
على أنه لا بد من الإشارة إلى العلاقة ما بين هذه الثقافة وبين الإيديولوجيا. بالطبع إن كل ثقافة هي في النهاية نوع من الإيديولوجيا. إلا أنه في الحالة الأصولية قد تتجاوز الثقافة حالة الإطار الجامع كي ترتفع إلى مرتبة العقيدة الصريحة التي تمثل مشروعاً وجودياً وسياسياً. يتم الإنتقال عندها إلى حالة اليقين المطلق المتسم بالحق واحتكاره، في نظر من يعتنق هذه العقيدة، وذلك على نقيض عقيدة الآخر التي تتسم بالضلال والبطلان. وبالتالي يتعين محاربتها بلا هوادة. الإيديولوجيا هنا ترتدي إذاً طابعاً نظامياً قاطعاً يحدد مسارات الرؤية والممارسة، كما يحدد الأهداف التي ينبغي العمل على تحقيقها، ووسائل الوصول إليها. إننا في هذه الحالة بإزاء نظرة معيارية انتقائية تأويلية للذات والكون، يتخير فيها المرء الأشياء ويؤوّل الوقائع بكيفية تظهرها دائماً مطابقة لما يعتقد أنه الأصح والحق والواجب المطلوب الإلتزام به، والسعي من أجل تحقيقه. حيث لا تستقيم الأمور إلا بإدراك هذه الغاية.
نكون بصدد ثقافة أصولية بمعنى الإطار الجامع، في حالات التجمعات التي تكتفي، في سعيها للخلاص، بالتمسك بالشعائر والممارسات والدعوة إلى الهداية. ونتحول إلى الإيديولوجيا الأصولية حين تنخرط الجماعة في مشروع سياسي تغييري يتوسل الوصول إلى السلطة لتحقيق غاياته، ويحاول فرض موقفه كخيار أوحد.
تتلاقى الأدبيات وتتوافق إلى حد بعيد حول مكوّنات الثقافة الأصولية. ولهذا يمكن الاقتصار على الحديث عن بعضها، لأن ما عداه يكرر الأفكار نفسها. وتتكون هذه من التعاليم من ناحية، ومن الشعائر والشارات والرموز من ناحية ثانية.
رأينا كيف أن الأصولية البروتستانتية الأمريكية تنادي بالتمسك بأساسيات الدين المسيحي المتمثلة بالتأويل الحرفي للنصوص، وولادة المسيح، وعودته الثانية التي يستتب معها السلام لألف عام قادمة، والخلو من الضلال والحصول على الغفران. ويصاحب هذه التعاليم رد فعل عنيف على كل المظاهر الاجتماعية التي تعتبر انحلالاً وضلالاً من مثل انتشار الإيدز والجنسية المثلية. إنها تعتبر نوعاً من الآفات التي تمثل العقاب السماوي على الضلال والإنخراط في مظاهر الحداثة الإستهلاكية.
ويتمم هذا الموقف المتشدد، بل المتطرف من الخارج، موقف متزمت من الذات والسلوك حيث يمنع التدخين وشرب الكحول، والرقص، ومشاهدة الأفلام.