أنفاستلفزيون ملوّن:

اندهش بعرضه ...
 أجهزة (تلفزيون) ، بأسعار مخفضة ..
 عرض عليه شرب أي شيء .. اعتذر بضيق الوقت ،  واستعجل صرف الشيك ..
طلب منه بطاقة الهوية: 
- سأنتظر حتى تصرفه بنفسك ، بقيت ساعة ، وينتهي الدوام .
وضع النقود في جيبه دون عدها ...
- سنذهب إلى بيت شريكي ،إنه بالقرب ...
توقفا قبالة بيت ، أشار بإصبعه:
- توجد زوجته فقط .. انتظرني هنا حتى نرجع .

أنفاسفجأة ، و دون إشعار يذكر ، نبتت أوثان في تراب الجسد الواحد كالطحالب تمتد . إنها  الآن في تناسل متزايد .
وصلني .. أن أوثاننا العاشبة  ، هنا ، زوجت كل إناثها الحوامل إلى أوثانهم اللاحمة ، هناك ، و سيقام حفل الزفاف في أجمل غابة في العالم .و التاريخ لم تحدده الزلازل .
هي أوثان شريفة ، رغم عيبها البارز كالشمس في بطنها ، الذي مافتئ يتسع ، و هو اليوم يمتد إلى ما لا نهاية ..ليشمل حتى ألعاب الأطفال و كراسي المعوقين . و أفاعي " الحلايقية" .
أوثان على عروش من أجساد شجرية اللون و الرائحة .
يلتهمون و لا يشبعون .
يرقصون و لا يشبعون .
هي رقصة الأوثان ..
كن  بحرا حالما ، بسواعد رذاذ الموج ، يصفع وجه صخور الوثن اللعين .
كن شغبا طفوليا في بوابات جسور المعنى ينقش أسماء صهيل الخيل الغاضبة .

أنفاس(هل كان غاندي ابن جنية, وبيكاسو مقدم ضريح في ضيافة
الجبل؟وأنا, هل ما زلت أنا أم أني مجرد ظل لذاك الشاب
فارع الطول الذي ملكته امرأة وقدمت له وجها آخر للحياةوللتاريخ قبل أن تغيبها الضرورة؟
وإذ أحكي الآن, أحكي التاريخ أو الخرافة, العقل أوالجنون؟ وهل هناك فرق؟)

كان هناك إرث تتناهشه الأطماع, وفتاة عبيطة أشيرَ بها عليّ:
- هكذا نجمع المال إلى المال والأرض إلى الأرض
- وماذا عن جمع القلب بالقلب؟
وحل المساء
فاتكأت على جذع شجرة الأوكاليبتوس العجوز,أحشو بحشيش "كتامي" رفيع سيجارتي الثالثة, وأسقي فسحة الذهن بهوامات شائكة مثل إبر تضحك في وجه السماء.
كان للبدر وجه صبية..

أنفاسمن عاداتي أنني أفضّل السير حاسر الرأس، كاشفاً عن صدري حين تعصف الرياح أو يهطل المطر أو ينهمر الثلج متحدياً صفعة الريح أو لسع الثلج والمطر.‏
ولعلكم خبرتم رياح الشمال التي تحمل أجنحتها الغيوم. فهي تهب من ناحية البحيرة ناشرة نوراً بلون الرماد أميل إلى الزرقة، وكانت ندف الثلج تلوّن الطبيعة بالبياض متراقصة في الجو كأجنحة حمام البحر الأبيض المتوسط حين يواجه العاصفة وصراخها يملأ السماء.‏
ويكمل معزوفة البحر الهادر. والشجرة المستحيية ترسل ضفائرها كشعر لم يرجّل، يمتزج في أوراقها الخضرة واللون الذهبي كأنها جدائل شعر عذراء تتلاعب بها الريح وتبعث فيها حفيفاً شجياً. وكنت شغوفاً بالدنو منها والوقوف تحت أغصانها المسترسلة وسماع عزفها للريح.‏
يتراكم الثلج ويذوب على أذني وأنفي فأتخيل أنه هدية البحيرة لزائريها ، تقدمه من زبد أمواجها المتطايرة بصوت فراخ نوارس البحر التي لم تبرح بعد البيضة، ولم تكتس الزغب فوق العنق.‏
لا أدري لماذا يسمون هذه الشجرة المستحيية، لعلها سميت كذلك لأنها تخجل أن تعترض على صفعات الرياح فتتمايل كريشة طائر عجيب على ضفاف البحيرة راضية بدورها الراقص، وأنا أقف تحتها أتأمل بدء هيجان العاصفة، وكأن الطبيعة والبحيرة والسماء والشجر تبيّت لي أمراً ما، وتستهدفني.‏

أنفاسسئم أحد الأنهار مجراه في الحقول والقرى، ورغب في مغادرته والوصول إلى مدينة ليست بالبعيدة والتسكع في شوارع سمع الكثير عن مبانيها الشاهقة المتفوقة على الجبال، ولكنه كان كسولاً، فبقيت رغبته مجرد حلم في الليل وأمنية في النهار، وتنبّه يوماً لأطفال يلعبون على ضفته ضاحكين مطلقين الصيحات المرحة، وراقبهم بفضول، وتاق إلى مشاركتهم في اللعب، ووجد نفسه يتخلى عن كسله ويهجر مجراه مندفعاً نحو الأطفال محاولاً اللعب معهم، فبوغت بالأطفال يصرخون فزعين، ولاذ بعضهم بالهرب مبتعداً عنه بأقصى سرعة، وطفا بعضهم الآخر على سطحه جثثاً هامدة خنقها ماؤه ولم تعد قادرة على اللعب بمرح، فاستغرب النهر ما حدث، وفقد رغبته في اللعب، وانسحب من الضفة عائداً إلى مجراه مقسماً ألا يغادره.‏
وهرع رجال إلى النهر، وانتشلوا من مياهه الأطفال الغرقى مدّعين أنه قاتل، فاكتأب النهر، وأقسم أنه بريء، ولكن الرجال لم يسمعوا سوى خرير يقوى ويضعف ويعلو وينخفض.‏
أما الأطفال الناجون، فقد عادوا إلى قريتهم القريبة من شاطئ البحر فرحين بهربهم من هلاك محتوم، وكانوا أطفالاً صفر الوجوه ذوي أجسام هزيلة مغطاة بثياب مهترئة، لا يعرفون الإحساس بالشبع، ولا يذهبون إلى المدرسة كل صباح، وقد سمعوا صوتاً مجهول المصدر يناديهم ويحضهم على الانتحار، ولم يسمع الكبار غير صوت مذيع يصف بحماسة وقائع مباراة في كرة القدم.‏

أنفاسالسرير موضب بعناية فائقة.
الغرفة يسكنها بياض كالصبح.حتى الإشارات الضوئية المنبعثة من تلك الآلة الهامدة انسجمت مع بياض الغرفة رقم...
أنبوب مطاطي وشم حافة السرير الموضب بعناية,انزلق كي يستقر داخل آنية زجاجية تحت السرير
القطرات متخثرة,لونها يكاد يصير بنيا...
القطرات منتظمة التباعد...
الدمعة التي حنت على خده ـ ولأنه كان يريد أن يخترق الزجاج العازل ـ انسابت ببطء هي الأخرى لتبلل زجاج الغرفة...
تخثر الدم وبطء انسيابه على طول الأنبوب المطاطي يعطي انطباعا بتثاقل الزمن كي لا يعلن الفاجـ....
توقفت القطرات....
همد الكائن الممدد على السرير الموضب بعناية...
انبعث صفير متواصل من الآلة الجامدة,توقفت الإشارات الضوئية...

أنفاسكان شادي الحلو واقفاً في الشارع المظلم الخاوي متردداً بين الذهاب إلى بيت عشيقته أو بيت أمه أو بيته، فطعنه فجأة خنجر طعنة واحدة عنيفة في الجانب الأيسر من صدره، فصرخ متوجعاً، وتمكن من رؤية وجه من طعنه، وكان وجهاً لم يره من قبل، وارتطم شادي بالأرض مرتمياً على ظهره، وتبللت أصابع يديه بدمائه المتدفقة بغزارة من صدره، فحاول الاستغاثة، ولكن استغاثته لم تكن غير أنين متوجع خافت، واقترب منه قط صغير، أبيض اللون، وشرع في لعق الدماء النازفة على الرصيف، فلم يحاول شادي إبعاده، وأغمض عينيه، ودخل بيت عشيقته التي استقبلته بوجه مكفهر متسائلة : لماذا تأخرت؟ أين كنت؟ هل كنت تقامر كعادتك أم كنت عند عشيقة جديدة؟‏
فقال لها إنه تعبان، ومحتاج إلى الراحة والنوم، وأدهشه أنها لم تنتبه إلى الدماء التي تلطخ صدره، واستلقى على السرير وهو يشعر أن تعبه يزداد، فأغمض عينيه، ولم يفتحهما إلا عندما سمع ضوضاء أطفال، ورأى أربعة أطفال غرباء يتضاحكون بمرح، فسأل عشيقته عنهم، فأجابت أنهم أولاده لو بقي حياً ولم يمت، فصاح بها رجل عجوز ملتح قائلاً لها بصوت مبحوح متهدج : اخجلي من أبناء الزنا يا فاسقة، ولا تنسي أن رجال عائلتك يقطعون رأس الحية ويقتلون القتيل ويمشون في جنازته.‏
وقال العجوز لشادي بصوت غاضب مؤنب : من سمح لك بالدخول إلى هذا البيت؟ كل بيت له حرمته، ولا يدخله إلا الرجل المتزوج على سنة الله ورسوله.‏

أنفاسجلس مطأطأ الرأس ، ذراعاه ممتدتان ، وأصابعه متشابكة حول ركبيته ، وجبهته ملتصقة من حين إلى حين بفخذيه . جسمه يرتعش ، كان قد دبت فيه حرارة غريبة  ، أذناه كانتا تلتقطان الكلمات بانتباه  وتركيز .
كان الحاج عبد الرحمن متوسط الثقافة ، كثيرا ما كان يشكو سوء فهم بعض العبارات وهو ينصت إلى خطبة من خطب الجمعة ، لكنه الآن ولأول مرة في حياته بدأ يحس أن للكلمات معنى وأن فيها حرارة ، لم يكن فقط يفهم الكلمات بقدر ما كان يحس بها ، يعيشها بكل كيانه ، بكل نبضه  ، كانت تشع نورا ، تساءل مع نفسه ، أي أب يمكن أن أكون ؟ بل أي بشر ؟ كانت كلمات الإمام وهو يخطب في الجمعة ، تصل إلى شغاف قلبه ، تغزوها بلا أدنى مقاومة ، فتحدث نزيفا مؤلما ، رباه ، ما الذي أصنع ؟ كيف حدث كل هذا ؟ وأنا المعروف بحلمه ، المشهود له بالرزانة وسعة الصدر ، كيف يصدر هذا التصرف الأخرق من هذا الرجل العاقل الذي كان الناس يضربون به المثل في الحلم  ؟ هذا الرجل الذي هو أنا سابقا والذي لا أعرفه حاليا . هذه التساؤلات كانت تذهب بعقله بعيدا يتأمل فعلته ، لكنه أحيانا يضطر إلى العودة إلى الواقع  . فهو لا يريد أن يفوته الاستماع ، كان موضوع الخطبة ، حقوق الأطفال في الشريعة الإسلامية ، كثيرة هي الأحاديث النبوية التي أوردها الإمام وكثيرة هي العبارات . ومع هذا السهو الذي يأخذه قسرا إلى تلك الغرفة المظلمة التي يقبع فيها ابنه الصغير . أيستحق كل هذا العذاب عقابا له على غلطة بسيطة تافهة ؟ فربما قد يكون مخطئا ، وربما قد يكون مظلوما ؟ وربما ... وربما...

مفضلات الشهر من القصص القصيرة