أنفاسالقاعة فارغة، الكراسي مصطفة دون أن يجلس عليها أحد..بالركن منبر مستطيل وضعت عليه ميكروفونات تستعد لنقل أصوات المحاضرين..وبالجدار لافتات تعلن عن ندوة حول الكتابة الرقمية..المستقبلون بباب القاعة ينتظرون استقبال من يأتي..لحظات تمر دون أن يظهر أحد..لكن بعد فترة يظهر بعض الحضور، يليهم آخرون على فترات متفرقة.
لم تمتلئ كل الكراسي..ظل أغلبها فارغا..ومع ذلك قرر المنظمون عدم الانتظار..ولعلهم كانوا متعودين على عدم حضور أشخاص كثيرين..لذا أعلنوا عن افتتاح الندوة، مكتفين بالجمع القليل.
جلس المحاضرون بأماكنهم أمام الميكروفونات..وشرعوا في طرح أفكارهم وعرض آرائهم بالتناوب. التفت ورائي فإذا بالكاتب الكبير يحتل مقعدا بالصفوف الخلفية، استبشرت خيرا، وخمنت أن الندوة ستكون غنية بالأفكار المفيدة والتدخلات الفريدة..ولم أهتم بنظرة غريبة تشع من عينيه، وربما لاحظتها أكثر عندما سمعت سعاله المتكرر، وعدم استقراره في جلسته..وقلت لعلها نظرة تنم عن فيض ذكاء..أو هي مؤشر عن اختلافه وتفرده..ومن حق الكتاب الكبار أن يختلفوا عن الناس العاديين..ماداموا يملكون رؤى تسبق المرئي..وسينتظر انتهاء العرض ليتدخل برؤيته ومعرفته التي ستكون حتما جديدة متطورة تتناسب مع موضوع الندوة المتطور والمتجدد..وبذلك سيبحر بنا في عوالم الإعلام والرقميات الأنترنيتية..

أنفاسبيضاءُ, بيضاءٌ كالثلج, بليغةٌ الأنوثة, ضامرةٌ الخصر، هيفاءٌ القدّ، ذاتُ عينين واسعتين، ونجلاوان بحدّة عالية، تشعان بلمعة ذكية كعيني قطة كأنهما تنيران أية ظلمة. يصعد الدم إلى وجهي كلما كانت تقترب مني.. يفور في ذلك الذي أجهله, يضغطني فلا أحتمل, فأقترب منها أيضاً، مقاوماً كل ما يخيفني، فقد أشاعوا يومها بان احد مسئولي الدولة الكبار آنذاك، كانت علاقته بأمها جد وطيدة، وقد عين من بين الطلبة لمتابعتها، وكنت دائما أتحاشى الاقتراب منها، ليس لأني ممتلئ من قصص الرعب التي سمعتها، عن ذلك المسؤول الذي وصفوه بأخطر الإمراض السايكوباثية، وكنا نعرف بان يغار عليها كما يغار على أمها، وصرنا نهابها أكثر مما نهابه، كنت أرى بان الاقتراب منها بأي شكل من الإشكال يتركب عليه عواقب وخيمة لا يمكن تفاديها، فكنت دائما اهرب منها، أو التقرب منها رغم أن ترتيب اسمها الأبجدي يجعلها دائما بجانبي، كنت أرى فيها أنوثة طاغية، وأحاول عدم مسّ أصابعها كلما اشتركنا في تمرين (المختبر)، تتعمد الدنوّ فوق رأسي، وتسقط زفيرها في رقبتي، لانتفض ارتجافاً، أراها تتعمد أن تلامسني، فأخاف من احتكاك حلمتيها الجريئتين، وغالبا ما استرق النظر إلى فتحة قميصها خافيا شبقا دفينا بين عينين مفتوحتين خجولتين، فأجن.. إذ غالبا ما تسرحان جريا في هضاب مفرقها المرمري الذي تتيه فيه أذكى العيون..

أنفاس..أخذت كلاب القبيلة تعوي ..و تعوي ..قلت الكلاب تنبح ..فلم هذه ..تعوي ..؟
و بالرغم من اللون القمري ، الذي يطغى على هذه الليلة ، فإني أكاد أقول أنني لا أرى قمرا .كما أنني أسمع عواء الكلاب القريب مني ، لكن لا أرى كلابا ، و قد تكون ذئابا ..و قد تكون هي تراني .. و "تنمنم" و "تنقنق"حول ظلال وجودي ، خلف سياج هذه الغابة الكثيفة ، دون أن تفهم ما أنوي القيام به ، و لا لماذا أنا هنا ..فقط لأنها كلاب ربما مسنة ، تسمع ..دون أن ترى ، وقد ترى ..دون أن تفهم .قلت ..تشجع يا سالم ، فالغابة لن تكون أكثر من غابة أشجار، و سواقي مياه ،جبلت على طاعة صخور صلبة ، يعود تاريخها إلى زمن غابر و قديم ..
عندما قطفت أول ثمرة قريبة من ذراعي الأيسر ، تعالى عواء كلاب القبيلة ، التي باتت أقرب مما يتصور .لم أشعر بالخوف بتاتا .بل أحسست بقوة لا حد لها ، تسري في كيان جسدي و روحي ، لا أدري ما هو مصدرها ، و لا كيف ولا من أين جاءتني .اخترقت الأشجار بتحد كبير ..أشجار كثيفة و ضخمة و عالية جدا ، لم يحصل أن شاهدت مثلها من قبل .كنت بين الفينة و الأخرى ، أردد لحنا عفويا ، أرتجله بلا أي تفكير مسبق ، أكسر به رتابة هدوء المكان ، الذي يكاد يلمس ..عواء الكلاب دائما يطاردني ، أو أطارده ، لست أدري ...،.إنه الآن آخذ في الارتفاع ، كلما تقدمت خطواتي.الأشباح فكر خرافي يجب أن يقبر إلى الأبد .

أنفاسكانت أشعة الشمس ترتق آخر ثقب في الأفق,وكان لامتزاج اللون هناك,في تلك العين الحمئة,أثر السحر...
صوت النوارس يعلو خلف قارب صغير يزحف نحو المرفأ,حيث بيوت الصيادين القصبية, ذات الأبواب الصدئة, تقبع وراء كثبان رملية كستها نباتات شوكية...
كنا نمشي كعادتنا . يطول مشينا وكثيرا ما يطول صمتنا........
تأخرت في اللحاق بها لأنزع حذائي حين أغوتني قدماها الحافيتان بالمشي على أثرهما . تذكرت قولة فرنسية شهيرة  
Il ne faut jamais marcher sur les pas des autres
وقلت هي ليست هذا الآخر بل هي قطعة مني تخبئ أسرار عشقي ...ثم وضعت قدمي اليمنى على أثر قدمها وقرأت دعاء ولوج الروح...
التفتت تعيرني بالهرم ,والحقيقة...أتعبني المشي خلفها على رمال نصف مبللة...
مدت يدها,جذبتني...كنا وحيدين والماء...نرقب النوارس التي خبا صوتها وتراصت على حافة بقايا سفينة ناتئة وسط الزرقة...
غابت الشمس,لكن الاحمرار لازال يزفها ببطء...

أنفاستلك الأسطورة البكر ، التي انقدّ الكون من أضلاعها ، ومن ركبتها كانت السلالات ، بهية الروح هي ، وفاتنة قسماتها ، حميمة لدرجة أن من يحتضنه آجرّها ينسى كينونته ، وحواسه لا تعد تدرك سوى صنعاء ، دفؤها خلاص الرجفات ، والابتراد بنسائمها شفاء من كل داء ، بلغت من الفرادة بحيث لا تتكرر ، ومن التميز حتى استعصت على كلّ استنساخ ، ومن التسامي أن تعالت على البحر ، وها هو يستجديها – على الآماد- سرّ خلودها ، من حُمرتها الآسرة كان الأصيل ، وبفجرها فضض سام بن نوح نهضة العالمين بعد الطوفان ، إنها ( أزال ) كما نقلت التوراة ، و( المحصنة ) كما ترجمتها لغة الأحباش ، ليس أجمل منها سواها ..
قمرياتها ما كلّت – منذ بلقيس - تنخل عصارة الأقمار ، وتغربل غلال الشموس ، ليلج الضوء نقياً متطيّفاً إلى بؤرة الأعماق ..
بوّاباتها عناوين سخائها ، كرمِها الذي لا يضاهى ، وشبابيكها ( المشربيات ) التي تنفذ منها أغنيات عائدة لتوها من جزر الحنين ، يرقد في أكنافها الماء المبخّر عذباً ، وكأنه يحرسنا من عطش قد يشيع ، أو يمتحن ديمومة الشذروان ( النوافير )الذي ما فتئ يستنهض رواكدنا ، و يشجعنا على أن نوزع صفاءنا على كل جهة تريد ..
و غير بعيد عن السماء يقربنا ( المفرج ) من الله وذواتنا ، فننجز فيه والخلصاء تأملاتنا والصلاة ، وتبذل الأفئدة في ( الدواوين ) في سبيل المحبة أحداقها ، وتنسج الشفاه ألفتها وحكايا الليل عن مجريات النهار ..

أنفاس(1)
قبل عام حل بالبلدة أولئك الغرباء ظاهرو النعمة.. وزعوا أسئلة هنا وهناك , وبعض أسف وبسمات لا تسمن ولا تغني من برد..
قيل إنهم أعضاء لجنة وزارية..
بصلاحيات واسعة وأفق أوسع ..تفقدوا أحوال البلدة والناس, وعدوا خيرا..ثم ابتدأت الأشغال وقام البناء.. ذاك البناء الذي تراه  "تزرورت" فتذكر الذين رحلوا وتغرورق عيناها بالدموع..
- أزيد من ثلاثين طفلا ..يا الله ..أي خريف للأطفال..أي خريف !..
يتهدج صوتها من فرط التأثر, فتشيح بوجهها جهة الصمت.. وتتيقظ الحواس للسعات البرد الذي حل من جديد..

(2)
هناك في الأعالي ..
في المغرب العميق العميق..بعيدا عن المدينة والأضواء والطرق المعبدة والمستشفيات وشبكات الهاتف وأجهزة التكييف واهتمامات الساسة  وكتّاب الواقعية المزعومة .. بعيدا عن أي حلم جميل , قريبا من العطب تقع البلدة ..

أنفاسدموعي امطار كانون الأول
تغمرني , تسبقني,تغرق الممر مابين باب وباب
اهرع نحو الحمام مبتلة , اخلع رداء روحي الأسود , اتوارى داخل نفسي
اجلس القرفصاء واتكـوّم
اتمدد في المغطس يمتزج بدني الملتهب بالماء ..فيلسعني
افرك ..افرك ..ذلك الملعون , المجنون (قلبي) اغتسل من ظلي
اقرأ المعوذتين , الأنشراح ,دعاء غسل الذنوب ..لكني لا اتطهّر !؟
ياالله..انا المرسومة تقاطيعي براءة الصغار , الساكن جوانحي
رشد الكبار ...ضـللّت
احمني من صفاقتي , حررني من حماقتي , كل ما حولي يختـــّل
كعقلي الذي اختــّل..!؟

أنفاسعلى يدي الممدودة، حطت قطرة مطر حملتها الريح إلي.. إذا أمطرت بالفعل، سيكون عليّ أن أغادر مكاني هذا.. فركت القطرة كحبة عطر بين أصابعي وشممتها، لكني لم أشم غير رائحة التراب ممزوجة برائحتي.. نظرت إلى البعيد، أتطلع إلى المارين، أستكشفهم.. فرأيته قادما، بدا مألوفا.. الروبيو¹؟  والدتي كانت تناديه هكذا، فكان ينزعج بينما تقول له:
    - شعرك الأشقر وتلك العينان الزرقاوتان  ستجذب النساء إليك يالروبيو.
    فتعتلي بعض الحمرة وجهه البيضاوي، ويحاول  الاعتراض بينما تستطرد والدتي:
    - ستحطم قلوبا كثيرة، يالروبيو..
    لم أدرك حينها ما كانت تعنيه أمي. وإن كنت بدوري، قد فتنت بابتسامته وأسنانه الناصعة البياض. كان يفركها مرارا وتكرارا في اليوم الواحد.. كان ذلك أحد الأسباب الكثيرة لغضب زوج والدته.. حين يشب الشجار بينهما، كان الروبيو يأتي لاجئا لبضع ساعات أو بضعة أيام إلى بيتنا الصغير.. ينام قرب كومة النعناع الذي سيبيعه والدي غدا في السوق. غالبا ما كنت أتسلل إلى جانبه لنتسامر لساعات طويلة.. أحيانا تنتبه لنا والدتي، فتأمرنا بالنوم، وإذا لم تلح كثيرا أبقى معه لوقت إضافي. كان ذلك في البدء، بعدها اختلف الأمر قليلا..