أنفاسلا أحد في المقهى غيرهما، الجو دافئ والسماء مزهوة بصفائها.
لم تسأله عن شيء، اكتفت بالنظر إلى عينيه الصافيتين...وهي تضع قطع السكر في الفنجان...
 خرج من صمته وقال بما يتناغم مع الجو الدافئ والسماء المزهوة بصفائها:
أحبك.
لم تجبه، إذ في نفس اللحظة التي رفعت فيها بصرها إليه، انحدر من الزقاق عشرة زعران مدججين بالرشاشات وطفقوا يرشقون المقهى بالرصاص مكسرين الزجاج والصمت و...
وماذا بعد؟
 أمامها،  كان الرصاص قد هشم جمجمته ونز خيط دم فوق الطاولة و...
وماذا بعد؟
حركت قطع السكر في الفنجان، رشفت حسوة وهي تسحب نفسا من سيجارة أشعلتها بهدوء وهي ترنو إليه و...

أنفاسغادرت البيت مستعجلة. لم أكحل عينيّ، ولم أغط هالات التعب بماكياج متقن كعادتي.. كان يوما ممطرا، باردا.. ارتديت ملابس دافئة سوداء لكنني تعمدت وضع منديل زهري على كتفي ليكسر كآبة الطقس..
كان قريبا مني.. لسبب ما شعرت به. أحسست به يتربص بي في الشارع. لذا لم أعبر مباشرة. . اقتربت من نهاية الرصيف .... لست ادري.. لم يعد هناك مجال للتقدم أكثر، عبرت... وحينها واجهته، اختطفني ...
                                  ***********************
مددتُ أصابعي أمامي، أعدها، أتأكد من سلامتها..  فتشتُ عن باقي أعضائي.. وجدتني سليمة، سالمة.. أكثر من الضروري .. عندها اكتشفت أني اثنتين ؟
... تحركتُ باحثة عن أطرافي، بقيت من تشبهني على الأرض. وقفتُ، ولم تفعل. انحنيتُ فوقها، حاولت أن أحركها، لكنها بقيت جامدة كحجر، لامستُ جبينها.. شعرها كان مسحوبا للخلف تحت جذع شجرة وتحت رأسها امتدت بقعة دم حمراء!
                            ******************************
جلستُ مرتعبة. لم أشعر ببرودة الأرض ولا بالبلل. الريح بدورها لم تبعثر شعري كعادتها. نظرتُ إليّ مرة أخرى.. لم أبدُ بشعة.
كأنني مستسلمة للحظة تعب على الإسفلت. يدي اليمنى ممتدة على الطريق بينما انحسرت الأخرى في وضعية غير مريحة تحت ظهري، حاولت أن أفلتها دون جدوى.

أنفاسفي مدينتي النائمة بحضن الضفة اليمنى لنهر '' سبو '' ، تبني اللقالق أعشاشها فوق أعمدة النور المعطلة ، لهجرتها موسم معلوم بين الشتاء والصيف ، نتهامس ، تؤذن بربيع محتمل في هذا العام الأغبر !! أراها فتكبر بداخلي رغبة الصعود إليها ، أما السواد المحيط بالرقاب ، فسرعان ما يتلاشى خلف بياض ناصع يتماوج أمام عيون تعبت من بسط السراب على إسفلت داكن .
في الطريق إلى المدرسة، لم أنشغل سوى بردة فعل صديقي المتدين، كعادته سيرعد ويزبد، بعد العلم بخروجي عن جماعته ممن أضربوا أمس.
في حالات روقانه، يحلو لي أن أذكره بتمييزه الجميل باستمرار، بين إضراب المؤمنين وإضراب الكفار، قاصدا بالطبع ما تعرفه الساحة النقابية من اختلاف في المواقع على أساس الاعتقاد الديني، بعدما كان الأصل في التفريق على أساس إيديولوجي بين يمين ويسار، الله يرحم أيام زمان، أصارحه بانكشاف اللعبة التي بدأ يجربها حزبه؟ لكنه يبقى لطيفا وديعا في الحوار.
ربما أجدد له التذكير بيأسي المطلق من كل المسرحيات غير المتقنة الإخراج ، لم يخفف من تهيبي من مواجهته ، غير انشغاله ربما ، ببيان الحكومة حول تفكيك شبكة من إياهم، كنت موقنا أننا في النهاية سنضحك على الحدث، كما سخرنا ذات يوم، من تفاهة باشا المدينة، حين أقدم على تعليق مؤذن الجامع، بدعوى وجود سلاح في البئر الذي تقوم عليه الصومعة، ضحكنا لأن البناء المقام، كان قد شيد قبل ولادة المؤذن، روى من حضر الواقعة، أن التهمة الحقيقية ، إنما هي تبكير الرجل في المناداة على الناس لصلاة العصر، أخطأت عيناه التمييز بين العقارب المتحركة، توهم أن ظله في الأرض استوفى حجم جسده، فقام مناديا في الناس وزاد هذه المرة نغمة جديدة تعكس حال الطمأنينة في النفس .

أنفاسكان علي أن أنحنى قليلا,رغم قصر قامتي,لألج بهو المسجد العتيق...
استقبلتني كعادتها,منذ سنين خلت,نضارة..صلابة...ورائحة فريدة...
شجرة التين هذه,خلسة ونحن نمحو ألواحنا تحت ظلها,كنا نقطف ما تدلى منها ـ غالبا ما تكون ثمارا لم تنضج بعد ـ لتتشقق شفاهنا بعد يوم واحد كدليل على تلبسنا.فكان العقاب ...لا خروج لمحو الألواح.
كل قطرة ماء سقطت,في بهو المسجد العتيق,كانت تسقي شجرة التين تلك.ماء ألواح...ماء مطر...ماء وضوء...ماء...
شجرة التين هاته لم يمل الفقيه من تشبيه رؤوس الشياطين بفروعها الضخمة...وحدثنا أكثر من مرة,خصوصا كلما حل مريد جديد,عن سر تلك الأقمشة التي تعلو أغصانها...حدث أن تسلقها طفل في سنكم ...علق بها منذ ذلك الزمن... تحول إلى طائر ابيض يحرس الشجرة ليلا...
اقتربت من صبي يصارع لإخفاء حرف القاف من على لوحته ـ كانت الكلمة اقرأ ـ
استهوتنى رائحة الصلصال ولزوجته...ربت على رأسه الصغير...سألته ـ فقط لكي أعرف هل لا يزال هناك وجود لخرافة الفقيه ـ لمن هذه البقايا من الأقمشة؟
رفع عينين يشع منهما الذكاء وأجاب:

أنفاسانت شامخة، فارعة الطول، عريضة الهيئة، جميلة تتمايل مع كل نسمة ريح راقصة وحالمة تقبل أشعة الشمس كل صباح. تعطي الحنان وتحضن كل محروم كأم تحضن طفلها فظلها يسع كل شيء إنسان ونبات و حيوان، لونها البهي لون الفردوس يكسوها في فصل الربيع ولون الشمس يكسوها في فصل الخريف، كريمة سخية، تطعم الكل بحنان وحنو مختلف.
تتوسط الحديقة كعروس في ليلة زفافها تتحدى الزمان والمكان، و تقول أبدا لن أموت ولن أذبل، أنا دوما أبدية عشت وعايشت و تألمت وفرحت، لن يهزني البرد ولا الحر أنا صامدة صمود الجبال و شموخها باقية أبدية سرمدية.
كانت تستقبل الضيوف ببهاء ورونق كشجرة نابتة جذعها في الأرض وغصنها في السماء تبهج الطفل والشاب والشيخ فالطفل يلهو والشاب يحلم والشيخ يرتاح. آه ما أجملك يا شجرة الجوز ما أحنك و ما أكرمك ، ما أعظمك و ما أطولك ، علقت فيك آمالي و تخيلت فيك أحلامي كم تسلقت أغصانك و علوت ثم علوت حتى قمتكن و تأملت الوجود من فوقك فسبحت في دنياك . تشابك و تعانق التفاف و اختراق التحام وافتراق، آه منك ومن دنياك.
كنت شاهدة على زارعك، شاهدة على ميلادك وعن فنائك، حملت أسراره و أسراري من بعده، لم تشتكي  أبدا من شيء تحضنين الألم  و الحب، الحزن والسرور، كنت أجد فيك ملاذي و أنيسي و ملهمتي بل أني يوما سمعت صوتا يناديني و أنا بين أغصانك لعلك أنت التي ناديتني فرحة بي باحتضاني فقد كان الوقت غروبا و خطرت لي فكرة تسلقك ربما لأهرب من بقايا يوم عنيف   و أتنفس بين أغصانك نسمة خفيفة توارت هي الأخرى من لهيب يوم صيف حار.

(وجــــــــــــــــع )
 عيناك .. ليلة حب خرافية ..
شفتاك التقاء قرص الشمس بخد الأرض
لحظة غروب..
امتدت يده تقطف عنقود الفرح المحظور..
حملّقت , صرخت بصمت مكبوت :
" ما أشد وجع نزف العين بوخز
إبرة جراح بلا إنسانية " ..

(وجبــــة سريعــــــة )
اضاف الملح , رشة بهار

أنفاسوهو في كوخه البئيس ، اعتاد أن يستلقي على ظهره ... يتأمل السقف ...هذه الأخشاب المهترئة ... يناوشها ، يشكو إليها مرارة الفقر والحاجة ، لكنه ، بعد حين استدرك ليقول : كفى من الشكوى ...أنا والكوخ ... ورفع يده عاليا ...كهذين الأصبعين ، أنا والكوخ جسد واحد ، روحان في جسد واحد ، أو جسدان فيهما روح واحدة ، أو ... لم يدر ما يقول . كان يمقت الفلسفة عن آخرها ، يحتقر هؤلاء وأولئك من الذين يجرون الأسماء والحروف والأفعال ... يمططونها ليستخرجوا منها هرطقة أو سفسطة ... أو هراء كما تعود أن يسميه ... لكنه الآن في حاجة إلى الفلسفة ، على الأقل ليحلل ويفلسف ... لم يعد معه غير المجردات ... بعد أن غادرته الماديات ، طرد من عمله ، وغادرته زوجته ، وتخلى عنه أصدقاؤه ، لم تستثن منهم الخيانة أحدا ... قرر أن يكمل طقوسه ؛ يستلقي على وجه أمه الأرض ، لا يفصله عنها فاصل ... يستمد منها الدفء ، وإن كان سطح الزليج باردا ، تبا للخيال ، ما أوسعه وما أوسع ما يدركه ... فضاء الخيال مجرة قائمة بذاتها ، بكواكبها ونجومها ... بشموسها وأقمارها ... يستبد الخيال بالفضاء بعيدا عنه ... الفضاء الذي هناك لا الذي هنا ، استعطفه ... لا جدوى ، أصر بكل ما يملك من رغبة وإرادة وتصميم ، لكن الخيال ، بقسوته الغريبة ، بفضاضته وشراسته ... أبى أن يذعن ، بقدر ما يزداد هذا إلحاحا يزداد الآخر رفضا وعنادا ... لم يكن أمامه من خيار ... العالم في نظره عالمان : عالم المثاليات ، المجردات ... باختصار عالم الخيال باتساعه ... بموجوداته التي لا تنتهي ... بسخائه الذي لا يعرف حدودا ... في عالم الخيال ، هو سيد الزمان والمكان ، فضاء الخيال ، مساحته ، طوله ، عرضه ... كلها طوع أمره .

أنفاسوقف صلاح كعادته إلى جانب الطريق وسط السوق ، عن يساره صالون حلاقة ، و عن يمينه بائع خضار ، وأمامه حمار يهش بذيله الذباب عن مؤخرته بهدوء قد ربط بحائط قديم متسخ يعج بالقاذورات . وضع صلاح على الأرض اسطوانة غاز قديمة متهرئة قد تنفجر في أي وقت .. وأخذ يمارس مهنته الجديدة بتجهيز القهوة ، ثم يلّف ويدور ليبيعها من الصباح إلى المساء حتى تنتفخ ساقاه لكثرة المشي ، وهو يصنع قهوة لذيذة بنكهة الهيل يجعلها تغلي على نار هادئة عدّة مرات ، إلى درجة أنها أعجبت الحاج سمير تاجر الجملة ، هو لم يحج ، ولكن الناس منحوه لقب حاج ربما لكثرة أمواله ، ومعروف عنه أنه لا يعجبه العجب أو الصيام في رجب .. وكثيرة هي المعارك الصغيرة التي تنشب بينهما من حين إلى آخر ، لأن الحاج سمير يرفض أحيانا أن يدفع إلى صلاح ثمن القهوة التي يشربها ، فيستشيط صلاح مغتاظا ، ثم ينهال بلسانه المبري على الحاج سمير بقائمة من الشتائم ، وأحيانا يسترسل فيعيرّه بفمه الواسع واصفا إياه بأنه مثل فوهة الزير ، فيهمّ الحاج سمير للحاق به ممسكا عصاه ، لكنه لا يستطيع بسبب مسمار اللحم الذي استوطن باطن قدمه ، لقد زهق صلاح من الحاج سمير حتى صار يتمنى أن يراه يطق ويموت أمام عينيه .. الحاج سمير قلبه يتمزق غضبا من صلاح ، لأنه اقتحم المخزن ذات يوم ليري الناس البضاعة التي يخبؤها أكواما مكدسة في مخزنه كي يرفع ثمنها أضعافا مضاعفة .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة