أنفاسهـل يـعـقـل أن يفكر المرء في نفسه متناسيا الآخرين ممن يعيشون معه في الوطن والبلدة وربما في البيت .
كان قـد جلس في المقهى على أحد الكراسي الأمامية . طلب من النادل زجاجة كوكا كولا ، سأله إن كان يبيع السجائر بالتقسيط أجابه النادل بالإيجاب ، طلب سيجارتين ، التفت إلي يسألني عن الثقاب ، وحين أكدت له أنني لا أدخن بدأ يحدثني عن تاريخ علاقته بالتدخين وبدا كأنه استأنس لحديثي رغم أنني استغربت منه هذه الجرأة الزائدة ، وتساءلت كيف أمكن لشخص ليس بينك وبينه سابق معرفة أن يسترسل معك في حوار من أي نوع كان ، حتى من دون أي مبرر معقول . قلت في نفسي لعله لم يفهم الأمور بالصيغة التي أفهمها بها أو لعلي أنا الذي كنت دائما أبحث عن التفسير المنطقي لأي حالة أو ظاهرة تصادفني ، هل من الضروري أن نخضع كل أمورنا للمنطق ؟ هل نحتاج إلى طلب الإذن لنحدث شخصا ما عما يختلج في صدورنا ؟ أم أن الأمر بسيط لا يستدعي كل هذه القيود . بدأ يحكي قصته ـ كما سماها هو شخـصيا ـ مع السيجارة ، قال لي بأن رفقة السوء هي سبب هذه البلية التي أصابته منذ أزيد من أربعين سنة  .أيامها كان يجمع أعقاب السجائر أمام المقاهي ويحاول الاقتداء بالكبار على خلفية ملصقات كان يراها هنا وهناك تحمل صور رجال يضعون بين أصابعهم سيجارة من نوع ونستون أو مارلبورو وعلى وجوههم علامات الرجولة والقوة .

أنفاس"ولما صعّرتُ لها خدي وطاءً على الثرى
قالت : لكِ البشرى بلثم ِ لثامي "

عمر بن الفارض

يسكنُ فوق سحابة الكلمة ، يهطلُ الحرف من فمه كاللؤلؤ المكنون
قطرة ..قطرة ..تروي جفاف العمر ، تردمُ تشقق النفس ، لتخضرّ أرض الجُدب ، وتزهر حدائق الأمل الصدئة .
يرتجفُ أصغرُ ..أصغرُ شريان في أقصى زوايا قلبي ، تصتك أسناني برودة الرهبة ، ترتعش أصابعي  أتخدر ، تدور الجدران ، يلتف السقف ، أراني لاعبة أكروبات صينية تتسلق على مطلع قصيدة ، تقفز بين ردهات بيت قصة ، ترقص بين الضمة ، الفتحة ، وتنثني على الكسرة بين الشطور والسطور..
زلزال يهز أطرافي ..فأنشطر ، يسقط كلي من كلي ..!
يهمس بصوت رخيم ، عابق ، مخملي .."يا حلوتي رددي معي" ..

أنفاسفي يوم بعيد و شديد البرودة من أيام كانون قبل ثلاثين عاما وقف الأستاذ عبد الجليل نائب مدير المدرسة كعادته بوجهه الأحمر الملسوع من البرد قرب بوابتها الكبيرة المشرعة لابتلاع التلاميذ جماعات وفرادى ، ليس قربها بالضبط ، إنما بعيد بعض الشيء ، يذرع الأرض ذهابا وإيابا مطأطأ الرأس وقد لف ذراعيه خلف ظهره ، وأخذ باطن كفه الأيسر يحتضن قفا كفه الأيمن وتركهما يستريحا على العصعص . أحيانا يتوقف للحظات بين الفينة والأخرى ليطيل النظر إلى الأرض حوله كمن يبحث عن قطعة نقود ضائعة ، ثم يعود للمشي البطيء كالسلحفاة من جديد . وقد يضع كفه في جيب بنطاله ليدفئه ، فيخرج الكف وقد اصطاد حبة فول كان قد نسيها من زمن ، فيلقي بها في فمه كمن يلقي حجرا في حفرة عميقة ، وقد يقتنص الكف فتافيت ورق عتيق فيرمي بعضها ويحتفظ بالبعض الآخر.
وهو يأتي إلى هذا المكان بالذات كي يمسك تلميذا متأخرا فيوبخه أو يضربه ، وهذا يعتمد على مدى قرب التلميذ إلى  نفسه أو على مكانة أهله .. بينما هو كذلك لمح من بعيد تلميذا قادما لم يستطع أن يميز ملامحه رغم نظارته الجديدة ذات الإطار البني الداكن مثل كفتة لحم العجل . فأخذ احتياطه وراح يتأكد بأنامله من سلامة إغلاق دفتي سترته الضيقة والملتصقة بجسده وكأنه حشر بها حشرا بعد عناء ، ولامس ببواطن أنامله أزرارها المعدنية التي فقدت بريقها وكُشط طلاؤها .

أنفاس استيقظت على صوت أرعن..
حاولت تحديده أو تشبيهه بصوت في الذاكرة، لكنني فشلت، واكتشفت أن الذاكرة لا تستجيب إلا بمقدار اهتماماتنا! فمن أين كنت سأعرف أن الصوت كان لمنشار كهربائي؟ وكيف يخطر في البال أن أحدا ما سيقرر في لحظة عابرة أن يقص شجرة ما؟
لم تكن الشجرة في البدايات تعنيني من قريب أومن بعيد.. كانت سروة طويلة أمر بها ولا أعيرها أي اهتمام، ولم تكن تثير بي أي شعور محدد، إلى أن رأيت يوما على ساقها حفرا بمسمار يقول: أنت حمار!
يومها حاولت اكتشاف المسافات بين الشجرة والمنازل الأخرى، وقدرت أخيرا أنني أقرب الرجال إليها في الحي، ما يعني أنني الحمار على ساق الشجرة!
فكرت في استخدام مسمار أو سكين لإزالة الحفر، لكنني خشيت أن يراني أحد، وتحديدا ذاك الذي كتب العبارة، وتصورت حجم الشماتة التي سيمتلئ بها حين يراني، فعدلت، وصرت كلما أمر بها أحاول أن أتجنب النظر إليها، لكنني في لحظة غامضة، ألقي بنظرة خاطفة فتصيب الهدف تماما: أنت حمار!

أنفاسالحكاية الأولى
أوصيك خيرا بالأزهار
في حقل من الياسمين ، كانت نحلة تحلق مزهوة بعودة الفصل الجميل ، وهي تداعب البتلاث سقطت فجأة وأحست بدوار كبير .استعادت وعيها وهي داخل قنينة زجاجية ، ومن الخارج حاصرتها طفلة صغيرة بعينين صغيرتين ، توسلت إليها باكية :
-    أريد العودة إلى حقلي .
فأجابتها الصبية حانقة :
-    هذا طلب مرفوض ...مرفوض...
من فرحتها عدت بجنون ، سقطت القنينة وتكسرت ، وتحت هتافات الورود حلقت النحلة المسكينة مرعوبة خائفة نحو الأعلى .
بعنف بطشت الفتاة بالزهور ورمت بها عاليا ، فأصابت النحلة وسقت مرة ثانية لكن على خدها المتورد فلثمته بلسعة .

أنفاسبـعـد أن ضاقـت الـسـبـل بـعـلـي واشـتـدت أزمـتـه الـمـالـية جـراء زيـادة نـفـقـاتـه بـدأ يـحـس بـثـقـل الـمـسـؤولـيـة الـمـلـقـاة عـلـى عـاتـقـه  .قـد كـبـرت الـبـنـات ولـم يـعـد مـا يـحـصـل عـلـيـه مـن أجـرة هـزيـلـة كـافـيـا لإعـالـة أسـرتـه الـتـي بـدأت تـنـمـو بـشـكـل مـسـتـمـر فـي الـوقـت الـذي ظـل فـيـه راتـبـه كـمـا هـو ولـمـدة تـزيـد عـن عـشـر سـنـوات .لـقـد انـتـظـر تـرقـيـتـه كـمـوظـف بـسـيـط بـالـبـريـد ، لـكـن دون جـدوى فـي حـيـن حـصـل عـلـى  الـتـرقـيـة شـبـان لـحـقـوا بـالـوظـيـفـة بـعـده بـسـنـوات عـدة ودون أن يـعـلـم لـذلك سـبـبـا . ومـع تـوالـي الـضـغـوط الـمـاديـة عـلـى كـاهـلـه بـدأت زيـاراتـه لـمـكـتـب رئـيـسـه تـتـوالـى مـتـسـائـلا مـسـتـفـسـرا عـن مـصـيـر وضـعـيـتـه ، كـيـف يـتـسـلـق مـوظـفـون أصـغـر مـنـه سـنـا وأقـل خـبـرة وتـجـربـة بـل وكـفـاءة ، الـسـلالـم والـدرجـات ويـبـقـى هـو قـابـعـا فـي نـفـس الـمـكـان كـأنـمـا كـتـب عـلـيـه أن يـبـقـى بـلا حـراك عـلـى خـلاف نـظـام الـكـون والـحـيـاة . كـانـت وسـيـلـتـه الـوحـيـدة هـي الـشـكـوى وكـتـابـة رسـائـل الاسـتـفـسـار دون أن يـمـلك أن يـتـخـلـى عـن مـبـادئـه كـمـا فـعـل ويـفـعـل الـكـثـيـرون مـمـن يـعـرفـون الـمـسـالك والـطـرق والـمـمـرات الـجـانـبـيـة لـتـحـقـيـق مـا يـريـدون دون أن يـكـلـفـهـم ذلك جـهـدا ولا مـشـقـة . كل مـا فـي الأمـر أن يـرسـلـوا عـلـبـا أو أكـيـاسـا إلـى رؤسـائــهـم لـيـحـظـوا بـعـدهـا بـالـتـرقـيـات والـرخـص وشـتـى الامـتـيـازات ، بـيـنـمـا ظـل صـاحـبـنـا لـسـنـوات طـويـلـة يـعـمـل بـجـد واجـتـهـاد ، وبـكـل مـا أوتـي مـن قـوة وصـبـر لـدرجـة أنـه كـان يـعـلـم كـل صـغـيـرة  وكـبـيـرة فـي الـمـكـتـب الـبـريـدي ، إلا أنـه لـم يـكـن يـعـلـم تـحـديـدا أيـن يـسـكـن رئـيـسـه ولا مـا يـفـضـلـه هـذا الـرئـيـس بـل ولا حـتـى تـاريـخ مـولـده .

أنفاسكلما استمعت إلى صوت البيانو، تذكرت رغبتي القديمة في تعلم الموسيقى.. تلك التي نشأت ذات يوم حين سمعت البيانو لأول مرة. لكن العمر تقدم بي، ولم تتح لي هذه الفرصة حتى اللحظة، وقد كان على الدوام ثمة ما يمنعني من ذلك.. النشاط في حزب سري، والعمل في أوقات الدراسة مثل إخوتي الآخرين، والزواج أخيرا، وإنجاب الأطفال.
لكنني ما إن أرى بيانو في مكان ما، حتى أشعر بقوة تجذبني إليه، وكم تمنيت لو أتمكن من الجلوس ولو مرة واحدة أمام تلك المفاتيح، لكي أثبت أنني قادر على العزف من دون تدريب، نظرا لإحساسي القوي بالنغمات، ولثقتي العالية بقدرتي على معرفة المفاتيح الملائمة لها، حتى وأنا مغمض العينين! ثم نسيت الأمر تماما بعد أن امتلأ المنزل صراخا وعويلا، والقلب كمدا على عمر يتطاير مثل دخان السجائر من بين الأصابع.
كان أصغر أبنائي سيحتفل بعيد ميلاده السادس، وكنت مضطرا لإهدائه شيئا ما. ولأنني مللت  الملابس التي أراها الأفضل في المناسبات كلها، نظرا لما يوفره ذلك من استحقاقات يومية ـ أعتذر عن استخدام ( استحقاقات) التي هي من مخلفات العمل السياسي ـ ، فقد قررت أن أهديه شيئا لم يخطر بباله من قبل، من دون أن أحدد ذلك الشيء..

أنفاسسامية،يا جنونا ألم بي ذات نزوة على باب العمر المتهالك. أبحث عنك الآن في كل الوجوه, في كل نفثة دخان, وفي كل رشفة من فنجان قهوة سوداء.
التقيتك على قارعة الغياب. صدمتني عيناك الجريئتان في لحظة كنت أستجمع شتاتي من حب عاصف أودى بغروري.
أحقا خنت صديقتك التي عبرتها أنت مقتحمة تخومي في ثقة زائدة؟
في ذلك الركن الذي تغطيه الأشجار في أقصى مكان من الكلية, كنت أحضنها هي المتعاقبة على فصولي المشروخة مثل اللعنة, ألامس شفتيها الظامئتين أبدا, انبعثت مثل طيف لا أدري من أين لتصيحي:
-حصلتكم* أ لعفاريت, آش كاتديرو**؟
لم أكن أعرفك, هي كانت صديقتك المقربة. توقفت مشدوها والتفتت هي إليك مذعورة. لملمت شفتيها وابتسمت وقد احمر خداها وأنت تقهقين في صخب. نظرت إلي ومسحت قامتي كلها. كنت أقصر مني بكثير. توقفت عند عيني وابتسمت في عهر وقلت لها: هذا يصلح لي أنا وليس أنت.
ببساطة انكمشت إلى"هذا". لم أعر كلامك اهتماما. ألم أقل لك أن غروري قد أودى به ذاك الحب اللعين؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة