أنفاسأكمل سذجان تعليمه الجامعي بكلية الطب أخيرا، و توج طبيبا بعد رفاق فوجه بسنين. اختصر الإجابة على ملاحظات الأساتذة المكلفين بمناقشته في أطروحته في إذعان و ارتباك،  و أدى القسم الشهير. أقام أهله الذين لم يفهموا شيئا مما دار في المناقشة الاحتفال برحاب الكلية على شرف أساتذته و الحاضرين، تغمرهم نشوة حيازة ابنهم اللقب الكبير:"الطبيب" ! الذي يعرفون أنه ظل لحد زمن جد قريب حكرا على أبناء أسر بعينها، وأبناء العشيرة و القبيلة و الحي و المدينة إما معلمون أو ممرضون أو عسكر أو مستخدمون في أجود الحالات، عاطلون منحرفون و عالات على أسرهم في فادحها. و استكملوا الاحتفالات بمجرد العودة إلى مدينتهم ليعلم الأحباب و الحساد و الأعداء بأن العائلة اليوم هي عائلة "طبيب" !. ثم هدأت الأحوال و إن كانت الأم فاضت منها و عليها علامات النشوة حد الطيش، و كذلك الأب و إن بدرجة أخف، فلا حديث له بعد اليوم إلا عن الطب و جلاله و الطبيب و هيبته...، بل و مكانته و عظمته. أما سذجان، و بعد أن استعاد قسطا من توازنه بعد طوفان فرحة الانتصار أخيرا، فهو عمر بكليته، لم ير أمامه غير أمر واقع واحد لا ثاني له: انتظار توظيفه. لم تراوده أبدا فكرة متابعة مشوار التخصص بأرض الوطن ما دام ذلك من نصيب المتفوقين طيلة سنوات التكوين، و هو على النقيض تماما من ذلك.

أنفاسأبى ما عاد.
تلفظني الحافلة,أو تلفظ ما تبقى منى على الأصح.
خائر القوى..رئة ملأها الغبار ودخان السجائر الرخيصة تلفظني بعراء موحش, لكنه اقل عذابا من تلك الحافلة اللعينة ...ضجيج يعلو كلما اهتزت,دخان يكاد يفقأ المقل يتسلل من الشقوق كلما اختنق صوت المحرك,كلام يزداد بذاءة كلما احتدت المشادة .تلفظني قطعة من العرق والغبار...اركن إلى جدع شجرة يتمها العطش,وخدش قليلو الحياء لحاءها بعبارات تجرؤوا,هم العابرون في خلوة مع أنفسهم,أن يخلدوا وهمهم على لحائها الجاف.
جلست أملأ صدري بنهم,ارقب بنظرات متعبة وجوه من مر بى ,على قلتهم, تلمست هاتفي المحمول ولجت بوابة الرسائل القصيرة"  عزاؤنا واحد , الدفن غدا"  غزاني احساس مرعب بالفجيعة.
أبي ماعاد.
رفعت بصري,غيوم تتمرغ كدببة بيضاء,تتمزق وتندثر كالضباب...
كان العالم يمتد أمامي عاريا وموحشا صامتا حد البلاهة...

أنفاس"كثيرون هم الرجال ولكنهم ليسوا سوى ضجيج"
                                         كولالة نوري
 
المقهى: مقاعد إيطالية وأعمدة من رخام..
و من خلف الواجهة الزجاجية الصقيلة, لاح له عاج الذراعين البض لفتاة عشرينية مستجيرة بركن هادئ.
"هذه  مقهاي لهذا المساء"
غمغم في مكر ظاهر, وهو يترجل عن السيارة ويوقع أولى الخطى باتجاه دفء الداخل.
 المقهى: أناقة باذخة, وجو مشبع بروائح متداخلة , هي مزيج من رائحة الخزامى ودخان السجائر الشقراء ولهاث الغابات القصية .ألقى نظرة عجلى باتجاه فتاة الركن الهادئ , وتحسس حافة طاولة مقابلة لصباحة وجهها :
"ها قد انطلق السهم من عقاله , ومن أعطاف الذات الموتورة تند صيحات الجد الأول لصيادي البراري."
علبة السجائر الأمريكية الزعراء, الولاعة المذهبة, الهاتف المحمول آخر طراز, والمفتاح الأوحد للسيارة الراسية بالخارج (الأكسسوارات المساعدة التي حلت محل القوس والنشاب)..وضع الكل على الطاولة, ثم غطى جنبات المقهى بنظرة جوالة:

أنفاسكأنني وشم منسي على ذراع مشلولة. أتراءى في مراياي المضمخة بالشقوق والتشوهات جثة عفنة عافتها الديدان. ما الذي يمكن أن يشدني إلى هذا الوجود الأخرق غير تعب آنسته أيامي الموغلة في تفاصيل الهباء واللاجدوى. أجرجر الوقت من قفاه أو يجرجرني الوقت من قفاي؛ الأمر سيان, جار أو مجرور ما الفرق بينهما؟
في لحظة ما وفي غفلة من الغيم الضارب في أفق طفولتي الشاحبة, حلمت بأنني ربما أصير شيئا ذا شأن يذكر. هكذا تنبأ لي صديق لأبي التقيناه مرة وأنا مجرور إلى حلاق ينصب صالونه خيمة في أحد الأسواق الشعبية.
اعتاد أبي أن يأخذنا –أنا وإخوتي- إليه فنرجع إلى البيت نحمل حبات كبيرة من البطيخ مكان رؤوسنا. مرات كانت بقع صغيرة حمراء تؤثث المنظر كأنما حلقت رؤوسنا بقطع من الزجاج.
انحنى صديق أبي علي فكأنما نزل إلي من السماء لطوله الفارع أو لقصري المفرط, لا أدري, قبلني على رأسي الممتلئ شعرا كثا تعشش فيه كائنات حية كانت أمي تستلذ بضبطها تسرح في ثناياه و"طرطقتها" بين أظافرها وأنا أتلوى بين يديها. سألني عن اسمي فأجبته. سألني عن مستواي الدراسي, أجبته. قال لي: "هل تدرس اللغة الفرنسية؟" أجبته: "نعم". طلب مني أن أقول له كلمة بالفرنسية. فكرت قليلا وقلت:"mina". ضحك بقوة وهو يربت على رأسي. قام واقفا فابتعد عني إلى أعلى والتفت إلى أبي وقال له وهو ما يزال يهتز من الضحك: "اعتن به كثيرا, سيكون له شأن كبير".

أنفاسالجسد الأسمر يرتعش والذراع ، والكف المرفوع أيضا يرتعش ، بشدة ، والسبابة التي ضغطت كبسة الجرس وأطالت ضغطها كانت تنتفض كالعصفور المبلول بماء بارد ، سمع رنات الجرس الشبيهة بزقزقة البلابل الطليقة .. وقف لحظة ينتظر أن تفتح له الباب أخته الأرملة ، هي لحظة تختلف عن كل اللحظات التي مر بها في حياته ، وشعر كأنها تمتد به إلى ملايين السنين ، والأرض تميد تحت حذاءه المغطى بالغبار، لقد نسي أن يمسحه .. ها هو ذا يقف بوجه عابس ، وربما للمرة الأولى في حياته يعبس وجهه المستطيل ، وينخر الحزن عظامه ويحز في أعماق قلبه .. فمعروف عنه أنه كثير الضحك والمزاح ، أو هو كتل ملتهبة وعواصف قوية من الضحك تهب في حين وتضعف في حين آخر ، لكنها لا تنتهي .. وعادة ما يختم ضحكته بصرير أو يتبعها بصفير حاد بعد شهقة عميقة ، فيبدو كأنه يكبحها فجأة بفرامل قوية مثبتة في حنجرته توقف حبالها وتمسك بلسانه .. حتى عندما يضحك ضحكات وانية فهو يهيئ نفسه ومن حوله إلى موجات قادمة عاتية من الضحك الهادر ، كالهدوء الذي يسبق العاصفة ، ومن عادته أن يضحك بذمة وضمير ليمنح النفس حقها في الحياة ، هكذا هو إبراهيم ومن المحال لأي أحد ممن يعرفونه تخيله إلا ضاحكا أو مبتسما في الأقل ..

أنفاسالقدر يدق على الباب*
إني اسمع خطوه الرتيب على الممر العتيق في ذاكرتي، أتخيله بوجهه الرمادي ، و معطفه الرث، يدق على الباب من دون يدين، و كلما دق على بابي جاء القوم يستبشرون، يصطف الأطفال في انتظار هداياه من مملكة سانتا كلوز، أما أنا فأعرف ماذا يحمل…
 للقدر وجه يمتد في العدم، و لي وجه يمتد في السؤال
 القدر دراجة نارية من الحرب العالمية الثانية أو فيلم صامت..
للقدر صوت يقترب من الصقيع، و صوتي يرنو إلى المدفأة، هذا هو التناقض بيننا، و حين أسأل صديقي الشيوعي يقول القدر دكتاتورية البروليتاريا في ساحة الماكدونالد أو القدر صراع طبقي في كتابات هنتنغتون.
القدر يدق على الباب
لعينيه شكل المتاهة و لغته تفتقر إلى الاستعارة

أنفاسخميساتك معلقة بالصدر
بخيط رفيع من الصوف
وخمسة الوان تطفو على السطح
في اناء شفاف
تتباري
وانت من البيت الى مقهى الشمس، ومن الشمس الى البيت، وان شئت فلتتسكع في وجه مولاتك الطويل، عيون كثيرة ستنظر اليك، ستحصي خطواتك، تعرف من انت ، من ايت اتيت، وفيما تفكر، متى تنام ومتى تصحو، لونك المفضل، فاكهتك، المشتهاة، كم عمرك ،عدد اسنانك المتبقية، قميصك البني، حداؤك الرمادي... و... أشياؤك الأخرى....
مولاتك نائمة بين جبلين، تغط في سباتها، ولا تستفيق الا اذا نادى المنادي للسهر، ساعتها تهز بجذعها، فتنط فسيفساء وجهها طربا ويرتعش نصبها.
وحده وجهها الطويل لا ينام، نصبه ممدود الى السماء دون حياء، أخته التوأم على الجانب الأيمن غير بعيد، وانت في طريقك الى سرتها الملونة، تفتح حضنها للريح، لتملأ صدرك بالريح ان شئت ولتذهب اليها، ستجد حولها وجوها ممدة، تطحن كلام الأمس، وتنتظر رمش العين، دربها سبعا تر عجبا...

أنفاسهاتفتِني
وكأني أهاتفُ
سِرِّي وغَيبي
وحدثتِني فتلعثمَ قلبي ...!
-----------
حين فتحتُ دفتري صباحاً لأكمل هذه الكلمات وانا جالس في سريري
فاجأني بصوته العذب صائحاً أمام الباب :
قُمْ , إنهضْ , أما زلتَ مسكوناً بأوهامٍ لا تغني ولا تسمن ؟
قلتُ بودٍّ : ومتى كان الحديث عن الحب أوهاماً أيها المتحجر ؟
قال : آه , انت تكتب عن الحب إذن , ولكني قرأتُ لك بالأمس أشياءاً في هذا , أتمنى أن أقرأ لك شيئاً عن الصداقة في المرة القادمة فأنتم الشرقيين ما زلتم تؤمنون بقيمتها .
قرأت له :

مفضلات الشهر من القصص القصيرة