أنفاسوهو في كوخه البئيس ، اعتاد أن يستلقي على ظهره ... يتأمل السقف ...هذه الأخشاب المهترئة ... يناوشها ، يشكو إليها مرارة الفقر والحاجة ، لكنه ، بعد حين استدرك ليقول : كفى من الشكوى ...أنا والكوخ ... ورفع يده عاليا ...كهذين الأصبعين ، أنا والكوخ جسد واحد ، روحان في جسد واحد ، أو جسدان فيهما روح واحدة ، أو ... لم يدر ما يقول . كان يمقت الفلسفة عن آخرها ، يحتقر هؤلاء وأولئك من الذين يجرون الأسماء والحروف والأفعال ... يمططونها ليستخرجوا منها هرطقة أو سفسطة ... أو هراء كما تعود أن يسميه ... لكنه الآن في حاجة إلى الفلسفة ، على الأقل ليحلل ويفلسف ... لم يعد معه غير المجردات ... بعد أن غادرته الماديات ، طرد من عمله ، وغادرته زوجته ، وتخلى عنه أصدقاؤه ، لم تستثن منهم الخيانة أحدا ... قرر أن يكمل طقوسه ؛ يستلقي على وجه أمه الأرض ، لا يفصله عنها فاصل ... يستمد منها الدفء ، وإن كان سطح الزليج باردا ، تبا للخيال ، ما أوسعه وما أوسع ما يدركه ... فضاء الخيال مجرة قائمة بذاتها ، بكواكبها ونجومها ... بشموسها وأقمارها ... يستبد الخيال بالفضاء بعيدا عنه ... الفضاء الذي هناك لا الذي هنا ، استعطفه ... لا جدوى ، أصر بكل ما يملك من رغبة وإرادة وتصميم ، لكن الخيال ، بقسوته الغريبة ، بفضاضته وشراسته ... أبى أن يذعن ، بقدر ما يزداد هذا إلحاحا يزداد الآخر رفضا وعنادا ... لم يكن أمامه من خيار ... العالم في نظره عالمان : عالم المثاليات ، المجردات ... باختصار عالم الخيال باتساعه ... بموجوداته التي لا تنتهي ... بسخائه الذي لا يعرف حدودا ... في عالم الخيال ، هو سيد الزمان والمكان ، فضاء الخيال ، مساحته ، طوله ، عرضه ... كلها طوع أمره .

أنفاسوقف صلاح كعادته إلى جانب الطريق وسط السوق ، عن يساره صالون حلاقة ، و عن يمينه بائع خضار ، وأمامه حمار يهش بذيله الذباب عن مؤخرته بهدوء قد ربط بحائط قديم متسخ يعج بالقاذورات . وضع صلاح على الأرض اسطوانة غاز قديمة متهرئة قد تنفجر في أي وقت .. وأخذ يمارس مهنته الجديدة بتجهيز القهوة ، ثم يلّف ويدور ليبيعها من الصباح إلى المساء حتى تنتفخ ساقاه لكثرة المشي ، وهو يصنع قهوة لذيذة بنكهة الهيل يجعلها تغلي على نار هادئة عدّة مرات ، إلى درجة أنها أعجبت الحاج سمير تاجر الجملة ، هو لم يحج ، ولكن الناس منحوه لقب حاج ربما لكثرة أمواله ، ومعروف عنه أنه لا يعجبه العجب أو الصيام في رجب .. وكثيرة هي المعارك الصغيرة التي تنشب بينهما من حين إلى آخر ، لأن الحاج سمير يرفض أحيانا أن يدفع إلى صلاح ثمن القهوة التي يشربها ، فيستشيط صلاح مغتاظا ، ثم ينهال بلسانه المبري على الحاج سمير بقائمة من الشتائم ، وأحيانا يسترسل فيعيرّه بفمه الواسع واصفا إياه بأنه مثل فوهة الزير ، فيهمّ الحاج سمير للحاق به ممسكا عصاه ، لكنه لا يستطيع بسبب مسمار اللحم الذي استوطن باطن قدمه ، لقد زهق صلاح من الحاج سمير حتى صار يتمنى أن يراه يطق ويموت أمام عينيه .. الحاج سمير قلبه يتمزق غضبا من صلاح ، لأنه اقتحم المخزن ذات يوم ليري الناس البضاعة التي يخبؤها أكواما مكدسة في مخزنه كي يرفع ثمنها أضعافا مضاعفة .

أنفاستلفزيون ملوّن:

اندهش بعرضه ...
 أجهزة (تلفزيون) ، بأسعار مخفضة ..
 عرض عليه شرب أي شيء .. اعتذر بضيق الوقت ،  واستعجل صرف الشيك ..
طلب منه بطاقة الهوية: 
- سأنتظر حتى تصرفه بنفسك ، بقيت ساعة ، وينتهي الدوام .
وضع النقود في جيبه دون عدها ...
- سنذهب إلى بيت شريكي ،إنه بالقرب ...
توقفا قبالة بيت ، أشار بإصبعه:
- توجد زوجته فقط .. انتظرني هنا حتى نرجع .

أنفاسفجأة ، و دون إشعار يذكر ، نبتت أوثان في تراب الجسد الواحد كالطحالب تمتد . إنها  الآن في تناسل متزايد .
وصلني .. أن أوثاننا العاشبة  ، هنا ، زوجت كل إناثها الحوامل إلى أوثانهم اللاحمة ، هناك ، و سيقام حفل الزفاف في أجمل غابة في العالم .و التاريخ لم تحدده الزلازل .
هي أوثان شريفة ، رغم عيبها البارز كالشمس في بطنها ، الذي مافتئ يتسع ، و هو اليوم يمتد إلى ما لا نهاية ..ليشمل حتى ألعاب الأطفال و كراسي المعوقين . و أفاعي " الحلايقية" .
أوثان على عروش من أجساد شجرية اللون و الرائحة .
يلتهمون و لا يشبعون .
يرقصون و لا يشبعون .
هي رقصة الأوثان ..
كن  بحرا حالما ، بسواعد رذاذ الموج ، يصفع وجه صخور الوثن اللعين .
كن شغبا طفوليا في بوابات جسور المعنى ينقش أسماء صهيل الخيل الغاضبة .

أنفاس(هل كان غاندي ابن جنية, وبيكاسو مقدم ضريح في ضيافة
الجبل؟وأنا, هل ما زلت أنا أم أني مجرد ظل لذاك الشاب
فارع الطول الذي ملكته امرأة وقدمت له وجها آخر للحياةوللتاريخ قبل أن تغيبها الضرورة؟
وإذ أحكي الآن, أحكي التاريخ أو الخرافة, العقل أوالجنون؟ وهل هناك فرق؟)

كان هناك إرث تتناهشه الأطماع, وفتاة عبيطة أشيرَ بها عليّ:
- هكذا نجمع المال إلى المال والأرض إلى الأرض
- وماذا عن جمع القلب بالقلب؟
وحل المساء
فاتكأت على جذع شجرة الأوكاليبتوس العجوز,أحشو بحشيش "كتامي" رفيع سيجارتي الثالثة, وأسقي فسحة الذهن بهوامات شائكة مثل إبر تضحك في وجه السماء.
كان للبدر وجه صبية..

أنفاسمن عاداتي أنني أفضّل السير حاسر الرأس، كاشفاً عن صدري حين تعصف الرياح أو يهطل المطر أو ينهمر الثلج متحدياً صفعة الريح أو لسع الثلج والمطر.‏
ولعلكم خبرتم رياح الشمال التي تحمل أجنحتها الغيوم. فهي تهب من ناحية البحيرة ناشرة نوراً بلون الرماد أميل إلى الزرقة، وكانت ندف الثلج تلوّن الطبيعة بالبياض متراقصة في الجو كأجنحة حمام البحر الأبيض المتوسط حين يواجه العاصفة وصراخها يملأ السماء.‏
ويكمل معزوفة البحر الهادر. والشجرة المستحيية ترسل ضفائرها كشعر لم يرجّل، يمتزج في أوراقها الخضرة واللون الذهبي كأنها جدائل شعر عذراء تتلاعب بها الريح وتبعث فيها حفيفاً شجياً. وكنت شغوفاً بالدنو منها والوقوف تحت أغصانها المسترسلة وسماع عزفها للريح.‏
يتراكم الثلج ويذوب على أذني وأنفي فأتخيل أنه هدية البحيرة لزائريها ، تقدمه من زبد أمواجها المتطايرة بصوت فراخ نوارس البحر التي لم تبرح بعد البيضة، ولم تكتس الزغب فوق العنق.‏
لا أدري لماذا يسمون هذه الشجرة المستحيية، لعلها سميت كذلك لأنها تخجل أن تعترض على صفعات الرياح فتتمايل كريشة طائر عجيب على ضفاف البحيرة راضية بدورها الراقص، وأنا أقف تحتها أتأمل بدء هيجان العاصفة، وكأن الطبيعة والبحيرة والسماء والشجر تبيّت لي أمراً ما، وتستهدفني.‏

أنفاسسئم أحد الأنهار مجراه في الحقول والقرى، ورغب في مغادرته والوصول إلى مدينة ليست بالبعيدة والتسكع في شوارع سمع الكثير عن مبانيها الشاهقة المتفوقة على الجبال، ولكنه كان كسولاً، فبقيت رغبته مجرد حلم في الليل وأمنية في النهار، وتنبّه يوماً لأطفال يلعبون على ضفته ضاحكين مطلقين الصيحات المرحة، وراقبهم بفضول، وتاق إلى مشاركتهم في اللعب، ووجد نفسه يتخلى عن كسله ويهجر مجراه مندفعاً نحو الأطفال محاولاً اللعب معهم، فبوغت بالأطفال يصرخون فزعين، ولاذ بعضهم بالهرب مبتعداً عنه بأقصى سرعة، وطفا بعضهم الآخر على سطحه جثثاً هامدة خنقها ماؤه ولم تعد قادرة على اللعب بمرح، فاستغرب النهر ما حدث، وفقد رغبته في اللعب، وانسحب من الضفة عائداً إلى مجراه مقسماً ألا يغادره.‏
وهرع رجال إلى النهر، وانتشلوا من مياهه الأطفال الغرقى مدّعين أنه قاتل، فاكتأب النهر، وأقسم أنه بريء، ولكن الرجال لم يسمعوا سوى خرير يقوى ويضعف ويعلو وينخفض.‏
أما الأطفال الناجون، فقد عادوا إلى قريتهم القريبة من شاطئ البحر فرحين بهربهم من هلاك محتوم، وكانوا أطفالاً صفر الوجوه ذوي أجسام هزيلة مغطاة بثياب مهترئة، لا يعرفون الإحساس بالشبع، ولا يذهبون إلى المدرسة كل صباح، وقد سمعوا صوتاً مجهول المصدر يناديهم ويحضهم على الانتحار، ولم يسمع الكبار غير صوت مذيع يصف بحماسة وقائع مباراة في كرة القدم.‏

أنفاسالسرير موضب بعناية فائقة.
الغرفة يسكنها بياض كالصبح.حتى الإشارات الضوئية المنبعثة من تلك الآلة الهامدة انسجمت مع بياض الغرفة رقم...
أنبوب مطاطي وشم حافة السرير الموضب بعناية,انزلق كي يستقر داخل آنية زجاجية تحت السرير
القطرات متخثرة,لونها يكاد يصير بنيا...
القطرات منتظمة التباعد...
الدمعة التي حنت على خده ـ ولأنه كان يريد أن يخترق الزجاج العازل ـ انسابت ببطء هي الأخرى لتبلل زجاج الغرفة...
تخثر الدم وبطء انسيابه على طول الأنبوب المطاطي يعطي انطباعا بتثاقل الزمن كي لا يعلن الفاجـ....
توقفت القطرات....
همد الكائن الممدد على السرير الموضب بعناية...
انبعث صفير متواصل من الآلة الجامدة,توقفت الإشارات الضوئية...