أنفاسبجوار ذلك المبنى المدمر أحضروا جثتي، وضعوها أسفل قيعان من أرض جرداء، رتلوا معها صلاتهم، ثم أهالوا عليّ التراب الصلد. صمت كئيب كان يغشاهم جميعاً، خصوصاً ولديّ الحبيبين. لحظات مكنونة بهدوء رتل فيها الشيخ آيات من القرآن، بكى خلالها أقاربي وأصدقائي، انتحبوا حتى أغشي علي بعضهم. وأنا بالداخل أتضور شوقاً للخروج إليهم، التحدث معهم بكل ما كنا نقوله دائماً، بكل الأساطير والقصص والأخبار التي نختلقها من أجل قتل الوقت، لكنني كنت عاجزاً عن ذلك، عاجز ولأول مرة عن تنفيذ ما أصبوا إليه. تمنيت أن أعود إلى زوجتي، فراشي لكن هيهات أن يحدث ذلك بعد هذه المصيبة. فقد انطلقوا يتتابعون واحداً تلو الآخر إلى بيوتهم، غير آبهين بوجودي في هذا السكون الموحش، حتى ولديّ الذين لم أترك أياً منهم يوماً، غادروني كأنهم لا يعرفونني، فقط محمد من بكى بجوار قبري ودعا لي بالجنة التي أحب وأشتهي.
هنا بقيت وحدي، لا ألوي على شيء، أتأمل الظلام الذي يحاصرني، الخوف الذي يتملكني من هول المشهد، وبين فينة وأخرى أشعر كأن الأرض تهتز من تحتي، ترتجف كمحيط يوشك على ابتلاع بقايا اليابسة. حاولت بيني وبيني أن أعرف السبب، فلم أصل إلى نتيجة تذكر، طرقت الكوة التي بيني وبين جاري الأيسر فلم يرد، ترددت أن أفعل مرة أخرى، شعرت بأن كبرياءه لن يسمح له بالحديث مع شخص مجهول العظمة، فقبره منمق بأجمل الزخارف واللمسات بينما أنا بالنسبة له لم يظهر مدى نفوذي ونقودي بعد، فظل الصمت يلازم قبري إلى وقت غير قصير.

أنفاسراودته أحلام اليقظة مرات عدة ، وهو في المكتب ، أو في السيارة أو في أي مكان معلوم ، لم يكن يدري سبب هذه الأحلام ولا المغزى منها ، ما الدافع إليها بعد هذه السنين ... وبعد هذا العمر المديد ، ماذا عسى أن يكون في نفسه من طموح ، وقد حقق كل ما كان يصبو إليه ، نجاح باهر في مهنته كأستاذ جامعي  ، هل ثمة مطمح لشيخ جاوز الستين ... ؟ تساءل مرات ، هل من حق مسن مثله أن يحلم ؟ وما الجدوى من حلم لن يتحقق وإن تحقق ماذا عساه يقدم أو يؤخر ... حينما ينطلق القطار مخلفا وراءه غبارا أو دخانا أو فراغا ... ماذا في وسع المتأخر أن يفعل ؟ أيوقف الزمن أم يوقف القطار ...؟ وماذا لو أوقف الزمن أو أوقف القطار ؟ ما ذا سيجديه وهو لا يعلم أين يتجه ولا ما يريد ... لقد تحدى نفسه ألف مرة : لو سئلت : ماذا تريد أن تحقق ؟ أطلب نحقق لكل ما تريد ، لو سئل هذا السؤال لما أجاب ، بل الأسوأ من ذلك ، لو قيل له : حدد رغبتك أو ادفع غرامة ، لقال : أن أدفع غرامة أهون علي من تحديد هدف ، وأخوك مكره لا بطل ، في بلد تعود فيه أمثاله أن يستسلموا للظروف ... لكل الطوارئ ، المستعجل منها والبطيء ، يستسلمون للفقر وماذا عساهم أن يفعلوا ، يرضخون ويرضخون ، ثم يرضخون ... وبلا توقف ، وهم صغار يخضعون للأب والأم ... ثم للفقر والمرض ...

أنفاسغارقا في الأزرق رأيته يمشي الهوينا. خلت البحر ضاعف في مدّه فلملمت ثيابي خوف البلل , لكنّ الرّمل تحت قدميّ كان جافا وأصابعي أصابتها الدّهشة فبدت غير ثابتة تتحسّس مرّة وجهي وأخرى صدري وذراعيّ كأنّما أخشى أن ينفلت بعضي منّي ولا أعي. لم أستطع رصد الجهة التي انبثق منها ولا مكان يبدو في الفضاء غير المنارة والمنارة تلك بعيدة وماخلته يمشي فوق الماء, والكبائن الخشبيّة التي يتخذها المصطافون منتجعا كانت في الناحية الأخرى ولا شيء فوق مزقة الأرض التي أقف عليها غيري وغير الماء عند الشطّ فمن أين يكون خرج ؟ لم أكن مهيّأة لقبول أيّ مفاجأة ولا كان عقلي يرى أبعد من الصّفحة الزرقاء الداكنة والتي تضجّ حتما بملايين الأسماك والقواقع والطحالب وبقايا الهياكل البشريّة التي حنطها الملح,لكني في حياتي لم ألمح تنّينا أو عنقاء أو عريس بحر , حتى العرائس تلك ذات الأجسام الفضّية والوجوه المقمرة والتي تسكن قلاع المرجان كانت تنام داخل الكتب التي كنت اقرؤها وأنا طفلة ولم أرها يوما عند النّهر حيث تسكن خالتي جلّوزة ولا عند البحر مكان اصطيافنا ولا حتى في قصعة الماء الكبيرة التي كانت في السقيفة والتي كم كان يطيب فيها استحمامنا أيّام الحرّ, فمن أين يأتي الرجل إذن وإلى أين يمضي؟

أنفاسفي ذلك الفصل الدراسي الفقير الذي يلوذ بقدم الجبل، عرض المعلم الأشيب على تلاميذه أن يشاركوا في كتابة قصة جماعية عن رجل غني سعيد قدم لقريتهم البائسة لينشر الفرح والمحبة.
قال المعلم للصغار وهو يفرك يديه باحثا عن دفء:
- لنصفه أولا.
فكر أحد التلاميذ في لباس الرجل ثم قال:
- إنه يرتدي وزرة بيضاء.
هم المعلم بالكلام عندما اندفع تلميذ آخر قائلا:
وهو ليس من قريتنا، شعره أبيض كالثلج وبيده قضيب من الزيتون.
خلع المعلم وزرته البيضاء ووضع قضيب الزيتون وراء مكتبه المتهرئ وقال:
هذه ليست أوصاف رجل غني، صفوا لي أملاكه.
تحمس أحدهم فقال:

أنفاسأقبل نحوي مندفعا كالملسوع، كان يعرف أنني أكرهه أو قل على الأقل كان عليه أن يعرف بأنني لا أستشعره وأتجنب دائما الالتقاء به وبالتالي تحيته أو مصافحته ، كنت أشعر أنه نجس باستمرار، ليست بالضرورة النجاسة المتفق عليها ، ولكنه كان نجس الروح والماضي والسيرة ، كنت أشعر أنه هو النجاسة ، وبالتالي كان يستحيل عليه أن يتطهر، طبعا كانت لي مبررات  تجلس عليها قناعاتي، ولست مضطرا إلى إبدائها ، ولكن ذلك كان موقفي منه.
 كان ثقيل الظل والروح ، يحمل اسما محليا يعني "المنبوذ" سماه والداه بذلك في اليوم السابع من مولده  دفعا للعين وحسد الحاسدين ولكن الله أعطى للاسم ذاتا تناسبه.
- كنت أبحث عنك منذ عدة أيام ؛ دلوني على الطريق الذي تسلكه إلى مكان عملك، فكنت أجلس على رصيفه ، وقد أمسكت بك اليوم ، قال ذلك وهو يشد على يدي بقوة كأنه يخاف أن أفلت منه وفي نفس الوقت كان منهمكا في تقبيلي يمنة ويسرة كأني أحد أقاربه غاب عنه أمدا طويلا .
- قلت : خيرا إن شاء الله.
- قال: كل الخير، ولن ترى مني إلا خيرا، لقد بحثت عنك لأنني أحتاجك، لقد ظلمت، احتقرت.
- قلت: وما شأني أنا؟‼.

أنفاسالشارع واسع ونظيف,على طول حافتيه تراصت أشجار شذبت أغصانها بمهارة فائقة فبدت كشريط أخضر ممتد لتتعانقا قرب قوس شامخ ...
الحركة يحكمها انضباط دقيق,لا زعيق منبهات , ولا ايادي تتوعد مخترقة النوافذ بألفاظ بذيئة أغلب الاحيان...كما هو حال شوارعنا الضيقة.
المطر غزير ,لم يتوقف منذ البارحة ,تمنيت لو ان الله أرسل هذه الامطار الى أهل قريتي,الذين يسندون الآن ظهورهم الى حيطان حجرية,تستلذ أجسامهم الباردة دفء  أحجار خزنت حرارة النهار,وجوههم بسواد الارض وشحوب الزنابق...
اشتقت أن يبللني المطر,أن أغتسل,أن أقيس مدى قدرة القطرة على الاختراق فهمت دون مطرية,الامر الذى ادهش من صادفنى ـ على قلة انتباههم للآخر ـ " يا لهذا العربي ,لم ينسلخ عن صحرائه ..."
تحت غزارة المطر,تذكرت البرك التى بللتني بالكامل...
تذكرت نصوص القراءة الابتدائية التى كانت تتساوق بشكل مريع و ومظاهر فصول السنة...
فقراء ابناء قريتي...حتى حجرة درسهم...اليوم أفقر من الأمس...
ـ زياد...زياد...تناهى الي اسم لم اسمعه منذ ثلاثين سنة...
الصوت لم يكن غريبا ,لكن الأمد طال والاصوات اختلطت... 

أنفاسألقت نظرا كليلا إلى الخارج فصدتها سماء ثقيلة كالرصاص وصمّ أذنيها هدير العربات وبدت ساعة بيغ بان  منتصبة بقدّها الفارع كعملاق أثري مشغول بمضغ الزمن.
شعرت بتكاسل في دقات قلبها وبمغص مزعج يكتسح حشاها ... ماهذه السماء التي عادتها الشمس منذ زمن بعيد ؟ تراجعت إلى الخلف وأغلقت النافذة تاركة الستارة الزرقاء الثقيلة تحجب عنها السماء الضيقة الملبدّة وجالت بعينيها المغرورقتين في بهو الدار...بدا وجه أمها في الصورة المعلقة مشرقا بوشمه الأخضر الجميل وحنانه الغامر وبدا أبوها بشاربه الكث وجبّته الفاخرة ومسبحته القانتة يردد في أذنيها المعوّذتين ويمسح على رأسها بيديه الحانيتين كلما أصابها فزع.
دلفت إلى المطبخ ..رائحته ماسخة وعلبه باردة وقدره المعدني يغلي في صمت ، لا ثوم يتأرجح في السقف ولا فلفل أحمر يزين ناصية البيت ولا بهارات تغزو الأنف فتزو بع الكيان ، لا مهراس يغني في فرح ولا مطحنة البن تزغرد فرحة بقدوم رمضان...لا خبز يضوع في فتنة يغري بملمسه الساخن وحبات الينسون والشمر التي تتلا مع على إهابه الفاخر..
كم الساعة ياترى ؟ ومن سيشاركها هذا الإفطار الحزين ؟ جرت إلى الحاسوب ونقرت بضع نقرات فظهرت لها على الشاشة مواقيت الإفطار في كل أصقاع الدنيا، ظلت تسحب الفارة حتى استقرت على تونس.... تنهدت بعمق وأغمضت عينيها في حنين مدمّر...فجأة رأت نفسها بضفيرة طويلة وفستان زهري راقص ترقب مع المحتشدين ظهور الهلال.

أنفاسومن الحب ما قتل ..!
عقلي يزنُ جبلا،
هزه طيف ُ صبية، ألقت القلب في السفح .
لفـّـــــــتْ ذراعي جذع شجرة في حلكة الليل، وانتظرت إطلالة القمر..
والتفتْ حولي الأضواء، البنادق، والعصي..
دارت المطابع:
" انتشال جثة مراهقة من النهر
القبض على شاب متنكر في زي امرأة..
محاكمة..
 اعتراف..
إعدام إرهابي خطط لتفجير منشأة آهلة بالسكان".

مفضلات الشهر من القصص القصيرة