وفساد الأزمنة والأمكنة والانتحار فالهجرة هي خاتمته الأقل تراجيديّة من أضعف الإيمان.

أنفاسقدَري إمرأَةٌ نَيِّقَةٌ
تَقْتَرِفُ الخطايا العَشر
على أنغامِ العود !
وحكمَةٌ تُبايعني على كُلِّ شيءٍ
إلاّ الجدوى !
قَدَري
 أنْ تُعاصِرَني ألسنةُ النيرانِ
وتَعْصُرَني أطواقُها الثُعبانيَّةُ
بكُلِّ لَذَّةٍ وانخِطافٍ
قالوا : ليستْ نيراناً هذهِ
إِنَّما نجمةُ الصباح
قُلْتُ : حتى أنتِ يا نجوم ؟!

أنفاسمحاولتي أن أرى آخرَ النفقِ الآدميِّ مكللَّةٌ بالجنون
وفهمي يجللِّهُ العقمُ
قلبي يجللِّهُ حلُمٌ مزعجٌ
وأنا في اندهاشٍ غريبٍ عجيبْ
محاولتي لا تلامسُّ من حكمةِ الشيءِ غيرَ الرخامِ الرتيبْ
 
أناسٌ يجنُّونَ قبلَ الثلاثينِ , تصدأُ أرواحهمْ كالحديدِ الجديبْ
أناسٌ يجنُّونَ , ينتحرونَ , بأوجِ احتفاءِ الربيعِ بهم يذبلونَ بلا حكمةِ الصيفِ
ينكسرونَ , كأشجارِ رملٍ , لكلٍّ طريقتهُ حينَ يعلنُ لعنتهُ , حينَ يطفىءُ وردتهُ
آهِ قبلَ الثلاثينَ , قبلَ الثلاثينَ
هذا بلا سببٍ , ذاكَ شيطانهُ بلغَ الحلمَ , ذا يتنصلُّ من نفسهِ أوَّلاً ثمَّ من زوجهِ

أنفاسأخذت الطريق المعبد المؤدي إلى مكان العمل.انه طريق طويل بعض الشيء عن الاتجاه الآخر الذي كنت أسلكه عادة.و يسلكه أغلب العاملين معي خاصة الذين يسكنون قريبا من مسكني. كنت قد قررت منذ البارحة أن أغير اتجاه طريقي لأقضي على الروتين الذي استوطنني منذ مدة.أٌقول منذ بدأت العمل بهذه المؤسسة..يوم ولوجي إليها، أخذت مكتبي بين الموظفين الآخرين، و كان أغلبهم تجاوز سن الأربعين و بدت عليهم علامات الكبر و الترهل في الحديث و في العمل حتى مشيتهم تراجعت و لم يعد لها أي لون.قلت لنفسي" يستحيل أن أتحول إلى شبح يقضي وقته مسجونا بين هذه الكراسي و الحيطان." كم ضحكت على أحلامي في هذا الصباح خاصة بعدما أدركت أنني تجاوزت السنوات العشر و أنا أعمل بهذه المؤسسة."لقد هزمني الزمن."أكملت طريقي علني أجد شيئا جديدا لم تألفه عيني من قبل.هناك أجساد تتمايل يمنة و يسرة، و عيون بلهاء تحدق في الفراغ أو ترى أشياء أمامها.صور مألوفة لا جديد. كأنني بنفس الشارع الذي ألفته في السابق.تثاقلت خطواتي و تمنيت أن أظل على هذا المنوال و لا أصل إلى مقر عملي. فجأة،و أنا أتجاوز مجموعة من الأزبال  مرمية على حافة الطريق،لفت انتباهي قطيع غنم يحاول راعيه أن يجنبه مخاطر الطريق.فكان في  كل مرة يلوح بعصاه في الفضاء و يخرج أصواتا مبهمة لا يفهمها سوى القطيع.و في الخلف، امرأة مسنة، تجر كبشا مشاكسا من بين القطيع و يساعدها طفل صغير لم يتجاوز بعد سن الطفولة.ملحفة بغطاء أبيض و تضع على رأسها رداء من الصوف و لا ترى سوى عينيها الضيقتين.

أنفاسإنه  وهج البحر ، هذا القادم من مركب أسئلة معتقة، في فصل ساخن  ، تستعد  أشجاره الحزينة ، أن تلقي بنفسها للهيب الصمت المختلف ، قربانا لآلهة الحرف المهمش، الذي لم يولد بعد . هي مدخنة العمال تحكي ، تلك التي تنفث الآن رائحة الأجساد المحلقة في عيد السواعد ، و تجاعيد بحر قوي ، فضل ركوب صهوة الاندهاش .
هل حان وقت ثأر الأحجار من عنف أسواط الانتظار ..؟
كيف السبيل ، إلى إشعال شرارة صهيل  هذا الفرس الهارب باستمرار ، و المنقسم إلى فصول علاها صدأ الأمس ؟؟ و بفعل نزلة حرارة لا حد لها ، يزداد الفارس انكماشا و حيرة ، داخل صرخة صمت بحر تدخنه الحيتان ، و بإتقان كبير تلسعها  محارات قصائد جميلة ، تمجد يقظة تجاعيد شوارع المدينة ، و لا تمجد جليد المستنقعات  . 

أنفاسمنذُ مساءٍ طاعنٍ في عهرهِ , عرفتهُ فتىً كنهرٍ ضائعٍ في أبدِ الصحراءِ
كانَ هادئاً وناعسَ العينينِ والمسحةِ كابنِ النبلاءِ , مائعاً
جمالهُ مُهذَّبٌ , مشذَّبٌ , وصوتهُ مُقصَّبُ الصباحِ والمساءْ
نظرتهُ / بسمتهُ , مصيدتانِ للَّتي ما رجعت يوماً إلى أحلامها البيضاءِ
أو جنتِّها الخضراءْ
نموذجاً مُطوَّراً عرفتهُ , لكلِّ ما الذئبِ من قساوةٍ
لكلِّ ما في الثعلبِ الأحمرِ من دهاءْ
مُحتالُ عصرِ النتِّ والبورصةِ والعولمةِ الهشَّةِ والفضاءْ
يمزجُ عبقرِّيةِ الخداعِ والزيفِ بعبقرِّيةِ الذكاءْ
لكنني مستغربٌ لوهلةٍ , كيفَ استطاعَ ذئبهُ استدراجَ آلافَ الظبِّياتِ ....
استطاعَ نَسرهُ استدراجَ آلافَ اليماماتِ ؟

أنفاسلا حاجة لكرنفال لاستقبالي, ولا حاجة لكم لتقديم التعازي في الميت انا ؟؟ كل ما هنالك أني مت , وأني في شوق لأسمعكم حكاياتي , حكاية موتي... لقد علمت قبل مقدمي اليكم عفوا قبل تنفيذ القاتل لجريمته في حقي أنكم أيضا قتلتم .
آه نسيت!!!! كنتم  شموعا مثلي وخضعتم لقانون روبرت بويلي حيث يستحيل على فأر أن يعيش في هواء تشتعل فيه شمعة , وحيث يستحيل لشمعة ان تشتعل في هواء مات فيه فأر؟؟
 نعم نفس الفأر ونفس الموت ونفس القاتل -الإله المقدس- "فأر ميت" ولكني وبالمناسبة هاته ليست في حقيبتي إلا الأخبار السيئة , أن  جرائم القتل تقيد ضد مجهول - باعتبار قتل الالهة للشموع واجبا مقدسا- بل واكتشفت نظرية خطيرة أن هذا المجهول الفأر الميت-  من حقه ان يطفئ الشموع ويقتل الشموع ويمتص دماء الشموع لأنه ببساطة لا بد للعميان من اله يقدس! ولينبعث هذا الفأر الميت لابد من تقديم دم الشموع قرابين له.
ببساطة لان العميان لا حاجة لهم بشموع؟
أيها الموتى!