أنفاس"قبورنا معتمة على الرابية
والليل يتساقط في الوادي
"
للراحل محمد الماغوط
 
أفقت مثقل الرأس...
كان نومي متقطعا,لم أقو على احتمال حرارة امتصت كل شئ ليعسر تنفسي وأغرق في عرق  بلل ملابسي الداخلية...
غادرت ضيق الغرفة عبر ممر ضيق هو الأخر.اخترت المكان القصي من الشرفة التي لم تتسع لأكثر من ثلاث طاولات متقاربة و ست كراسي...كانت الشرفة الوحيدة بهذا النزل اليتيم بهذه التي لاهي بالمدينة ولا هي بالقرية...بيوت تكاد تشكل كتلة طينية واحدة ذات شبه مريع بتلك التي ,في صغرنا,شكلناها من وحل البرك...مع ما شكلنا من أكواب وأباريق وحتى بعض النوق النائخة دوما : مثلث عليه رأس صغير وذيل على الوجه المقابل...
جلست أرقب تلك الربوة التي نسجوا حولها ما نسجوا...لكن رؤوس النخل اللامعة مع كل نسيم عليل,كانت كما فرشات تنمق إطار لوحة زاهية,تشدني...

أنفاسأخيرا استطعت أن أنفخ بطنها. لكني لم أنجح في هذه المهمة إلا بعدما صارت رجولتي في الميزان. هذا ما كنت أقرأه باستمرار في عيون جاراتنا (رحمة) و(زهرة) وأخريات. كـنّ يجهلن بأنني خريج معهد الترجمة، وأنني قادر على نقل وشوشاتهن إلى سبع لغات على الأقل. يكفي أن تصدر عنهن غمزة أو إشارة لأفهم منها أنهن يرمينني بالعُـنّة، ومعناها وِفق واحدة من تلك اللغات التي أتقنها أنني "مْـثقف"!
حينما يحاصرنني بنظراتهن ينتابني الشك، فلا أشعر إلا وأنا أتحسس حِجري لأطمئن على سُلالتي، ثم أتساءل: مُـثقفٌ "مْـثقف"؟!  يا ذِي الفضيحة! وماذا سيكون مصير هذا الوطن إذا كان مثقفوه مثقفين وأميـوه هم الفحول؟
لكن بقدر ما كانت حركاتهن تضايقني، كنت أنتشي بقدرتي على اقـتحام عوالمهن النسائية.. أحيانا، أترجم همسهن حتى قبل أن أسمعه، وهذا طبيعي، فلمثل هذه الوضعيات يتخصص المرء في الترجمة الفورية.
لكني لن أعمل بعد اليوم ترجمانا، فزوجتي حامل. كلانا في الحقيقة حامل: هي تحمل جنينا، وأنا أحمل هَـمّاً أهدهده بين شوارع المدينة طوال النهار، وفي المساء ينام معي في سرير واحد.. لو كان هـمَّـ (ـةً) على الأقل! لو كان أنثى لهان الأمر! 
زوجتي حامل وعليّ أن أكون في مستوى الحدث.. عليّ أن أبحث لها عما تشتهيه. واسمحوا لي، إن لم أخبركم بما يريده وحـمُها، فلذلك سببان: أحدهما أنه يُستحَبّ وفق عادات محلية، ألا يُشهَّـر بالمطلوب قبل العثور عليه، والثاني، وهو الأهم، أن منطق هذه القصة يقتضي أن تصبروا معي قليلا، وما صبركم إلا بالله. لو كان الأمر بيدي لآتيتكم من "قاع الخنشة"، ولكن الله غالب.

أنفاسبعد شتاء قارس البرد سقطت فيه ثلوج كثيفة غطت الجبال والوديان والسهول والهضاب بلباس أبيض ناصع البياض قدم صباح نهار يوم ربيعي جميل . أشرفت الشمس في هذا اليوم على غابة سبل من فوق الجبال الشامخة العالية ، وأرسلت أشعتها الذهبية البراقة لتزيل البرد وبقايا الثلوج ، وتنشر الدفء في أحشاء كل حي يعيش في هذه الغابة الجميلة من مخلوقات الله التي لا تعد ولا تحصى . ونهضت هذه المخلوقات لتقابل هذا النهار الجميل ، وتستمتع بكل بهجة وسرور بنعم الله الكثيرة ما شاء الله لها أن تستمتع بذلك .
خرجت الصديقات الأربع من بيوتهن منذ الصباح الباكر كعادتهن التي مارسنها منذ عهد بعيد . وما خرجن إذ خرجن إلا ليجمعن ثمارا وفيرة في هذه الغابة التي سكنّاها منذ فترة ليست بالقصيرة ، ويلتهين ما يلتهين بالتجوال واللعب ، ويمرحن ما يمرحن بالرقص والغناء ، ويثرثرن ما يثرثرن وهن يعملن معا ما شاء الله لهن بذلك . وما أن مشين مسافة قصيرة إلا ولفت أنظارهن شيء جديد حصل على مقربة من بيوتهن . لقد استجدّ مرتفع غريب غير متناسق الأطراف ، طال بما يسد أنظارهن من رؤية أطراف الغابة المتناثرة . فوقفن مندهشات مستغربات من أول وهلة ثم خائفات وجلات بعد ذلك ، فمدققات متسائلات بعضهن البعض بنظراتهن الغريبة المومئة : ما هذا الشيء الغريب الذي نراه الساعة والذي لا عهد لنا به ؟ وفي تلك اللحظة كان كل شيء ساكنا خامدا هامدا إلا من نسيم عليل يداعب أوراق الأشجار الغضة الخضرة ولا يكاد يحركها قيد أنملة .

أنفاسإنّ السّواد المُطْبِقْ على ساعاتنا يُطمئننا بضرورة انعكاسٍ واضحٍ للقمرْ ....
من يملك تسمية الإتجاهات ، يملك حتماً توجيه البوصلة .. هكذا تبدو الحقيقة أكثر انسجاما مع ذاتها . فمن منّا يقول أنّ تدفق الدم من وإلى القلب يأخذ وصف الجريمة التي تزجّ بمرتكبها الى حيز المقصلة ؟ وهل أن دمنا الموزّع على كافة أنحاء جسدنا المنفيّ _ بالكيفيّة التي يوزّع فيها الطحين على اللاجئين _هو سلاحنا السّري والوحيد الواجب مصادرته احترازا من تدوين وصيتنا الاخيرة ...؟؟؟
إذاً ... فيا أيّها الدم المشبوه فينا ... أخرج منّا فإنك رجيم...
أخرج بكل الوسائل ، مع كل السوائل ،
مع اللعاب الفائض عن الحاجة ،
مع رشح المسامات ،
مع ذرف العيون ،

أنفاسيا الصابرونَ على الـهمِّ ، ضاقَت عِندَ العُمر أُمنِياتـي ، و ذَاقَت نَفسي وَجَعَ الفَجائِعِ ..
من جَنوبٍ كان الرحيلُ يومًا .. باردًا يومًا .. لكن لهيبًا ما يلفحُ وَجهـي ، و شتاتٌ مُبعثَرٌ مِني تعبثُ بِهِ رياحٌ شتى ، تقفُ أُمي عند عتبةِ البابِ و بيدها إناءُ ماءٍ لِتَصبه ورائي حتـى أعودَ إليها ، و فـي عَيْنَيْها بريقُ ماءٍ آخر .. لَـم تَقُل شيئًا لكن تـمتمات تصدرُ مُبهمةً عن شَفَتَيْها ، خـمنت أنـها أدعيةٌ بالـحفظِ و العودةِ .. أخي الصغير واقـفٌ حذوها بقميصهِ الـمتهدلِ و إصبعه تعبثُ بِأنفِهِ ، ينظرُ بغرابةٍ إلينا ، فهو لا يَـعلم بعدُ معنـى الرحيلِ .. مِنَ النافذةِ الـخشبية الزرقاء تُطل أختي و هـي تُلقي بيـن الـحين و الآخر بنظراتٍ جزعةٍ إلى داخلِ الغرفة ، هنالك أبـي على فراشٍ سقيمًا ، مرضٌ داهـمَه فلازَمَهُ فأقعَدَهُ .. تـحسَّنت حالُــه قبلَ يومين فأخبرتُه بـموعدِ الرحيل ، لَـم يقُل شيئًا لكني أحسستُ في صمتهِ الرهيبِ توسلا بالبقاءِ .. و مِن عَينَيْهِ اللتين تـهدَّلت عليهما الأجفان صَرَخَ استجداءٌ مزلزلٌُ بعَدَمِ الرحيلِ .. و لكن أنّى لـي ذلكَ و لَـم أبلُغ فرصة َ السـفرِ هَذِهِ إلا بعناءٍ قد لا أستطيعُه ثانيةً.. كذلك الـحصولُ على تأشيرةِ سفرٍ إلـى البلاد التي أقصدُ ليس متيسرًا دومًـا .. و يـتَعَثَّرُ تدفق الـدم عَبرَ الشرايين فأدركُ أن اِنـخِسافَ الأرضِ بـمَن عليها ليس دائمًـا أشدَّ الـمَصائِبِ ..

أنفاسكان يجلس على كرسي بلاستيكي أمام محل بقال الحي ، تمر الفتاة الصغيرة أمامه لتشتري بعض الأغراض ، يتأملها محدقا وعقله مشغول تتقاذفه الأفكار كيف تشاء ، تساءل كيف أمكن لهذه الصبية وهذا الوجه الطفولي أن يثيرا انتباهه بهذا الشكل الملح . التفت إلى البقال يسأله عن هذه الطفلة التي خرجت للتو من المحل بدعوى أنه اكتشف في ملامحها ما جعله يعود إلى الوراء لسنوات مضت ، ليسترجع بعض الصور التي خزنتها ذاكرته ، ولم تصل إليها آثار التعرية وعوامل النسيان . أجابه البقال بأنها ابنة صديقه القديم السيد جابر . لحظتها تراكمت في ذهن صاحبنا صور وذكريات تلاحقت بشكل جنوني لم يستطع أن يوقفها . عادت به الصور إلى سنوات مضت كان يحمل فيها الطفلة وهي صغيرة ، ويضعها في حجره . كانت كلما رأته تناديه : عمي . قال للبقال : أتعلم أن هذه الطفلة كانت صغيرة جدا حين كنت أشتري لها قطع الحلوى . أجابه البقال : يا أخي لقد مرت سنوات طوال ، فإذا كان ما تحدثت عنه دقيقا فإن الأمر يعود على أقل تقدير لأكثر من عشر سنوات .
هاهي تعود إلى محل البائع ، ربما لأنها نسيت شيئا جعلها تضطر للعودة . ناداها ، التفـتت إليه ثم أكملت مسيرتها نحو المتجر ، كرر النداء ، فأطلت برأسها من باب المحل ، تأملته طويلا قبل أن تصرخ : عمي . دنت منه كثيرا : أعذرني لم أكتشف ملامحك في البداية ، فضلا عن أنه مر وقت طويل منذ آخر مرة رأيتك فيها ، على فكرة أين كنت طوال هذه السنوات ؟ والله يا عمي ، صدقني ، لقد اعتقد البعض أنك مت خاصة وأن اختفاءك كان مفاجئا وبدون سابق إعلام . 

أنفاسك..ك. كتب
ق..ق.. قراءة
أ..أ..أدب
حـ..حـ.. حساب
ن..ن..نشاط..نحو..نقل
ت..ت..تاريخ..تصريف..تعبير..تفتح..
ع..ع.. عبادات..
ع..ع..عقائد..
ش..ش..شكل..
ل..ل.. لغة..
ج..ج..جغرافية..
ر..ر..رسم
أقول ويعيد الصغار، ثم أعيد ويرددون، وفجأة أظلمت الحجرة التي يدخل أعلب نورها من الباب، كنت وراء الصفوف أتكئ على الجدار الخلفي، أتابع التلاميذ وهو يرددون الكلمات المكتوبة على السبورة السوداء..
وقف يسد الباب بقامته المديدة، بمنكبيه العريضين وجلبابه الأسود الفضفاض، لم بدخل في الوهلة الأولى.. توقف يبحلق بعينيه الواسعتين في أرجاء الحجرة، لم يرني او لم ينتبه لوجودي هنا الى الخلف.. ربما كان ينتظر أن يجد شخصا طويلا عريضا بلباس أنيق، وربطة عنق مزركشة، يبظر اليه، فيحس بالهيبة والاحترام... تقدم قليلا داخل الحجرة وقد أحس بحرية التصرف، بدا لي وكأنه يدخل اصطبلا للبهائم، وتذكرت يوم جاء بي أبي الى المدرسة أول مرة، وقفنا امام مكتب السيد المدير ولما أذن لنا بالدخول، خلع أبي نعليه ووضعهما تحت إبطه، ثم طلب مني أن أفعل مثله، ودخلنا..انتصبنا امام المكتب الخشبي اللامع، وما إن انتبه الينا المدير حتى قام من مكتبه، تقدم من أبي، قدم له كرسيا، وطلب منه باحترام كبير ان يلبس نعليه وأنا كذلك، وسأله لم فعل ذلك.

أنفاسأحس عمر بالفراغ والبرد ففتح دفتي كتاب كبير ملقى على الطاولة واندس فيه.
التقى هناك امرأة تفترش رصيفا باردا وترنو للشارع، خلع معطفه والبسها إياه .ومضى وفي قلبه غصة ممضة حتى شارف صفحة أخرى، استند فيها إلى جدار فوقف قربه رجل ضرير يتضور جوعا ، لم يطلب الرجل من عمر شيئا، نظر عمر لوجهه مليا ثم قاده إلى حانوت في الطرف الآخر واشترى له طعاما بما كان في جيبه من مال.
غفا عمر قليلا ثم وجد نفسه في صفحة أخرى وفيها وجد زنازين كثيرة وطغاة بلا عدد وما خرج من هناك حتى كان قد جرد من كل ملابسه وذاق ألوانا من العذاب ....
مشى مسافة طويلة حتى أخذ منه التعب والجوع تذكر المرأة والرجل الضرير فاستشعر في قلبه غصة ممضة...