أنفاسجلست أصنعه ، لم يعد في الغرفة ما يشوب ، أنا فتحت نوافذها ومسحت كلّ الخيوط التي نسجها العنكبوت في الآونة الأخيرة ووضعت الطاولة الصّقيلة  في وسطها ولم أبق إلا هذا الحبر الداكن وهذا الورق الذي خشيت أن لا يحتويه لكني قدّرت أن أصنعه على مقاس معتدل موزون حتى لا أضطرّ إلى قطع العمل والبحث عن ورق آخر ولن أضمن إذاك ما ذا يحدث وما إذا سيكون الورق وفيا كالذي لديّ واللحظة هي اللحظة التي تنتابني فيها رؤاي هذه ،إذ لا بدّ إذا أتيت 
  محترفي هذا من أفق رحب يحتلّ كل رأسي فيه عصافير بيضاء لا مرئية وهبوب ريح يحرّك جريد نخل أراه موغلا في البعد كلّما حاولت أن أمسك به لكني مع ذلك أحسّه حاضرا  حتى أنه يلامس خدّي كلّما رفعت رأسي أو أحنيتها..قلت لو كان لي زجاج وكنت من الذين يحسنون الرّسم لكنت حفرته بخيوط رقيقة ، أحبه شفافا بقامة متداخلة مع السحاب أو أني خزافة لصنعته على هيئة نورس غاضب أو على شاكلة زورق بوجه آدمي .ولكني لست من أصحاب اللّون ولا أصابع لي تتقن تشكيل الخزف الحي .
قلت أصنعه على الورق بمزاجي ، سيكون غير موغل في الطّول أخاف يوم الأحد ولا قصيرا كعمر سنونوة ، سيكون بين بين أرجوحة ممتدّة من دهشتي الأولى إلى  يوم نكبتي بعد أن تعلّمت الحساب .

أنفاستسلل الأنين عبر نافذتي ,كان حادا وحزينا,ينقطع كلما انهمر المطر غزيرا يصفع الإسفلت والجدران...
الليل مظلم وموحش,الزقاق ملأته البرك المائية...
ارتديت معطفي وساقني الأنين إليها.لم أألفها مقيمة بهذا الركن...
شرع السيل يجرف كل شئ ,قطع الكرتون التي كانت تفترشها ,أطراف ثوبها الرث التي تتلوى كشرغوف وسط سيل يصر أن ينتزعها.
برزت نحافتها عندما تبلل ما عليها,غائرة العينين ,ناتئة الوجنتين, وجهها قطعة من ألم يحمل وشما غائرا يمتد من الذقن عبر تجاعيد العنق  ليرتبط بعروق الصدر البارزة...
دنوت أساعدها كي تغير مكانها.
عاد المطر غاضبا كالسياط.
تشمعت أطرافها, ساقاها بدتا لمومياء زمن غابر...حركت جفنيها ببطء شديد,رموشها جمعها البلل ...بلل دموع أغلب الظن...
أجفلت لما دنوت,للا رحمة ,تلك التي كانت تدرع الأزقة وعلى كتفها زرابي وأغطية صوفية,صوتها يجلجل الزقاق حين تلجه...
توقف المطر وتوقفت الريح كذلك,سرى دفء بعد هذه الزوبعة...

أنفاسما من شيء يجرؤ على تغيير تفاصيل وجهي المجعد ، وما من شيء يمكنه أن يحجب عيوني المبتدئة عن شوارع المساء ... إلا غيمة تائهة في لجة السماء ، أو شمس ترسم ابتسامتها بصمت كشفاه مطعونة بالحرمان.
أجزائي متناثرة في اللامكان وفقدت بعضها في اللازمان...لم أعد أطيق عيون الشارع تزيل ملامحي بدهاء ، ولم أعد أطيق عيوني محدقة فيما أستره عن أعين الناس ..فقط أحاول أن أعيش بلا نهاية ،فلازلت أحاول التعلق بعنوان ... فكانت نبرات قهقهته تعصف بالمكان فقط في حدود الجدران ... وعيونه تصرعني شفقة أو حرمان ...
لم تصبني بعد جرثومة الفتيات .. ولن أكون الرجلَ .. رجلُ الميناء..لأني عالم بلا مسميات ...
لازلت أؤمن أن الشمس ستشرق بكل اللغات ،لأنه لازال من يستحق تلك الحياة ،وان كانت تتزين الأرواح بباقات الظلام ...
لن أستطيع أن ألخص القصة لأني احتاج لمساحة تضمني بكل ما أحمله من أجزاء ،والضوضاء التي أشغلها بحروفي يملها حتى الفراغ .
لن أتحدث عن أرض أو أرصفة ساكنة ،أو بحر تائه أو بنايات مرهقة ، أو أي شكل جزئي للأجساد ...لأني لازلت أحاول أن أوحد بين الأرواح ،ولكن ابتسامتي تتوارى خلف حفنة تراب ....

أنفاسلم اسمع شيئا يمنعني من الوصول إلى البيت المهجور .
يتقول الاهالي ، بأقوال وقصص شتى حول البيت القديم .. لكني لم اُمنع  صراحة من احد بالوصول .قررت لملمة شجاعتي والذهاب بمفردي الى البيت الواقع في أقصى الطرف الجنوبي من المدينة .
سكان المدينة ، الكبار منهم والصغار ، يتكلمون بشيء من الرعب وبعض الخيال واللامعقول مما يحدث في البيت ليلا وخاصة في ايام الشتاء الممطرة .
احدهم ، عجوز جليس المقاهي ورائد الحكايات الخرافية المهولة في المدينة ، ضحك علي وأنا اعد نفسي للوصول الى البيت واقتحامه . ضحك بشيء من الهزx وأنا اخبره نيتي .  لم أبال بشيء من هذا لأني بصراحة تامة لم اسمع ما يمنعني وكل الذي صدر منهم سوى قصص لإحداث من خيالهم . ولم اسمع احدهم يردعني من الوصول .يبدو ان الأقاويل والإشاعات تنتشر كالنار في عيدان القش . ولكني ضحكت حينما سمعت قصة غريبة ظلت في مخيلتي فتحولت ريبة الاجتياح الى ابتسامة مفتعلة مني ..
يقول العجوز :
بومة كبيرة تخرج ليلا من كوة في سقف البيت وتعود بطفل او طفلين . بعد سنوات يتحول الأطفال الى طيور كاسرة .

أنفاسإهداء : إلى "غزة" كل الشعوب العربية .
رأيت العقل يسقط أرضاً ..
ومن جوف سؤال الثلج أخرجُ رملاً بزهرات الرمان ..
 يطاردني شبح كان أخي ، هو اليوم يكتب تاريخ سيف لفظ عربي غريب ، عرفته في الأمس البعيد ، منذ كان طفلا يحبو في ظلمة الزقاق ..

هذا العدل شقيق البحر ، الذي يغذي جياع أرصفة الميناء .
 فلمَ اعتقلوا العقل داخل زنزانة لفظ بليغ ، هجرته طيور المعنى ، منذ خروج الماء ، من دائرة الجدب إلى ساحات الخصب ؟
لمَ يصرخون في وجهي أن أكون أجوفاً كالليل ، و ينحني ظهري الأخضر للرياح حتى الانبطاح ، كلما رأت عيناي مملكة اللفظ قادمة ؟
لمَ يحاولون أن يسرقوا أنفاسي ، كلما شاهدوني أتجول وحيداً تحت أقواس أسواقهم ، ممتطيا صهوة بعض عناصر البحر؟

أنفاس- انظر هناك يا سانشو ، ينبغي أن أصل إلى قمة هذا الجبل .
لكن سانشو لم يتسن له أن ينظر إلى حيث أشار دونكيشوت ، فقد كان مشغولا بربط الأمتعة ببعضها .
- كل الفرسان العظام صعدوا إلى قمة الجبل وضربوا صخرة القمة بسلاحهم.
لم يجبه سانشو  بل غطى الأمتعة بمعطفه ودفعها في كهف صغير لأن السماء بدأت تمطر.
حمل سانشو دونكيشوت فوق ظهره وبدأ يصعد الجبل .
- كنت أعرف أن هذا اليوم سيأتي، الآلهة لا تخدع الفارس الأصيل.
طلب سانشو من الآلهة في سره أن تمنحه القوة وقد بدأ ثقل دونكيشوت فوق ظهره يزداد كلما تقدم في صعود الجبل.
-  وأنا أصعد يا سانشو أعرف أن عقلك الصغير التافه لن يجعلك تفهم سر المجد الذي أسير نحوه.
فوق القمة انهار سانشو وتمدد بعد أن أنزل دونكشوت الذي ضرب صخرة القمة بسلاحه وهو يقول:
-  لابد أن الآلهة ياسانشو تكتب أن دونكيشوت  العظيم قد بلغ قمة جبل الفروسية وضرب صخرة القمة بسلاحه.

أنفاسيستحيل أن تجد من يجيبك بحقيقة الأمر، أو بحقيقة كيف وقع ذلك ؟ ولماذا هنا بالضبط ؟ وكل محاولة من هذا القبيل هي جهد مجاني يقبض فاعله خسارته مسبقا.
ولكن الحدث الذي وقع ، ويستحيل على من حضره وعاينه وعايش مراحل وكيفيات حدوثه، أن يشك في وقوعه إلا إذا مسه مس ؛ هز ركنا من أركان وجوده هزا عنيفا ، وألحق بمداركه تلفا أصاب أسس جدرانها الضابطة.
يستحيل على العاقل أن يفسر كيف وقع ذلك، ومن هم أبطاله ؛ وما هي دواعيه و أسبابه، ولكنه وقع بالفعل في صبيحة ذلك اليوم ، كانت صبيحة  مشرقة ، مشعة ، دافئة تمنح الكائنات إحساسا بمتعة تتغلغل إلى أعماق الأعماق ، وتنساب بين حنايا الكون تفتح لها طرقا حيث يصعب على الأحلام أن تمد أرجلها ، حتى ليخيل إليك أن هذا اليوم سيكون له شأن كشأن الأيام القليلة التي حفرت التاريخ وأطرت توجهه.
 كان الاستمتاع بروعة الصبيحة باديا على الجميع، الواعي ، والبهيمة ، والنبات بل حتى مياه النهر المجاور كانت منتشية تبث رذاذ المن والسلوى، توزعها يمنة ويسرى  مندفعة على سجيتها ؛ صافية رقراقة تناغي ضفافها  لاغية كأنها تخاف أن تفضح أشجار التوت  سر نشوتها.

أنفاسمـهــداة إلى : وحـيـد حامــد
يرتعش جسدي تحت رشاش الماء البارد .. يتناهى إلى مسامعي آذان الصلاة الوسطى ...
يتجه عبد الله ، جارنا الكهل الملتحي إلى المسجد وحيدا .. تعكس ملامحه صفاء دواخله .. تراودني ابتسامة شقية حين ترن في أذني عبارة أحد ركاب الحافلة ، متسلقي الأكتاف :" لم لا تتزاحمون هكذا في المساجد ؟ ! "
*    *    *
تحت جنح الظلام ، وفي خلوتنا السرية .. يكون الضحك سابعنا ، وصلاتنا الوحيدة .. يتساءل أحدنا ضاحكا :
لماذا يرهق جارنا عبد الله نفسه في الذهاب إلى المسجد وحيدا ؟ لم لا يصلي كالآخرين في أحضان زوجاتهم فقط ؟؟
أشفق على زوجته .. المحرم عليها أن تطل من الشباك .. هذه المهرة لا يستحقها ناسك رهباني ... يا تارك الصلاة !
كل همه الوضوء الأصغر وينسى الوضوء .. الآ..خ .. ر !!
تلعلع قهقهاتنا..
من منكم يعرف متى تذهب إلـى الحمام كبـقـيـة النساء ؟!

مفضلات الشهر من القصص القصيرة