أنفاساندفع إلى قلب الطريق مادا يده إمامه كالحاجز يحتويه معطف أسود ، ينسدل حتى أسفل ركبتيه ،  كان ضخمة الجثة فرزدق في هيئة دب يريد أن يقتحم المدينة.
اضطررت أن أدوس على المكبح كي لا أصدمه ، اقترب برأسه من نافذة السيارة بينما كانت يده قد أمسكت بمقبض الباب وفتحته ، حي بأدب فيه غلظة طبيعية صباح الخير يا "الشيخ" خذنا معك إلى المدينة نحن مستعجلان، كان صاحبه دونه في ضخامة الجثة ، وفي الاندفاع ؛و دونه في الثقة بنفسه وعليه كان يتبعه ويأتمر بأوامره.
قلت له : اصعد.
 صعد ، ومكن لنفسه بجانبي بحركة محورية فوق المقعد. وكان صاحبه قد اقتدى به في المقعد الخلفي ، وراح يسألني عن الصحة ، والأهل والأولاد ، وكأن بيننا معرفة قديمة مترسخة الجذور وتمتد في نشأتها  إلى أجدادنا.
قلت : الحمد لله ، وأحوالكما أنتما كيف هي؟.
قال نحن متخاصمان ، ولهذا الغرض أردت الصعود معك ،سمعت أنك تصلح بين الناس ، وأنك ذو حكمة ولهذا السبب مر عشرات من أصحاب السيارات ، ولكنني  اخترتك لأني أتوسم فيك الخير ، واطمع في أن تساعدني في إفهام هذا الجحش- ودار في جلسته إلى الخلف وهو يشير إلى صاحبه- حقيقة ومعنى ما أقوله له.

أنفاسوأخيراً أدركت آغنيس هيغنر إدراكاً قاطعاً وواضحاً لدرجة كبيرة سبب ذلك التعبير المبتهج والغائب الذهن المرتسم على محيا زوجها هارولد عند تناوله عصير البرتقال والبيض المخفوق في الصباح.‏
"حسناً", تنشقت آغنيس وهي تفرش مربى الخوخ الأرجواني الداكن على قطعة التوست بضربات حقودة من سكين الزبدة. "بماذا حلمت الليلة الماضية؟".‏
"كنت أتذكر لتوي", قال هارولد, وهو ما يزال يحدق بنظرة ضبابية شديدة السعادة عبر شكل زوجته الحقيقي والجذاب جداً (متوردة الخدين وشقراء كالزغب كما هي دائماً في ذلك الصباح المبكر من شهر أيلول سبتمبر, وهي مرتدية البنوار الفضفاض المزين برسومات غصينات ورد), "تلك المخطوطات كنت أناقشها مع وليام بليك".‏
"لكن", اعترضت آغنيس, محاولة بصعوبة إخفاء غيظها, "كيف عرفت بأنه كان وليام بليك؟" بدا هارولد مندهشاً. "لماذا, من الصور, طبعاً".‏
وماذا يمكن لآغنيس أن تقول حول ذلك؟ استكانت محترقة بصمت مع قهوتها, وهي تصارع الغيرة الغريبة التي بدأت تعشعش فيها مثل سرطان مظلم خبيث منذ ليلة زفافهما أي قبل ثلاثة أشهر فقط, عندما اكتشفت أحلام هارولد في تلك الليلة الأولى من شهر عسلهما, في الساعات القليلة الأولى من الصباح, أجفل هارولد آغنيس من نوم عميق لا حلم فيه بحركة عنيفة متشجنة بأكمل ذراعه اليمنى لبرهة فزعت آغنيس فهزت هارولد وأيقظته لتسأله بنبرات أمومية حانية عن الأمر, إذ اعتقدت بأنه كان يصارع صراعاً عنيفاً في كابوس. ليس هارولد. "كنت أهم بعزف "كونشيرتو الإمبراطور", أوضح لها بنعاس. "لابد أنني كنت أرفع ذراعي للوتر الأول عندما أيقظتني".‏

أنفاسيلج المدرج قبلنا جميعا,عادة دأب عليها منذ أن عين أستاذا للشعر الجاهلي...
كنت وفريدة ,ظلي متى كانت السماء عارية وصافية,نركن الى جدع نخلة نمت
بشكل مثير...امتدت افقيا لبضعة أمتار تكاد تلامس الأرض ثم انتنت ناهضة,مشرئبة تزينها قلائد بلح علاها الاصفرار...نسترق النظر...يعدل وضعية الميكروفون,ينفخ فيه نفخا خفيفا,يبعده قليلا ثم يدفن رأسه في عتمة الكلمات...
يرفع عينين سكنهما الحزن,رغم مرحه الظاهر,ينطلق صوته الجهوري كعادته يطلعنا عما بين يديه...
كان كل حرف يخرج من فيه مشبعا بمساحته الصوتية,يقرأ بتأن فهرس الجديد
الذي يصاحبه,والذي ان لم يكن "الكرمل" ف "عيون المقالات" والا فأحدث الدراسات عن الشعر...
يبدو صلبا ,يعاند الزمن بقامة حادة.شعيرات طويلة يثبتها بكفه الناعمة بحركة من منبتها الى مستقر لها فتغذو خطوطا افقية رفيعة تخفي صلعا...استدارة الوجه نقطتها شامة ناتئة سوداء...قميصه القصير الاردان كشف عن ساعدين غطاهما شعر كثيف...
هذا الصباح,لم ترتد السماء عريها الازرق,فغاب ظلي وسط عتمة داكنة...
هذا الصباح,لم يدخل المدرج كما عهد...

أنفاسجلس على المقعد المجاور لمقعد سائق سيارة النقل . كانت الأفكار تغزو عقله الشاب ، تمتد في كل جهة تنقل إليه هموما ثقيلة تحمل معها رائحة الحزن والأسى .   
كان وجهه شاحبا تعلوه كآبة ، لم ينم منذ أن علم بالخبر ، كان يتساءل بين لحظـة وأخرى : كيف حدث هـذا ؟ وماذا بإمكاني أن أفعل بعد أن غادرني أبي وحيدا ؟ تساءل في نفسه .
كان أبوه كل شيء في حياته ، صديقه وسنده وأخوه ، في السراء وفي الضراء ، ففي أوقات الشدة لم يكن يلوذ بأحد سواه ، لدرجة أنه تعود الاعتماد عليه في كل أموره حتى بعد أن كبر ، أما طفولته فحدث عنها كيف شئت ، كان الطفـل المدلل يشتهي فينال أو لنقل إنه لم يكن يحلم ، كان أبوه يحضر له ما أراد وما لم يرد ، من الأدوات والأجهزة والملابس وكل شيء ، كان الأب قد كرس حياته كلها لهذا الابن الوحيد ضمن أسرة مكونة من ثمانية أشخاص ، خمس بنات وأبوه وأمه وكان هو الثامن .
كان أبوه كل شيء في حياته لكن ها هو يغادر الدنيا ويتركه لعواصف القدر تهوي به في لجج الحياة ، وحيدا بلا رفيق ولا مؤنس أو معين ، هكذا على الأقل كان يتصور الأمور.   
رباه ماذا عساي أن أفعل ؟ ماذا في مقدوري أن أصنع ؟ كل هذه السنوات وأنا أعتمد على الوالد فجأة ودون سابق إنذار أجد نفسي أمام العاصفة بلا عدة ولا أدنى استعداد .  

أنفاسمتى أضحك أخيرا؟
متى أستسلم لنوبة ضحك ترخي عضلات الوجه والقلب معا؟
وقد أنسى حينها للحظات وجع الفقدان والألم والخيانة والوحدة الموحشة؟ وربما لوهلة، أثناء استسلامي للقهقهة، قد أستعيد شيئا من طفولتي.. وربما أتذكر طعم القبلة الأولى.. او  يد والدتي الدافئة عندما كانت تمسد شعري..
لكن الضحك أصبح عملة نادرة في واقعي.. أحاول أحيانا، دون جدوى.
أقف أمام المرآة، و آمرني بالضحك.. بكلتي يديّ، أبعد شفتيّ.. وأحاول إخراج صوت قوي.. فلا أسمع إلا الصمت..
يبقى فمي مفتوحا إلى أن يؤلمني فأستسلم وأطبقه..أطبقه عن الضحك وعن الكلام..
أصرخ  كثيرا وطويلا.. جيراني حفظوا صوتي العالي وأعلنوا انزعاجهم.. لكنني تحديتهم.. أنا موجودة بينهم، لذا عليهم أن يسمعوا صراخي..
لا تفعلي، تردد جدتي بصوتها الأكثر صرامة.. الفتاة لا تضحك عاليا.. إنها تبتسم، فقط..
أضحك أعلى وأسألها:
لماذا؟

أنفاسأهل البلاد :
لم أجد أهل البلاد التي زرتها
لم ار اية شواهد لقبور مفترضة
لم أجد إلا سماء صافية لا يحدها بصر
اهل البلاد ناموا .. خرجوا ..غادروا الديار
تركوا الزرع والضرع
تركوا البلاد وهاموا في الأركان القصية ..
البلاد ، تراب واشجار مبعثرة وثمة جدول صغير يابس ..
نظرت الى صورة البلاد المعلقة على الحائط .. بلاد فيها ناس وحجارة وطيور .. وضعت اصبعي على الناس فكان ما كان ..
الناس في شرود ( المشهد قريب )
كل الناس في فوضى وثمة رجل واحد ينتصف الشارع  يصرخ..
 النار هائجة وسط البستان !!

أنفاسداخل العين ..عين الجبل الجريح ، الواقف في ساحات حرب الأشقاء ، في مكان ما جنوب الروح ، تنمو أغصان تاريخ موج صديق ، يسكن في مدن تحلم بجني ألوان الشمس ، و تستعد الآن لركوب الغموض الحجري ،  دون أن تثير شهية سلطات الرياح ،  لضرب أعناق الكلمات ، لأنها ببساطة الورد و الياسمين ، سلطات تؤمن بفصاحة الليل ، أكثر مما تعترف ببلاغة المساءات .
طفلا كنته ، بحبالهم الدامية ، و المكشوفة المعنى ، ينسج عنكبوت الذات المحترقة ، بيوت السؤال اللعين ، هو الجسر القادر على الفصل بين الشمال و الجنوب .
هي حروف من رماد الوهج ، لا محالة ، حبلى بأجنة الضجر .
لن يغسل هذا الليل السيد ، من تفاصيل جبروته الخبير بأسرارنا ، سوى شيء من جنون البحر، يمزج ساخنا مع بعض عناصر خمرة الأزقة الموصدة ، و يشرب في عراء مساء جميل ، بمعية مجلس قمر وهاج .

أنفاسعندما دلفت من الباب كان ثمة شيء يشبه عطرا أنثويا, نفس امرأة ما مألوف لدي بصورة غامضة انقذف إلى أنفي الذي استلذه. هاأنذا في وسط البيت. كانت جالسة مع أمي على كنبة أمامهما صينية الشاي وبعض مما يؤكل على المائدة الصغيرة.
رعشة غريبة ألمت بأعضائي وفرحة صغيرة تلبستني وأنا أرمي التحية. ياه, كم زاد جمالها! ابتسمت هي في اقتصاد. مدت لي كفها. انحنيت مادا لها خدي. تصلبت ذراعها. ارتبكت  وأنا أتراجع بوجهي وأعدل قامتي. بحر من العرق البارد يغرق أدق شعيراتي.
- كيف حالك؟ سألتها.
- بخير والحمد لله.
سلمت على أمي وجلست. وجهي يتلون. الملعونة. كانت تعانقني فيما مضى.
عيناها مسمرتان على شاشة التلفاز. أرقبها بطرف خفي يخترق كتفي أمي الجالسة بيننا. انتبهت إلى شعرها الذي اختفى. أبصر مكانه منديلا يحدد تخوم وجهها. أهو غطاء الرأس ذاك ما منعها عن عناقي كما كانت تفعل قبلا عندما كانت تأتي لزيارتنا؟
هدأت قليلا. صبت لي أمي كأس شاي. وأنا أنحني قليلا لأتناول الكأس من الصينية استرقت إليها النظر من زاوية ضيقة جدا. لا تزال مركزة على التلفاز.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة