أنفاسألقت نظرا كليلا إلى الخارج فصدتها سماء ثقيلة كالرصاص وصمّ أذنيها هدير العربات وبدت ساعة بيغ بان  منتصبة بقدّها الفارع كعملاق أثري مشغول بمضغ الزمن.
شعرت بتكاسل في دقات قلبها وبمغص مزعج يكتسح حشاها ... ماهذه السماء التي عادتها الشمس منذ زمن بعيد ؟ تراجعت إلى الخلف وأغلقت النافذة تاركة الستارة الزرقاء الثقيلة تحجب عنها السماء الضيقة الملبدّة وجالت بعينيها المغرورقتين في بهو الدار...بدا وجه أمها في الصورة المعلقة مشرقا بوشمه الأخضر الجميل وحنانه الغامر وبدا أبوها بشاربه الكث وجبّته الفاخرة ومسبحته القانتة يردد في أذنيها المعوّذتين ويمسح على رأسها بيديه الحانيتين كلما أصابها فزع.
دلفت إلى المطبخ ..رائحته ماسخة وعلبه باردة وقدره المعدني يغلي في صمت ، لا ثوم يتأرجح في السقف ولا فلفل أحمر يزين ناصية البيت ولا بهارات تغزو الأنف فتزو بع الكيان ، لا مهراس يغني في فرح ولا مطحنة البن تزغرد فرحة بقدوم رمضان...لا خبز يضوع في فتنة يغري بملمسه الساخن وحبات الينسون والشمر التي تتلا مع على إهابه الفاخر..
كم الساعة ياترى ؟ ومن سيشاركها هذا الإفطار الحزين ؟ جرت إلى الحاسوب ونقرت بضع نقرات فظهرت لها على الشاشة مواقيت الإفطار في كل أصقاع الدنيا، ظلت تسحب الفارة حتى استقرت على تونس.... تنهدت بعمق وأغمضت عينيها في حنين مدمّر...فجأة رأت نفسها بضفيرة طويلة وفستان زهري راقص ترقب مع المحتشدين ظهور الهلال.

أنفاسومن الحب ما قتل ..!
عقلي يزنُ جبلا،
هزه طيف ُ صبية، ألقت القلب في السفح .
لفـّـــــــتْ ذراعي جذع شجرة في حلكة الليل، وانتظرت إطلالة القمر..
والتفتْ حولي الأضواء، البنادق، والعصي..
دارت المطابع:
" انتشال جثة مراهقة من النهر
القبض على شاب متنكر في زي امرأة..
محاكمة..
 اعتراف..
إعدام إرهابي خطط لتفجير منشأة آهلة بالسكان".

أنفاسأول الصباح,
هدوء يسود القرية التي تتثاءب لتطرد النوم عن عيونها. خرجت من البيت لأمارس عادة دأبت على احترافها منذ زمن ليس بالبعيد. منذ عقدت العزم على أن أتمرد على مجهوليتي في هذا السجن الذي يعصرني بين أحداقه. هكذا كنت أسير لمسافات طويلة وأرتاد –أحيانا- خارج القرية الموغل في الشحوب.
تباشير يوم قائظ بدأت تلوح بعد أن أذنت الشمس عن قرب اعتلائها عرش المكان. بعد ساعات أصبحت القرية فرنا حقيقيا, وفي الأفق غمامة تتقدم على استحياء, تخب خطواتها على مهل لكن بثبات.
أسير, صفحة السماء أصبحت أقرب إلى الرمادي. شيء من رمل يخالط هذا الحر يهاجمني. بعد قليل أصبح وقع الرمل أشد وصرت أستقبل كميات منه بسخاء. أبصر الناس يسدون أفواههم وأنوفهم بإحكام ويهربون من وجه الرمل. أنا الوحيد الذي كنت أبتلع الرمل والصهد مع شيء من الذباب, أبصرهم ولا يبصرونني, لا أحد التفت إلي وأنا لا أسد أنفي وفمي.
رفعت من إيقاع سيري. الآن أنا أجري كأنني هارب من شيء ما. فمي مشرع مثل بوابة قديمة, ألهث ككلب مطارد؛ تنتشر الآن كلاب ضالة في كل مكان. أجري, أجري, أذني تتلقف صوت لهاثي الذي يكبر ليغطي المجال من حولي. عرقي يغرقني والرمل الدافق يتنزل مثلما سياط هذا الحر. الشمس تطلق رصاصها من وراء الغيم القابع في الرماد.

أنفاس" ارحل، ارحل ما دمت قد رضيت بهجري
وهذي جبال الريف من حولي؛ فلمن تتركني ".
  ( أغنية ريفية ) .

جاء الليل سريعا، وجاء معه هدير البحر من بعيد .هدأ الخلق وأوت الكائنات إلى أوكارها. أنا مضطجع في الحجرة المستطيلة ، في بيتنا الطيني ، متكوم في غطاء صوفي خشن . أراقب ظلالا واهنة على الجدران ؛ تمتد وتقصر . أحذر أن أغفو فأحرم فاكهة هذا الليل. أذناي على الحائط أتلهف أن أسمع وقع خطواتها من خلف البيت . فقط يأتيني صوت أمي تستنشق وتستنثر . تدفع الباب وتدخل وهي ترتجف . تهرول نحو المجمرة في أقصى الحجرة . تفتح فخذيها للاستدفاء ولسانها لا يكف عن التهليل والاستغفار . الريح ما زالت تموء، وأنين يمرق ، من حين لآخر، من شقوق الباب والنافذتين الضيقتين .
  - لماذا لم تأت ؟ ما الذي أخرها ؟

أنفاسكنت كلما اقتربت من نقر أصابعي فوق الباب يزيد ارتباكي وقلقي. حرصت أن يكون الدق خفيفا وأقل من لسع البرد في ظهري.
قلت: سأحكي كثيرا..
لملمت طرفي السويتر وأقفلت السوستة إلى أعلي قمة في رقبتي..
 كدت أفر إليها لحظات كثيرة بعد هربي من كل سنوات عمري الماضي.
 أعود إليك حد الأحلام والدهشة والتفاصيل الذكية الصامتة أو هروب من حالة الجمر والتوهج في سراديب عتيقة . أترصد فحيح اللحظات وأخبو مع تراكم وعيي بالسعادة المطلقة، وأجيج الانتظار الذي يأخذ شكل الانتحار أحيانا.انفتح الباب وزام.
مساء الخير.
جاهدة كانت تحاول إخراجي من إعياء الذاكرة، أهرب من تقمصي لحالة الرجل البارد .ومن قبض الانتظار في صحراء التذكر
ملامحي تغيرت عن أيام زمان ،شعر ذقني الكثيف نابتا دون نظام وهي تضم أطراف القميص الحرير، تعصر التشابه الممكن.أنتقل للخواء وأخفض نطري للأرض
الأستاذ محمد موجود ؟

أنفاساسترقت النظر في عيونهم خافقة دواخلي بتوجس ما يمكن أن يتهامسوا به في عز التظاهر بمشاركتي احتفال ما يسمونه ليلة الدخلة ، وأخيرا ضاعت منه سلطانيته ، انهزم المحارب على جبهة الرفض المطلق لطقوس اللعبة ، شعرت بالتقزز من لحظة انفصال ذاتي عن ذاتي ، سألني أخي ''أحمد'' عن التحول المفاجئ ، لم أكن أدري أنه سينقل عنّي بالحرف بعضاً من ردّي عليه ، فقد سرى بين صحابي وأهلي أنني ما أقدمت على ما أنا فيه سوى لرغبة في توقف النظر إلي كعانس قبل الأوان ، لكن ''أحمد'' كان أميناً فيما تبقّى من حديث حول خوفي من عجز محتمل عن أي فعل ، ابتسم مستغرباً حين أسررت له بنفي مداعبتي لها بأي شكل من الأشكال طوال فترة الخطوبة ،  ثم علّق عليّ خائفاً من سكوتي عما قد لا تحمد عقباه ، وهو يستعرض أمثلة الذين تأخر بهم الزواج، فاكتشفوا أنهم في النهاية عاجزون عن قطرة دم في مثل هذه الليلة ، لم أشأ التعبير أمامه عن انزعاجي من فشل محتمل ، رغم أنه يدري أكثر من غيره ما كان بيننا من صعلكة في سوق النساء ، تبا لها من طقوس مقيتة.
نما إلى سمعي أكثر من مرة ، حديث متقطع عن صلة قديمة بهذه المرأة التي قاسمتني الفراش لأزيد من عشرين عاما ، لعل أغربه صوغ حكاية بالغت في تجميل صورة الحب الذي كان بيننا ، استدل بعضهم برفضي المتواصل الزواج من بنات خالي وخالتي وعمتي وجارات كانت بينهن وبين أمي صلات جاوزت قرابة الدم ، أذكر ارتباط البداية بأوائل السبعينات، حين تحدثت الحكومة عن سنة بيضاء ، وهي تحكم بالإعدام على عام كامل من الدراسة ، ومن خلاله على عمر التربية والتعليم في البلاد إلى الآن ، كرهت اللون الأبيض ، بعدما ظل عندي رمزا للنقاء والطهر و أشياء أخرى تشكلت بالوهم في حلم أحمر،حين بادرتها بالسؤال ، كرهتُ من القطة الجميلة في القسم كما كنا نسميها، أن تكون خارج اللعبة ، برفضها الانخراط في الإضراب العام ، حاولت إقناعي بأن الإضراب هذه السنة سياسي ، وليكن ، ما لك أنت ؟

أنفاسشَدَّ بعنفٍ أزرار معطفهِ المتهالكِ من كثرة التَّرْقيعِ واتَّجَهَ صوب الميناء . كانت كل أحشائه تعتصِرُ ألمًا من شدة الجوع. 
ـ تَبًّا لهذا الإحساس البغيض, يبدو أنَّه يتوجب علي إعادَة تفتيش أكياس القمامةِ تلك من جديد وهذا يعني أنني لن أنام الليلة أيضا.
كان قد أمضى, دُونَ جَدوى, يومه الثاني في سَبيلِ كسرةِ خبزٍ ما بين استِجْداء المارة و تجميع القمامة.
ـ ماذا لو هاجرت ؟ جالت بخاطره, فجأة, الرغبة في ركوب هذه المغامرة فلمعت عيناه من شدة الفرح ، إنْ هي إلاَّ بضع خطوات فأتجاوزُ الحاجزَ الأمنِيَّ وحينها أغْدُو وسط الميناء فأَنْدَسُّ وسط أي سفينة أجنبية   وأنتظر... لكن ماذا لو لمْ تقلعِ السفينة؟ ماذا لو أقلعت فحَطّت بي الرحال وسط مكانٍ أشَد فقرًا وبؤسًا.
شَدَّ بعنفٍ معطفَهُ وهو يقاوم ابتسامةً غامضةً كادت أن تُطْلقَها شَفَتاه بعدَ أن أدرك عقلُهُ أنْ لا حياة أسوء مما يعانيه الآن فأكمل طريقه صوب الميناء.
  كانت الفكرَةُ قد أدخلتِ بعض الدِّفء إلى نفسِهِ فشَرَعَ يبحثُ عن مكانٍ مقْفِرٍ لدخولِ الميناءِ, لَكِن ما أنْ هَمَّ بتسَلُّقِ الحاجزِ حتَى تناهَى لِسَمعِهِ صوتٌ جافٌ قَادم من قرِيب.
ـ ماذا تصْنَعُ هناك يا ملعُون ؟

أنفاسألفى زملاءه لدى بهو المصلحة يتناوبون على التوقيع في ورقة الحضور اليومي . تولى إلى ركن ليشرب فيه سيجارته الصباحية الأولى حتى ينفض زحام الموقعين. نظر إليه أحدهم وسأله عما به . أجاب: "لاشيء". توجه تلقاء مكتبه دون أن يتفطن للنظرات التي كانت تحدجه . وما ان أخذ مقعده حتى أشار إليه الجالس قبالته : " وجهك ، اليوم ، غير طبيعي ؛ فماذا حدث ؟ ".  بحركة آلية مسح وجهه بكفه، ثم بسطها أمامه باحثا فيه عن أثر ما. أحس العيون تحيط به من كل الجوانب . " لون وجهك أصفر..صفرة غريبة .. هو أصفر وأحمر معا". " قد تكون حساسية ناتجة عن طعام أكلته " . انطلقت الألسنة من عقالها ولا من يوقفها. استعراض للأمراض والحالات والأعراض والتجارب . بصوت خافت ممطوط  قال : " ولكني لا أحس بأي ألم " . لم يسمع كلامه أحد . كان القوم قد غفلوا عن حالته وجرفهم الحديث إلى ضفاف بعيدة . فجأة ، استيقظ شيء ما بداخله ؛ فاعتكر صفوه . راح ينقل عينيه بين الوجوه كأنما يرغب في قول شيء ما. سأل : "كم الساعة الآن ؟ ". لم ينتظر الجواب ، وقام وانصرف .
     في الشارع بدا في خطوه نحو بيته مجهدا، مطوقا بالصمت والغبار. ذعر غريزي حاصره . تحسس ذقنه ووجنتيه بأصابعه . "هل بدأ وجهي يتغضن ؟ من أي جهة جاءني العطب ؟ قالوا : حمرة، صفرة ، حمرة مع صفرة ؛ أعراض أي مرض هذه ؟ هذا زمن الأعطاب والأدواء . وكل يوم تسمع فيه عن مرض جديد ".