أنفاسحديثٌ مع ربَّة الشفاء
-------------------
مثلَ خيوطِ بَكرة الخياطةِ
تنفرطُ الأعصاب في النهارْ
ويقضمُ الظلامُ زهرةَ الجُلَّنار !
-------------
ما خطبُك اليوم أيها العليل والحائر أبداً ! ؟ سألتْ الربة .
قلتُ وانا أستقبل ضوءها وعبيرها من نافذة الصباح :
اليوم عطلة وهذا يعني أنَّ الأطباء أقلُّ او في الحقيقة لا يتولّى شؤونَ هذا القِسم في أيام العُطل إلاّ طبيب واحد يأتي ظهراً , ولا أتحدث عن حاجتي له ولكن هذا القسم يحوي مرضى من طبقات وألوان مختلفة بدءاً من الغني صاحب المؤسسة الى الفقير المُشرد ومن الأستاذ الى الطالب ومن مدمن الخمر الى مدمن المخدِّر ومن إبن البلد الى الأجنبي وهذا بقدر ما هو مثير بقدر ما هو مُتعِب أحياناً فهذه الفتاة التي وصلتْ البارحة ملأت  أدمغة النزلاء صراخاً : لقد اغتصبَني , الخنزير ! ...

أنفاستلك أول مرة.. فهي منذ زواجها الذي امتد عشر سنوات، لم تفكر في ذلك اليوم كعيد حقيقي، ولم يسبق أن تذكرته إلا حين تسمع الآخرين، وترى بعضهم يتبادلون الورود الحمر. 
كانت في أعماقها تسخر من تحديد يوم للحب " ما معنى ذلك " ؟ وحين جاءها زوجها بوردة حمراء في السنة الأولى تقبلتها ببرود، وطلبت منه ألا يتصرف مرة أخرى كالمراهقين، فلم يكرر التجربة.
لكنها أخيرا قررت أن تفعل ذلك. ألحت عليها إحدى زميلاتها.قالت لها إنها لن تخسر شيئا، وإن زوجها ربما سيحب التجربة.. سيكون تغييرا على الأقل، وهوتغيير ليس ضارا بأي حال، ثم أخبرتها أنها سوف تتصل بها بعد ساعتين.
قبل أن تعبر الى محل بيع الزهور، فكرت في زوجها.. كيف سينظر إلى الأمر؟ وكيف سيتقبل وردتها بعد ما جرى من قبل؟.. ربما نسي الحادثة.. وحتى لو لم ينس، فإنه سيأخذ عامل الزمن في الاعتبار، وسيفرح لهذه المبادرة حتى وإن جاءت متأخرة، وربما يخرج في الحال ويشتري لها باقة كاملة، وربما يضع الوردة بين دفتي كتاب كي تجف وتبقى شاهدا على الحب.. ألم تر وردة حمراء جافة في كتاب استعاره من صديقه كما أخبرها ذات يوم؟

أنفاسليلة السبت ياسمينة في درب الأسبوع المقفر وهذه ضحكة آخر النهار تنحسر، فتنشفها العيون الحسيرة  بما تبقى من لهفة التجلي، أجساد متداعية ترتجل الخطو نحو صناديق الضجيج والسمر الجائع.. تمر بمحاذاة المستشفى المنبوذ وراء البوابة الحديدية ذات اللون البرتقالي ، وهي تشاكس الجدران المشرئبة بذؤاباتها الحمراء لتودع ايقونة النهار الشتوي الراحل، أفواه يابسة تتبادل التحايا رخوة ناصلة، تبتسم قليلا ثم تنكمش كثيرا. والطريق الرمادية غارقة في صمتها السري، تبتلع الخطوات دونما توقف.
-سأسهر الليلة حتى تجحظ عيناي وتندلقا من محجريهما. سأنتشي بالنسيان الدبق لأطرد عني شياطين القنوط في هذه المناسبة على الأقل.
هذه المرة ذرع إدريس غرفته الضيقة في اتجاه الشرفة. أطل فوقفت عيناه – كالعادة- على بواب المستشفى وهو منشغل هذه المرة . نظر يمنة فبدت له المقهى فاترة، شاغرة المقاعد الخارجية. شعر بأن دماغه مرهقة فعاد إلى الكرسي. استلقى فوقه وأمسك رأسه بين كفيه:
-الليلة أدهش السماء بخفتي اللبلابية. وحين يخلو الدرب، سأردد بصوت مرتفع تلك اللازمة الأمازيغية الأسيانة "توقف عن النواح أيها الباكي. إنك تذكرني بمن تعلق القلب آه، كما طال انتظاري إياك أيتها الليلة الحرامية..
فتح إدريس الكتاب: "حاء، زاي، نون. تتعقبك آلاف الشجون ..." أغلقه بتشنج:
-أي طالع سوء هذا؟

أنفاسأقبلت الاستغاثة ليلاً إلى دمشق النائمة طفلة مقطوعة الرأس واليدين، وتراباً يحترق، وطيوراً تودع أجنحتها السماء والأشجار، غير أن أهل دمشق كانوا نياماً، فلم يسمع الاستغاثة سوى تمثال من نحاس لرجل يشهر سيفاً، ويقف فوق قاعدة من حجر مطلاً شامخ الرأس على حديقة مبنى.‏
واجتاحت الاستغاثة تمثال النحاس مرة ضارعة، ففقد صلابته شيئاً فشيئاً، ثم تحول إلى رجل يمشي ويتكلم ويغضب ويصرخ.‏
ولقد مشى ذلك الرجل في الشوارع الخاوية المتروكة لظلمة الليل، ولكنه كف عن السير لما اعترض طريقه حارس ليلي، وقال له بصرامة: "قف.. ماذا تحمل؟".‏
قال الرجل: "احمل سيفاً".‏
"-ولمن السيف؟".‏
"-السيف سيفي".‏
"-وهل السيف تفاحة أو برتقالة؟ ألا تعلم أن السيف سلاح؟".‏
"-أعلم طبعاً".‏

أنفاسمسبحة من الذهب الخالص تدور حبة حبة  بين أصابعه المرتعشة  ، وفي الرسغ ساعة يمشي بها الوقت على إيقاع أحجار الألماس .. الجسد تمثالٌ فرعوني خرج للتو من مشرحة الآثار
 والوجه مشدود بعمليات قص وشد  لا تحصى ولا تُعد .. تعلقُ البسمة على شفتيه ، تتعثر في النطق الكلمة ، فتضيع بين همهمة وغمغمة  .. جفناه يحتاجان مشابك غسيل لرفعها وتركيز نظرات العينين ..
يفوح منه عطر البترول ، ويرتدي بذلة فاخرة بلون النفط  ..!!
سفير فوق العادة مع نخبة أصدقاء يجلس في مطعم الملهى الفخم على رأس طاولة عشاء عمل ، تزينها  (وردة جورية ) وحيدة تحمل سحر الشرق ..!
أطرحُ جدوى بنود مشروعٍِ استثماري  ، طرتُ من أجله نصف نهار .. يجيبُ بكلمة مبتورة وبغثيانٍِ ،كأن الأمر لا يعنيه ، ويتابع نائبه الحوار..
يعلن مقدم السهرة وصلة الغناء والرقص ، فيرفع سعادته يده ببط ء ٍ ليوقف العمل ، ويبدأ السهر ..!
يميل صديقي على أذني :

أنفاسكانت وحيدته، حنون وطيب لا يبخل عليها بشيء الأهم أن تدرس و تنجح و أن تتخرج حينما تكبر لتحقق أحلامه.
هي طفلة صغيرة ذكية بشوشة  وطيبة محبوبة ، فخورة بأبيها هو صديقها وحبيبها كان يرد عنها الظلم والأذى خاصة من طرف أمها التي كانت تحب أخاها أكثر منها فكانت الأسرة الصغيرة عبارة عن صراع دائم بين فريقين كل يحاول من جهته أن يفرض ذاته ووجوده فكانت هي مدللة والدها و كان أخوها مدلل أمها وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
فكل ما كان ينقصها من حنان الأم يعوض في الأب فارتبطت بأبيها ارتباطا قويا كان يناديها بعصفورته طالما خبأها بين ثنايا سلهامه فكانت تحس بدفء الحضن فتستسلم لنعاس عميق.
ففي يوم من أيام الدراسة قرر أستاذ الفرنسية أن يكون موضوع درس الغد هو تحضير وجبة بالبيض والثوم و المقدونس، لا أعرف أي بيداغوجيا هذه التي يعمل بها هذا الأستاذ الذي كلف التلاميذ بإحضار البيض وكل لوازم الوجبة .
خرجت الطفلة  من المدرسة و تركت وجبة الأستاذ والدرس خلفها حتى صباح الغد حين اقترب موعد الذهاب إلى المدرسة فتذكرت الطفلة درس الأستاذ فطلبت من والدتها نقودا لشراء بيضة لكن الأم لا تملك فلسا فذهبت المسكينة تجتر أذيال الخيبة و تتخيل كل أنواع العقاب من الأستاذ و الاحتقار من التلاميذ .

أنفاسكانت البارحة أمي هنا، كانت تجود لكل منا بما يشتهى، وكان ما تمنحه عسلا مصفى؛ لوجهها كانت تتفتح أزهار اللوز،والتفاح ، والورد والأقحوان . ولأجل عينيها كانت تتنافس جميعا فتبدع في تشكيل الهيئات والألوان.
وداهمتنا أحذية كثيرة غليظة، شديدة الوقع، قاسية؛ تتقاطع، تتوالى أصوات وقعها في الخارج، كانت تدوس الأزهار التي لم تكن تراها.
قفزت أمي من فراشها وأمسكت ساطورها الحاد، واندفعت نحو الباب الخارجي الذي راح يئز تحت ضغط العسكري الذي كان يريد اقتلاعه، سمعنا ضجة ارتطام جسم ضخم بالأرض، وبعد لحظات عادت  أمي وقد صارت شعلة من نشاط وبيدها ساطورها يتقاطر دما ،تمترست خلف باب غرفتنا ، أمام أعيننا ، دوى انفجار تبعه انتشار نور لامع كاشف تسرب من خلال فتحات الباب حتى تصورنا أننا في منتصف نهار مشمس ؛  هدر الرشاش ، وكان الرمي مركزا على الباب الذي كانت تقف وراءه أمي متحفزة ، تمسك ساطورها الحاد القاطع بيدها  وقد اتخذت وضع الانقضاض ،تنتظر ولوج الجندي  الذي رماها من فوق القرميد فأخطأها وقفز إلى ساحة الحوش ، وكانت تتوقع أن يندفع خلفها  فتعيد معه العملية التي قامت بها في الباب الخارجي مع زميله.
هدر الرشاش المصوب على بابنا للحظات  ثم سكت ، بينما واصل رشاش آخر هديره في  الخارج لكن في اتجاه  ثان، وعلا الصراخ  ، وتوالى انفجار القنابل الكاشفة  فزحزح الليل عن مكانه  ؛ ودارت حرب انتقم الظلام فيها متحديا  الجميع  فابتلع في جوفه كثيرا من أسرارها .

أنفاس1 - ما أتمنى وإن كان بدون فائدة ترجى، أن أحوزه بالنهار، أو على الأقل أن أحتفظ بترقرق ظلاله الفردوسية خلال اليقظة تحديدا، هو تلك اللحظات المجنحة التي تتاخم غفوتي، حيث الليل يفرد على جسدي المحدود برنوسا سحريا أحلق به في ضجة التوليف بين المتخالفات. ضجة غرائبية تتموقع بين الحقيقة والوهم ، بين الواقع والمحتمل، بين الحياة  والموت . لا أعرف بالضبط كيف أسميها ، لكني أحس عميقا أنها لحظات عصية وندية لو أستطيع استعادتها في اليقظة لحكيت لكم أشياء مدهشة ومزدحمة.
2 - أقرر أن أكتب أوبخ نفسي وعندما أكتب أخاف.
3 - ما هذه الخطابات اليومية المدثرة بالتبريرات لمخلفات هزيمة غير متوقعة؟ أتساءل فعلا. متى نتمكن من إنتاج خطاب لا تسلل إليه المسوغات الخرقات ونعلنه بشجاعة؟ ثم كيف نسعى إلى تبطين اقوالنا وأفعالنا بشتى الأعذار في سياقات الجد، ونتخلى عن الأعذار ، إياها في سياقات الهزل؟
4 - لشد ما يفور عطشي إلى الثرثرة عندما يحدث أن أجالس أولئك المعلقين في ربطات أعناقهم، المعتقدين أن دليل الحكمة هو الصمت. آنذاك أشعر أنني استفز تواطؤهم وأحاصر سيولتهم الطبقية الممجوجة.
5 - ألا يجوز أن نفتح قوسا لديكتاتورية الوضوح بعد أن صرنا نفقد أدنى حقائقنا حتى في أبسط أشكال التواصل الاجتماعي؟ أتساءل وأنا قاب قوسين أو أدنى من الاقتناع بأن ديمقراطية الوضوح لم تنجب إلا اللعنة أو تهمة الوقاحة والجلافة.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة