أنفاسثلّة أصدقاء. أحد منا لم يكن قد تجاوز العشرين. كل خميس نذهب إلى بيت الأستاذ. بيته هناك وسط مزرعة قرب قرية بعيدة في الجبل.
نسميه دون تحفّظ بل وبفخر "الأستاذ". نتجادل ، نثير مواضيع ، نقرأ كتباً.. جميعاً كنا مهجوسين بعالم آخر.
في خميس ما ، وكان الطقس شتاءً ، كان يوماً بارداً.. بارداً غائماً. جالسين في مؤخرة الباص كما العادة نحن الأربعة.
انتبه "سين" إلى ذلك الجرف الصخري على يسار الطريق. كلنا انتبهنا كأننا نرى ذلك للمرة الأولى. "سين" انطلق كالمجنون يحكي عن منام رآه البارحة. انصعقنا، صرخنا بصوت واحد: "عجيب"..
"ع" قال: "غير معقول ، أنا رأيتُ نفس المنام". "م" "أوه"، قال.. هل أنت متأكد.. هل أنتم.. وأنا لاأعرف ماذا كنتُ أقول ، كنتُ أحتاج لأصدّق ما أسمعه.
أثارت ضجتنا جميع من في الباص. تبادلنا تفاصيل المنام لكي نتأكد. كلّ منا روى المنامَ نفسَه؟ التفاصيل نفسها. كنا نريد من الباص أن يلتهم المسافة ، أن يوصلنا بأسرع وقت إلى بيت الأستاذ أو إلى.. أقدارنا.

أنفاس(الورقة الأولى )

قلبـُك أخضرْ .. وقلبي أخضرْ
يميلُ الحزن نحوك تبّهت
يميل الحزن نحوي .. أذوي ..
نُصبح زفرة يُطلقها نيسان ويمضي...
حُبك باقة ( بنفسج ) تفوح يوما في العام
حُبي غرسة زيتون أخضر تنمو , تكبر , تتفرّع
إن تكسر غصني حمائم السلام , رُسل المحبة
تحملني .. تنقر نافذتك, تلقيني حِرزا بين يديك
بينك وبيني ستارة غدا تبلى...
وستدخل أشعة الشمس من خلال الثقوب
لتزيل ما علق في قلوبنا من أحزان

أنفاسألآن بدأت ليلة الزفاف . صار فواز عريسا ، قد لا يعرفه من يراه بشعره المصفف النظيف اللامع والمدهون بالكريم ، وبذلة الفرح السوداء التي اشتراها من البالة ، رغم أنها مستعملة لكنها تبدو جديدة وقد غيرت شكله وقلبته رأسا على عقب ، وإن كان في جيبها الجانبي ثقب صغير لا يظهر لأحد ، ثقب ابتلع قطعة نقود صغيرة إلى جوف البذلة ويئس فواز من التقاطه بعد محاولات عديدة ، فأحال أمره إلى وقت آخر ريثما ينتهي من مراسيم الفرح وطقوس ليلة الدخلة ، هذه الليلة التي انتظرها من سنين طوال ، وكاد قلبه أن يتوّرم من أجلها .. فهو متشوق إلى درجة أنه فكر بصرف المدعوين  وتقديم عقارب الساعة ، كي يختصر الساعات ويصل بسرعة إلى ليلة عمره .
ما أن أصبح فواز وعروسه سهير داخل بيت الزوجية الضيق كعلبة السجائر ، حتى حملها بين ذراعية القويين والرفيعين كساقي خروف ، وبقدمه اليمنى بدأ خطاه متجها بها إلى غرفة النوم النظيفة والمرتبة بعناية ، مبتسما ، وقد لاحت في عينيه نظرات لها بريق  أخاذ .. بريق به دفقات من خفايا قلبه ووراءه رعشة حياة ، وهي نظرات تقول كلاما فصيحا بلا أي كلمات ، وقد فهمتها سهير وسبرت أغوارها .. من المؤكد أنها فهمتها .. فهي من الراسخات في معاني الصمت ، بل ليس بمقدورها ألا تفهمها ، رغم ما غشيها من توتر ، وما حل بها من حياء .. فألذ أنواع الكلام إلى قلبها وأفصحه إلى عقلها هو ذلك الذي لا يقال .. بل هي على يقين أن للقلوب السنة لا تسمعها الآذان .

أنفاسهناك جثة..
مدفونة في مكان معلوم يتعين إخراجها الآن, وإعادة التحقيق في الجريمة.
جثة رجل
وجدت في النهر قبل بضع سنين, ودفنت على عجل دون أن يفضي التحقيق المزعوم إلى شئ.
الرجل
كان قيد حياته مقهورا, ممن لايحفل أحد بمصائرهم أحياء وأمواتا.. أغلق الملف بمجرد فتحه, ولم يشر أي أصبع إلى المرأة.
المرأة الآن
في قفص الإتهام, معتقلة على ذمة التحقيق, والتحقيق طال دون مبرر أو سند قانوني.
المرأة
تعرف رجالا كثيرين
والرجل
كان جارا لها ,و اشتكى للسلطات مرارا من جيرتها الخادشة لتصوره للكون.

أنفاسوعاد صاحبنا بذاكرته إلى الخلف ، إلى سنوات طوال من عمره المديد ، إلى شهر رمضان ما قبل ثلاث وعشرين سنة أو يزيد عن ذلك بقليل . ولقد جاهد كثيرا من أجل وضع  تلك الفترة في طيّ النسيان ، أو إبعاده عن ذاكرته إبعادا كاملا ، إلا أن ذلك لم يكن في المستطاع . فما كل ما يهواه المرء بنائله . وما كان يريد أن يعود إلى الماضي ، لأن تلك الفترة بالذات كانت تطوي ذكريات مؤلمة جدا . واستعادة هذه الذكريات كانت تعني بالنسبة له فتح جرح قديم وقد أندمل إلى درجة كبيرة . فلا فائدة البتّة في فتح مثل هذا الجرح ، وقد مرّت عليه هذه السنوات ، ولكنه فعل ذلك ، نعم ، فعل ذلك لغرض في نفسه أخفاه عن غيره إخفاء مقصودا
عندما تخرج صاحبنا من جامعة أجنبية حاصلا على شهادة الدكتوراه كان المفروض أن يرجع إلى بلده لكي لا يبقى تحت طائل متطلبات كثيرة مختلفة . لقد عاش فترة طويلة هناك ، فذكريات الطفولة الحلوة ببراءتها الساطعة تكمن في كل زاوية من زوايا قريته ومدرسته الابتدائية . ولكن قريته هدمت ، وأجبر أهله على الهجرة إلى مكان آخر بعيد عن تلك البقعة ، فهو لا يستطيع حتى أن يتخيله . عائلته وأصدقاؤه وزملاء الطفولة وأقاربه كلهم هناك ، وقد عاش معهم هذه السنوات الطويلة ، وشاركهم في أفراحهم وأتراحهم . وما طعم الحياة بدون كل هؤلاء ؟ أليست قيمة الحياة كامنة في هذه العلاقات الاجتماعية ؟ ولكن الأهم من ذلك أن بلده احتضنه لأكثر من ثلاثة عقود من الزمان ، يشرب من مائه الريان ، ويأكل من زاده الوفير . يستفيد من امكاناته كغيره من الناس ، بل أكثر من ذلك بكثير . أليست العودة تنفيذا لايفاء العهد في خدمة بلده وأهله طوال العمر؟ أليس ذلك بقليل بحق الوطن ؟ بلى ، فهذا ولاشك قليل من كثير ، وغيض من فيض . إذن فما الذي يحمله على التراجع من ذلك ؟

أنفاسوهو يمسك بمعصمي بقوة ويسحبني وراءه مثل لاشيء, كان الجيران ينظرون إلي في إشفاق. كنت أنظر إليهم من وراء الدموع وأنا أطير في الهواء. هو يلعن دين أمي وربها وربي أيضا.
- حشومة عليك أصاحبي.
- وا سمح ليه غير هاذ المرة.
كانت هذه العبارات تعترض طريقنا وأنا مجرور إلى وجبة تعذيب دسمة.
- ما سوق حتى واحد. كل واحد يديها في راسو.
هكذا كان يرد ولا أحد يجرؤ أن يخلصني من قبضته الجبارة؛ أنا الفرخ الذي لا يزن أكثر مما تزن ريشة.
لا أذكر أنني أتيت شيئا يستحق كل غضبه ذاك. كان جبارا لا يتسامح بسهولة. كان يربيني بطريقته الخاصة "جدا". "العصا خارجة من الجنة اللي كلاها يتهنى", كان يقول دائما وهو يتطلع إلي في نشوة المنتصر عندما يكون قد انتهى من "تربيتي" وأنا أغالب الألم والقهر. لكنني لم أكن أنتهي من الشغب الذي كان يثير غضبه علي.

أنفاس"قبورنا معتمة على الرابية
والليل يتساقط في الوادي
"
للراحل محمد الماغوط
 
أفقت مثقل الرأس...
كان نومي متقطعا,لم أقو على احتمال حرارة امتصت كل شئ ليعسر تنفسي وأغرق في عرق  بلل ملابسي الداخلية...
غادرت ضيق الغرفة عبر ممر ضيق هو الأخر.اخترت المكان القصي من الشرفة التي لم تتسع لأكثر من ثلاث طاولات متقاربة و ست كراسي...كانت الشرفة الوحيدة بهذا النزل اليتيم بهذه التي لاهي بالمدينة ولا هي بالقرية...بيوت تكاد تشكل كتلة طينية واحدة ذات شبه مريع بتلك التي ,في صغرنا,شكلناها من وحل البرك...مع ما شكلنا من أكواب وأباريق وحتى بعض النوق النائخة دوما : مثلث عليه رأس صغير وذيل على الوجه المقابل...
جلست أرقب تلك الربوة التي نسجوا حولها ما نسجوا...لكن رؤوس النخل اللامعة مع كل نسيم عليل,كانت كما فرشات تنمق إطار لوحة زاهية,تشدني...

أنفاسأخيرا استطعت أن أنفخ بطنها. لكني لم أنجح في هذه المهمة إلا بعدما صارت رجولتي في الميزان. هذا ما كنت أقرأه باستمرار في عيون جاراتنا (رحمة) و(زهرة) وأخريات. كـنّ يجهلن بأنني خريج معهد الترجمة، وأنني قادر على نقل وشوشاتهن إلى سبع لغات على الأقل. يكفي أن تصدر عنهن غمزة أو إشارة لأفهم منها أنهن يرمينني بالعُـنّة، ومعناها وِفق واحدة من تلك اللغات التي أتقنها أنني "مْـثقف"!
حينما يحاصرنني بنظراتهن ينتابني الشك، فلا أشعر إلا وأنا أتحسس حِجري لأطمئن على سُلالتي، ثم أتساءل: مُـثقفٌ "مْـثقف"؟!  يا ذِي الفضيحة! وماذا سيكون مصير هذا الوطن إذا كان مثقفوه مثقفين وأميـوه هم الفحول؟
لكن بقدر ما كانت حركاتهن تضايقني، كنت أنتشي بقدرتي على اقـتحام عوالمهن النسائية.. أحيانا، أترجم همسهن حتى قبل أن أسمعه، وهذا طبيعي، فلمثل هذه الوضعيات يتخصص المرء في الترجمة الفورية.
لكني لن أعمل بعد اليوم ترجمانا، فزوجتي حامل. كلانا في الحقيقة حامل: هي تحمل جنينا، وأنا أحمل هَـمّاً أهدهده بين شوارع المدينة طوال النهار، وفي المساء ينام معي في سرير واحد.. لو كان هـمَّـ (ـةً) على الأقل! لو كان أنثى لهان الأمر! 
زوجتي حامل وعليّ أن أكون في مستوى الحدث.. عليّ أن أبحث لها عما تشتهيه. واسمحوا لي، إن لم أخبركم بما يريده وحـمُها، فلذلك سببان: أحدهما أنه يُستحَبّ وفق عادات محلية، ألا يُشهَّـر بالمطلوب قبل العثور عليه، والثاني، وهو الأهم، أن منطق هذه القصة يقتضي أن تصبروا معي قليلا، وما صبركم إلا بالله. لو كان الأمر بيدي لآتيتكم من "قاع الخنشة"، ولكن الله غالب.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة