أنفاس...دخلت "زهرة"مرحة كعادتها لإعداديتها الصغيرة المتواجدة في أطراف القرية.تجر لعب الطفولة و حب الحياة وراءها . تكسو جسدها الصغير بأجمل الثياب (فهي آخر العنقود في البيت و الكل يحبها و يدللها) . تلفت أنظار أهالي القرية النائمين وسط كوم من التقاليد و الممنوعات . قالوا عنها يوما : "اتركوها حتى تكبر,إنها ما تزال طفلة" .
عاشت "زهرة" تلك الأيام المشبعة بالطفولة، تتنقل في كل اتجاه كفراشة تزهو بألوانها المختلفة أيام فصل الربيع . و تعلن عن تحدي خفي يهدد أركان مؤسسة الشيخ. لا تراها إلا باسمة أو ساخرة من بعض الأقوال المترامية في القدم ."لماذا لا أمارس الرياضة؟"سؤال وجهته بعنف لإحدى صديقاتها الصامتات . و هكذا عرفت "زهرة" بأفكارها الثورية الهاربة من قلعة الشيخ .
جاءها في يوم من الأيام,في غفلة عنها,إنذار رسمي يقول:"زهرة.. احتشمي .لقد صرت امرأة.تصرفاتك كلها عيب." يومها رقصت  "زهرة" و رقصت معها كل الأزهار المفقودة بالقرية . و أعلنت عن نجاحها الدراسي مرة أخرى بتفوق . و مزقت بذلك كل الحناجر التي نادت بعجزها عن الدراسة : العنوا هذه الفتاة  إنها شيطان صغير..و لن تفلح في الدراسة.

أنفاسأبحث عن ذئب
قالوا لي ، أن الذئب كان سيأكلني في رحلة من رحلات الصيد التي كان يهواها أبي في شبابه، ومنذ ذلك الحين ، عشقت الصيد أنا الأخرى ، وكلي أمل في العثور على هذا الذئب الذي كان ( سيحتويني ) ولو في معدته .
 
كاتيوشا  
ألا بوجاتشوفا تغني لمليون وردة حمراء ، وكاتيوشا الجميلة تقطف أزهار أشجار التفاح والكمثرى، وكاتيوشا أخرى تعانق كلاشينكوف ، ينجبان جثثا تملأ  (عين الحلوة)  والقمأة .
 
فوفا دوما؟؟ 

أنفاسهـل يـعـقـل أن يفكر المرء في نفسه متناسيا الآخرين ممن يعيشون معه في الوطن والبلدة وربما في البيت .
كان قـد جلس في المقهى على أحد الكراسي الأمامية . طلب من النادل زجاجة كوكا كولا ، سأله إن كان يبيع السجائر بالتقسيط أجابه النادل بالإيجاب ، طلب سيجارتين ، التفت إلي يسألني عن الثقاب ، وحين أكدت له أنني لا أدخن بدأ يحدثني عن تاريخ علاقته بالتدخين وبدا كأنه استأنس لحديثي رغم أنني استغربت منه هذه الجرأة الزائدة ، وتساءلت كيف أمكن لشخص ليس بينك وبينه سابق معرفة أن يسترسل معك في حوار من أي نوع كان ، حتى من دون أي مبرر معقول . قلت في نفسي لعله لم يفهم الأمور بالصيغة التي أفهمها بها أو لعلي أنا الذي كنت دائما أبحث عن التفسير المنطقي لأي حالة أو ظاهرة تصادفني ، هل من الضروري أن نخضع كل أمورنا للمنطق ؟ هل نحتاج إلى طلب الإذن لنحدث شخصا ما عما يختلج في صدورنا ؟ أم أن الأمر بسيط لا يستدعي كل هذه القيود . بدأ يحكي قصته ـ كما سماها هو شخـصيا ـ مع السيجارة ، قال لي بأن رفقة السوء هي سبب هذه البلية التي أصابته منذ أزيد من أربعين سنة  .أيامها كان يجمع أعقاب السجائر أمام المقاهي ويحاول الاقتداء بالكبار على خلفية ملصقات كان يراها هنا وهناك تحمل صور رجال يضعون بين أصابعهم سيجارة من نوع ونستون أو مارلبورو وعلى وجوههم علامات الرجولة والقوة .

أنفاس"ولما صعّرتُ لها خدي وطاءً على الثرى
قالت : لكِ البشرى بلثم ِ لثامي "

عمر بن الفارض

يسكنُ فوق سحابة الكلمة ، يهطلُ الحرف من فمه كاللؤلؤ المكنون
قطرة ..قطرة ..تروي جفاف العمر ، تردمُ تشقق النفس ، لتخضرّ أرض الجُدب ، وتزهر حدائق الأمل الصدئة .
يرتجفُ أصغرُ ..أصغرُ شريان في أقصى زوايا قلبي ، تصتك أسناني برودة الرهبة ، ترتعش أصابعي  أتخدر ، تدور الجدران ، يلتف السقف ، أراني لاعبة أكروبات صينية تتسلق على مطلع قصيدة ، تقفز بين ردهات بيت قصة ، ترقص بين الضمة ، الفتحة ، وتنثني على الكسرة بين الشطور والسطور..
زلزال يهز أطرافي ..فأنشطر ، يسقط كلي من كلي ..!
يهمس بصوت رخيم ، عابق ، مخملي .."يا حلوتي رددي معي" ..

أنفاسفي يوم بعيد و شديد البرودة من أيام كانون قبل ثلاثين عاما وقف الأستاذ عبد الجليل نائب مدير المدرسة كعادته بوجهه الأحمر الملسوع من البرد قرب بوابتها الكبيرة المشرعة لابتلاع التلاميذ جماعات وفرادى ، ليس قربها بالضبط ، إنما بعيد بعض الشيء ، يذرع الأرض ذهابا وإيابا مطأطأ الرأس وقد لف ذراعيه خلف ظهره ، وأخذ باطن كفه الأيسر يحتضن قفا كفه الأيمن وتركهما يستريحا على العصعص . أحيانا يتوقف للحظات بين الفينة والأخرى ليطيل النظر إلى الأرض حوله كمن يبحث عن قطعة نقود ضائعة ، ثم يعود للمشي البطيء كالسلحفاة من جديد . وقد يضع كفه في جيب بنطاله ليدفئه ، فيخرج الكف وقد اصطاد حبة فول كان قد نسيها من زمن ، فيلقي بها في فمه كمن يلقي حجرا في حفرة عميقة ، وقد يقتنص الكف فتافيت ورق عتيق فيرمي بعضها ويحتفظ بالبعض الآخر.
وهو يأتي إلى هذا المكان بالذات كي يمسك تلميذا متأخرا فيوبخه أو يضربه ، وهذا يعتمد على مدى قرب التلميذ إلى  نفسه أو على مكانة أهله .. بينما هو كذلك لمح من بعيد تلميذا قادما لم يستطع أن يميز ملامحه رغم نظارته الجديدة ذات الإطار البني الداكن مثل كفتة لحم العجل . فأخذ احتياطه وراح يتأكد بأنامله من سلامة إغلاق دفتي سترته الضيقة والملتصقة بجسده وكأنه حشر بها حشرا بعد عناء ، ولامس ببواطن أنامله أزرارها المعدنية التي فقدت بريقها وكُشط طلاؤها .

أنفاس استيقظت على صوت أرعن..
حاولت تحديده أو تشبيهه بصوت في الذاكرة، لكنني فشلت، واكتشفت أن الذاكرة لا تستجيب إلا بمقدار اهتماماتنا! فمن أين كنت سأعرف أن الصوت كان لمنشار كهربائي؟ وكيف يخطر في البال أن أحدا ما سيقرر في لحظة عابرة أن يقص شجرة ما؟
لم تكن الشجرة في البدايات تعنيني من قريب أومن بعيد.. كانت سروة طويلة أمر بها ولا أعيرها أي اهتمام، ولم تكن تثير بي أي شعور محدد، إلى أن رأيت يوما على ساقها حفرا بمسمار يقول: أنت حمار!
يومها حاولت اكتشاف المسافات بين الشجرة والمنازل الأخرى، وقدرت أخيرا أنني أقرب الرجال إليها في الحي، ما يعني أنني الحمار على ساق الشجرة!
فكرت في استخدام مسمار أو سكين لإزالة الحفر، لكنني خشيت أن يراني أحد، وتحديدا ذاك الذي كتب العبارة، وتصورت حجم الشماتة التي سيمتلئ بها حين يراني، فعدلت، وصرت كلما أمر بها أحاول أن أتجنب النظر إليها، لكنني في لحظة غامضة، ألقي بنظرة خاطفة فتصيب الهدف تماما: أنت حمار!

أنفاسالحكاية الأولى
أوصيك خيرا بالأزهار
في حقل من الياسمين ، كانت نحلة تحلق مزهوة بعودة الفصل الجميل ، وهي تداعب البتلاث سقطت فجأة وأحست بدوار كبير .استعادت وعيها وهي داخل قنينة زجاجية ، ومن الخارج حاصرتها طفلة صغيرة بعينين صغيرتين ، توسلت إليها باكية :
-    أريد العودة إلى حقلي .
فأجابتها الصبية حانقة :
-    هذا طلب مرفوض ...مرفوض...
من فرحتها عدت بجنون ، سقطت القنينة وتكسرت ، وتحت هتافات الورود حلقت النحلة المسكينة مرعوبة خائفة نحو الأعلى .
بعنف بطشت الفتاة بالزهور ورمت بها عاليا ، فأصابت النحلة وسقت مرة ثانية لكن على خدها المتورد فلثمته بلسعة .

أنفاسبـعـد أن ضاقـت الـسـبـل بـعـلـي واشـتـدت أزمـتـه الـمـالـية جـراء زيـادة نـفـقـاتـه بـدأ يـحـس بـثـقـل الـمـسـؤولـيـة الـمـلـقـاة عـلـى عـاتـقـه  .قـد كـبـرت الـبـنـات ولـم يـعـد مـا يـحـصـل عـلـيـه مـن أجـرة هـزيـلـة كـافـيـا لإعـالـة أسـرتـه الـتـي بـدأت تـنـمـو بـشـكـل مـسـتـمـر فـي الـوقـت الـذي ظـل فـيـه راتـبـه كـمـا هـو ولـمـدة تـزيـد عـن عـشـر سـنـوات .لـقـد انـتـظـر تـرقـيـتـه كـمـوظـف بـسـيـط بـالـبـريـد ، لـكـن دون جـدوى فـي حـيـن حـصـل عـلـى  الـتـرقـيـة شـبـان لـحـقـوا بـالـوظـيـفـة بـعـده بـسـنـوات عـدة ودون أن يـعـلـم لـذلك سـبـبـا . ومـع تـوالـي الـضـغـوط الـمـاديـة عـلـى كـاهـلـه بـدأت زيـاراتـه لـمـكـتـب رئـيـسـه تـتـوالـى مـتـسـائـلا مـسـتـفـسـرا عـن مـصـيـر وضـعـيـتـه ، كـيـف يـتـسـلـق مـوظـفـون أصـغـر مـنـه سـنـا وأقـل خـبـرة وتـجـربـة بـل وكـفـاءة ، الـسـلالـم والـدرجـات ويـبـقـى هـو قـابـعـا فـي نـفـس الـمـكـان كـأنـمـا كـتـب عـلـيـه أن يـبـقـى بـلا حـراك عـلـى خـلاف نـظـام الـكـون والـحـيـاة . كـانـت وسـيـلـتـه الـوحـيـدة هـي الـشـكـوى وكـتـابـة رسـائـل الاسـتـفـسـار دون أن يـمـلك أن يـتـخـلـى عـن مـبـادئـه كـمـا فـعـل ويـفـعـل الـكـثـيـرون مـمـن يـعـرفـون الـمـسـالك والـطـرق والـمـمـرات الـجـانـبـيـة لـتـحـقـيـق مـا يـريـدون دون أن يـكـلـفـهـم ذلك جـهـدا ولا مـشـقـة . كل مـا فـي الأمـر أن يـرسـلـوا عـلـبـا أو أكـيـاسـا إلـى رؤسـائــهـم لـيـحـظـوا بـعـدهـا بـالـتـرقـيـات والـرخـص وشـتـى الامـتـيـازات ، بـيـنـمـا ظـل صـاحـبـنـا لـسـنـوات طـويـلـة يـعـمـل بـجـد واجـتـهـاد ، وبـكـل مـا أوتـي مـن قـوة وصـبـر لـدرجـة أنـه كـان يـعـلـم كـل صـغـيـرة  وكـبـيـرة فـي الـمـكـتـب الـبـريـدي ، إلا أنـه لـم يـكـن يـعـلـم تـحـديـدا أيـن يـسـكـن رئـيـسـه ولا مـا يـفـضـلـه هـذا الـرئـيـس بـل ولا حـتـى تـاريـخ مـولـده .