أنفاسالتقيتها. لم تتأخر كثيرا عن الموعد المضروب بيننا سلفا, عيناها حمراوان مثل حبتي طماطم ناضجتين. دخلنا إلى أقرب مقهى هروبا من عيون تحترف الفضح كما قالت هي.
رميت جثتي على مقعد وجلست هي قبالتي. صرت أدخن, صامتا. عيناها الماتزالان حمراوين تنبشان في وجهي. أحسهما. أشعلت سيجارة أخرى بجمر السابقة. جاءني صوتها:
- تدخن كثيرا!؟
- .........
- لماذا تدخن؟
- لأني أدخن.
عبرت ابتسامة تفتعل الحزن إلى شفتيها.
سرحت بعيدا. كانت ترمقني, لعلها تنتظر أن أقول شيئا. ليس عندي ما أقوله. هي اتصلت بي وطلبت لقائي. كثيرا ما كانت تؤجل هذا اللقاء عندما كنت أنا أبادر بطلب ذلك. كانت تتذرع بأسباب لا تقنعني ولو أني كنت أبدي تفهمي لظروفها. وهاهي اليوم تبادر. لم أسألها عن سر الحمرة في عينيها. خمنت بأني لو فعلت ذلك فقد أفتح علي بابا من الإزعاج لا طاقة لي على إغلاقه. أيكون لهذا الأمر علاقة بلقائها بي؟

أنفاسالى الطاهر بنجلون
باريس ما أجملك وما أروعك !!!ونسيم هذا الجو الربيعي يعطرك, لو أنك تسمعين ...هاهي قدمي تطؤك ! عصفور أنا أغرد وغردت من اجلك كيف لا ؟ وانت الحلم والامل والسلام والشجرة!!!؟
يا جميلات الجميلات ,ويا عروس الحوريات ,هذا النمل النشيط سكانك! وهاته الأغصان الوارفة الظلال شوارعك !  وهاته الارواح المحلقة تحرسك فلاسفتك وشعرائك ومبدعوك!ا.
أيتها الحالمة الغارقة في فلسفتك الوجودية, كم تمنيت أن أجالس حراس معبدك: جان بول سارتر,فيكتور هوغو, وارتور رامبو ,وبول فيرلين،جان جاك روسو, وأرمان روبان...وغيرهم ممن تطول ولاتنتهي لائحتهم.
أيتها المتمنعة لو أردت وزن الشمس ذهبا مهرا , ووزن القمر قرطين هدية , ووزن الجبال فضة خلاخل تكسر صمت قدميك , لكنت الفارس اله عشتار يقدم اليك , وانت في ثوب عرس على جواد ابيض تنتظرين هذا الذي يشق غبار القدوم الى احضانك.
ها أنذا أغرد كالعندليب وقد حققت الحلم المستحيل لا أريد منك خبزا ولا عملا ولكن قبلة!!!ا

أنفاسألقى الموج بالجثة على الشاطئ كانت عالقة بصخرة تشبه لوحا من ألواح ركوب البحر ، كان صاحبها يضرب بيديه بين الحين والحين كما تفعل السلحفاة تماما وهي تنزع نحو البحر لتنجو من خطر الكواسر ، كان  الملح يعلو شفتيه ، و هو يهذي بين الفينة والأخرى ، طبعا لم أحاول أن أقدم له أي مساعدة أو إسعاف ، أولا لأنه لم يطلبهما مني ، وثانيا لأنني لا اعتقد أن ذلك ضروري ، يفيده أو يفيدني ، بل كنت أتمنى لو استطيع أن انسلخ من واقعي وأشاركه أحلامه ، فجلست إلى جانبه أسترق السمع ماذا يقول الإنسان لحظة وقوفه على العتبة الفاصلة بين عالمين.
قال :كانت لي قطعة أرض من أبي هدية له من أجداده، سقاها بدمه، ترابها بعض عظامه، بعض عظامي.
سكتت الجثة: أخذت حجرا ورميته في البحر فتلقته سمكة وعندما عرفت حقيقته تركته وانصرفت.
عادت الجثة تهذي:
زرعت القطعة وردا فجاء لونه بلون الدم، ورائحته رائحة الجنة، أعيش على استنشاق عبيره ؛ يسعدني وينعشني فلا أحتاج غيره ومنه تزوجت وأنجبت أطفالا، رائحتهم العبير وعيشهم العبير.
سكتت الجثة: أخذت حجرا ورميته في البحر فتلقته سمكة وعندما عرفت حقيقته تركته وانصرفت فقلت لها أنت طماعة.

أنفاسهو شهر شباط . الوقت ضحى. السماء داكنة وشاحبة، كسحنة جندي ذاهب إلى ساحة الحرب واثق من هزيمته. الضحى والقهوة يتعانقان، شربت قهوة الضحى، فاكتملت اليقظة في رأسي المثقل ببقايا نوم طال به الليل، وانسلت الصحوة إلى جسدي تنبهه متهادية بوقار جليل. إلى النافذة امتد كفي وفتحتها إلى النصف، اتكأت على حافتها الرفيعة، رنوت إلى حافة الأفق، ثم سحبت نظراتي واعدتها بسرعة إلى أسفل النافذة، إلى مساحة صغيرة متربة ثبت نظري فرأيت قط وقطة .. بحلقت إلى قط  اسود متسخ وملطخ بالطين، شكله يوحي أنه أجرب .. وقطة بيضاء نظيفة يلهو الهواء بشعرها الناعم الطويل الناصع الجميل. استلقت القطة بجسدها إلى الأرض وبالأرض التصق ظهرها. مدّت أطرافها الأمامية والخلفية على آخرها. تمطت .. برفق أخذت تتقلب بجسدها المرخي وبهدوء تتلوى، جسدها لين كأنه بلا عظام. ماءت برغبة عارمة للمواء الناعم الهادئ، استمرت تموء بإغراء، غنجت ، فارت، تثنت، ارتخت .. اقترب منها القط نافشا جسمه وشعره .. ضربته برقة ببطن ساقها الأمامي متمنعة، فقفز مبتعدا إلى الوراء قفزة واسعة. اعتدلت القطة ثانية، تبادلا النظرات، تشابكت النظرات متلاحمة في دائرة أخذت تضيق وتصغر في المسافة القليلة الكائنة بين جسديهما. ماء .. ماءت .. مواؤهما اقرب إلى الغرغرة .. أعادت ظهرها إلى الأرض وتمطت .. ماءت، تلوّت، توهجت .. اقترب منها  بحذر مقوّسا جسده المتسخ .. سكتت، ولنداء غريزتها استسلمت .. وقع عليها .. غاص في غريزته، ارتعش، انتعش، انتفض .. مدد جسده إلى جانبها مزهوا. أقعى، صار يغمض عينيه ويفتحهما مطمئنا كأنه يحمد الله ويشكره .. في عينيه بريق سعادة، ووهج نشوة حافلة بالرضا.

أنفاسانتهزت فريدة فرصة غياب والدتها التي كانت تمنعها لقائي,فأرسلت الصغيرة ذات الشريط الأحمر الذي يخنق ضفيرتها الكثة " نلتقي "كلمة واحدة خطت على عجل بقلم رصاص غير مبري بعناية.
سبقتها كعادتي,حجزت نفس المكان ,تحت نفس شجرة الخروب العملاقة واليتيمة وسط غابة نخيل...تصفحت الجريدة التي لم تبخل عنى بمداد لطخ كل شئ,والتي تحولت الى عصا أهش بها  حشرات تجرأت التحرش بي...
رفعت بصري, رأيتها آتية من الجهة الشرقية,تتقدم بخفة وسط ممر ظلله تعانق أشجار الاكلبتوس .خلفها حيث تنعكس أشعة الزوال, سور شامخ يحكي ذاكرة الذين مضوا مند مئات السنين ويحمل خربشات الذين مروا والذين لن يتذكرهم أحد بمجرد طلاء جيري خفيف.
 كانت كأنها تخرج من عبق هذا السور الشامخ أو كأنها لوحة من حياة أندلسية...
سرى نسيم حرك أوراق الشجرة,ظننت انها فتحت مسامها لتسترق السمع,جلسنا وحلمنا ببيت... وقبل لا يخالطها الوجل... وبأبناء ...
كنت ارقب ساعتي بين الفينة والأخرى,لم تقو على إخفاء تضايقها " وراءك شغل؟" أجبت" نعم" وأردفت " اجتماع مهم" .
تعميم استفز خجلها" ما الذي يستطيع أن يلهيك عني ,غير امرأة ثانية؟"

أنفاس[إلى روح نجمة الأرز الضائعة والفراشة غامضة الزهر
ايريس نهري ]

هذا كلامٌ عفويٌّ ليس سدادَ دينٍ ولا ردَّ جميلْ , كلامٌ عفويٌ لا غير , لطهر وسحر روحٍ ذوت في أوجِ الحياة وعنفوانها وأينعت في حدائقِ القلب ,
كلامٌ ينبعُ من مكانٍ خفيٍّ قصيٍّ هناكَ في أعلى الروحِ وأسفلها ولا يجفُّ ماؤهُ أبداً , ولا أريدُ له أن يجفَّ .

(1)

شعلةٌ من دمٍ , ومضةٌ في أعالي الشعورِ , ضحى شاعريٌّ , وليلٌ بطيءُ الهمومِ , إحتراقُ رؤىً تتسللُ من خللِ القلبِ ........
وحدي أنا وجميعُ البراكينِ بعدي هنا سوفَ تأتي كما قالَ ألبرتُ
في الأمسِ , واليومَ صمتكِ هذا المجللُّ بالغارِ , طهركِ , سحركِ
عيناكِ , رؤياكِ , مثلي الذي لا يُقالُ تقولْ

أنفاسقلتُ: بسم الله.. الرحمن الرحيم.. ثم قدمت رجلي اليمنى.. تماما كما يجبُ..
لفحني تيار هواء بارد، تغلغل إلى مسامي كلها. أغمضت عيني.. لوهلة فقط. فتحتهما لأرى..
لا أذكر ما الذي أتى بي إلى هنا.. حاولت أن أتذكر، دون جدوى.. أي اسم أحمله، أي تاريخ أمتلكه، ما الدافع للحظة العبور هاته؟
تخلت عني الذاكرة.. حاولت أن أفكر بعقلانية، هل لخطوتي هذه أهمية، هل ستخلدني. ربما تطهرني من ذنوبي.. أو أنها تكون خطيئتي الأكبر؟
لم يسعفني ذراعي المتهاوي لأرسل تحية لطائر اعترض مساري.. قاومت انجرافي، ورسمت له في مخيلتي مكانا في الفردوس..
تذكرت.. لوحاتي على الرصيف .. ابتسامة دون وجه، جدولا بدون ماء..
قال لي متعهد ما:
أرسم لوحات الفنتازيا والفلكلور.. نساء تقليديات ووجوها ملفوحة بالشمس.. هذا ما يطلبه السياح..
لكن الريشة كانت تأبى أن تطاوع جوعي.. مذ أصابتني باللعنة وأنا أعيش على الهامش.. كل ذنبي أني أردت تخليد الوجوه الكئيبة لسكان المدينة على أسوارها.
والدي الفقيه الذي يصلي بالناس، الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، استنكر تعلقي بالألوان.. وأعلن رسوماتي حراما ورذيلة..

أنفاسيا لسعادتي!!! , فلأول مرة ونحن في زمن الموت ,اكتشفت وعن طريق الصدفة أني مت, وشبعت موتا!!!ا
ياه!!! أين كنت؟ ولما لم أكتشف هذا من قبل ؟علي ان أدفن نفسي وعلي أن أحضر جنازة نفسي وأبكي نفسي وأقيم قداسا جنائزيا رهيبا لنفسي ؟, بل ويكون لي قبر أزوره وأشعل حوله شموعا وأنثر على جنباته وردا , لماذا لم أكتشف هذا ؟ لأحضر حفل تأبيني ؟ وألقي خطابا حزينا على شعب الميت أنا وأرثي نفسي وأقول أنظر الى هذا الميت , انه مشهور بموته ولا نظير لموته !! كان ميتا ومن أفضل الموتى! عاش طوال زمن موته ميتا! مميزا بعظمة موته! , ومميزا بجميل موته! وتضلعه في الموت! , كان مخضرما في الموت , ملتزما بالموت!!!؟
لماذا لم أكتشف هذا ؟ لعل هؤلاء الموتى العابرين يلتفتون الى قبري ويقفون ليقرؤوا شاهده وهو يتحدث عني أنا الميت "هذا قبر الميت أنا"؟
دعني اذن أتلذذ بالموت وأكتشف ما داخل الموت أنا , عتمة وريح ومصباح علاه الغبار وحجرات تبعث الفزع ,ونوافذ مهشمة وأبواب خرت ساقطات قالعة آجور حيطانها ...
يا لهذ الموت؟!! قبور ومقبرة وميت؟
ياه! ياأنا المقبرة والقبر والميت ؟ هاته لغة ميتافيزيقية أخشى أن تنجب ايديولوجيا لبعث شعب الموت وتبرير الموت واثارة شهوة الموت,وتحرير الموتى لإعادة انتاج الموت ,ولجعلهم سعداء بالموت ؟ هاته ميتافيزيقيا تبرر السطو على عقول الموتى من اجل من أن يموتوا!.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة