هل دلالة الشعري تحد بما تدل عليه دوال هاته القصائد، أم بما تكتمنه وتومئ إليه؟
يبعثنا هذا السؤال على القول: إن دلالة الشعري دلالة متعدية غير لازمة، تتجاوز في سياق تلقياتها المعنى الحرفي، لتغدو حسب المصطلح النقدي المأثور "معنى المعنى"، فهي تدل بدوالها اللغوية على معان مباشرة، فلا تلبث أن تدل هاته المعاني أثناء القراءة على ما يتعداها إلى ما سواها من المعاني، في دفق حركي خصيب يستمد شحنته المحفزة على التعدي الدلالي من كفاءة تأويل شفرتها النصية(1).
من ثم فالشاعر في مساق صوغه الكيمياء الشعرية، تستحيل لديه اللغة الشعرية دوالا، تدل على نظام لغوي إبلاغي، يخالف النظام اللغوي التداولي المألوف، فإذا كان هذا النظام ترتهن لديه الدلالة بما أودع في الدوال من مداليل تقريرية مباشرة، فإن ذاك ترتهن لديه بما أودع في المداليل المباشرة من مداليل إيحائية غير مباشرة، تستشف بقدر ما تستثار من اللغة طاقتها التضمينية، هاته الطاقة التي توقع في الرؤية الشعرية حركة السؤال المتوهج ، الذي يوسم بوسم "السؤال الحركي"، المتحرك في ما لا ينفذ من أجوبة التأويلات.
بهذا تصبح دلالة الشعري وقفا على ما تحتمله دوال الكتابة من مداليل، أي وقفا على الاحتمالات الدلالية التي تحتملها في سياق جدلية التلقي دوال الصور الشعرية، التي تعبر بها القصائد عن حركيتها الدلالية ضمن تركيبة لغوية أدبية متظافرة العناصر اللغوية.
إن هاته الحركية التي تتيحها الكتابة الشعرية، حتى تسترسل في التلقيات المتواترة تكشف التجربة الشعرية، باعتبارها تجربة ذاتية لا تلبث أن تتذاوت مع الذوات المتلقية، من خلال كتابتها التي تتنزل منزلة السؤال المفتوح على أجوبة القراءات، التي تتناسل حولها باحتمالاتها دون أن تحدها بإجابة قطعية أو بصيغة نهائية.
فالتجربة من خلال هاته الكتابة تدل على أن الشعر فضاء مشرع على الحوار الرحب، الذي لا تحده ضفاف، فهو فضاء تتوهج فيه الرغبة في استكشاف الكتابة المغايرة، التي لا تلبث في صيرورتها أن تنزاح بالكتابات والقراءات عن طقسية النموذجي.
بهذا المعنى يبدو الشعر كتابة لا تبدأ لتنتهي، ولكنها تنتهي لتبدأ، باعتبارها فعلا خلاقا، دائم البحث عن سؤاله وانفتاحه، أي توقا إلى اللانهائي واللامحدود(2).
إن هذا المعنى المستحصل الذي أضحى الشعر العربي يهجس به في شتى المحافل الشعرية، لما له من مفاعيل وآثار في ما يكتب منه، تتبين ملامحه بجلاء في المساعي التالية:
أولا، تحطيم إطلاقية النص الجاهز، وجعل شعرية القصيدة كامنة في قدرتها على التحاور مع التراث الإنساني، بغية تحيينه في طرائق تعبيرية مغايرة متفاعلة مع الصيرورة المجتمعية.