أنفاسيحضر المقدّس في الاجتماع العربي بشكل لافت، متجلّيا في عدّة أنشطة مشوبة بمسحة دينيّة، الأمر الذي يرفع الدّيني إلى مرتبة الفلسفة الاجتماعية المنسابة في وعي الفرد وسلوكه. ولكنّ حالة الحضور الواسعة تلك، تعوزها في الحقيقة متابعة علميّة تليق بها وفي مستواها. ونعني بها وضع الدّيني، في شتى مظاهر تشكّلاته، وانبعاثاته، وأنشطته، ودوافعه، وآثاره، بين قوسين. بإخراج المقدّس المعيش من العفوية والانسياب، إلى الضّبط والفهم.
فعادة ما تتركّز دراسة الدّين في مستواها الأكاديمي، في البلدان العربيّة، في كلّيات الشّريعة والجامعات الإسلامية، أو في الحوزة العلمية، بين أتباع المذهب الإمامي؛ وفي الكلّيات الحبرية لدى المسيحيين. تتلخّص علوم الدّراسة، في الجانب الإسلامي، بالعلوم الشّرعية: من فقه وأصوله، إلى علوم القرآن والحديث، إلى المواريث والمقاصد، إلى الدّعوة، إلى علم التجويد والتّفسير وعلم الكلام. وفي الجانب المسيحيّ تتوزّع بين علوم اللاّهوت والعلوم الكنسيّة بشتى أصنافها: اللاّهوت الكتابي، واللاّهوت المنهجي، واللاّهوت التّاريخي، ولاهوت الآباء، واللاّهوت الرّوحي وعلم التبشير والقانون الكنسيّ، بغرض تأهيل الخرّيجين لممارسة دور كهنوتي.
وتتميّز مناهج الدّراسة والبحث في العلوم الشّرعية واللاّهوتية، لدى الجانبين الإسلامي والمسيحي، بطابع مدرسيّ داخلي، بصفتها علوما إيمانية، غرضها الأساسي دحض القلق العميق الذي يكتنف وجود الإنسان.
والسّائد في مناهج تدريس تلك العلوم، تقديمها بحسب مرويات تخلو من إعادة النّظر في مناهج السّابقين وأساليبهم. وحتى المحدَثين الذين كتبوا في هذه العلوم، غالبا ما لخصوا المدوّنات السّابقة للآباء (أوريجانيس –ت254-، وترتوليانوس القرطاجي-ت225-، ويوحنّا فم الذّهب –ت407-، والقدّيس أوغسطين-ت430-، وتوما الأكويني-ت1274-)؛ أو علماء السّلف (أبو حامد الغزالي-1058-1111م-، وشيخ الإسلام ابن تيمية-ت1328م-، وأصحاب المذاهب الأربعة)، وقدّموها في حُللٍ حديثة مع محافظة على البناء الفكري وإبقاء على الأفق النّظري. والذين حاولوا الخروج عن مرويات الآباء وعلماء السّلف، غالبا ما أزيحوا وأبعدوا، نذكر علمين بارزين في الرّاهن، هانس كونغ من الجانب المسيحي ونصر حامد أبو زيد من الجانب الإسلامي.
فالعلوم الشّرعية واللاّهوتية، في ثوبها التقليدي المعروضة فيه، لم تساير التحوّلات الاجتماعية، من حيث طرح سؤال براغماتيتها وجدواها وقدراتها على فهم الدّين والمتديّن، حتى شاعت مقولة خصوم رجال الدّين القائلة: "زبل البقر أجدى نفعا من اللاّهوت نستطيع أن نصنع منه السّماد". فلو أخذنا دارس علوم القرآن وتفحّصنا طبيعة المواد التي ينكبّ عليها, من ناسخ ومنسوخ، ومكّي ومدني، وأوّل ما نزل وآخر ما نزل، ومطلق ومقيّد، نرى أن هذه العلوم تسمح له بالكاد للاندماج في مؤسّسات المجتمع العصري، لافتقاره لقدرات حقيقية تؤهّله لأداء نشاط عملي أو نظري.

أنفاس الإسلام المستنير مصطلح شائع منذ عقدين من الزمان. ويشير إلى تيار فكرى يجمع بين الإسلام والعصر، الماضي والحاضر، وكما عرف باسم الأصالة والمعاصرة أو التراث والتجديد، ويقال عادة أنه لا يوجد إسلام مستنير وإسلام غير مستنير فالإسلام واحد. والواقع أن الإسلام المستنير تيار ثقافي يوجد في كل عصر عبر تاريخ الإسلام الطويل يشير إلى تفسير معين للنصوص، واختيار جماعي معين. فهو يشير إلى تيار اجتماعي في مقابل تيارات أخرى كما هو الحال في الفرق الكلامية معتزلة وأشاعرة، وفي المذاهب الفقهية ، والاتجاهات العقلية أو الاشراقية، والمذاهب الصوفية المعتدلة أو المغالية. وكلها تنتسب إلى الإسلام.
وهو قادر على أن يكون جسرا بين التيارات المتصارعة في عصرنا الحاضر وينهى القتال الدامي بين أنصار الدنيا وأنصار الدين، المتحررين والمحافظين. لأنه يدافع عن مصالح الناس، ويحاول نقل المجتمع كله من عصر إلى عصر، و يبدأ من تراث الأغلبية وهى المحافظة الدينية، ويلتحم معها لأنها الاتجاه الغالب على الناس، ويحقق مقاصد الشريعة.
والإسلام المستنير ليس غريبا على الإسلام فقد بدأ منذ نشأته الأولى. كان فهما مستنيرا لليهودية والمسيحية بعيدا عن عبادة الأحبار والرهبان وتعظيمهم واعتزازا بدور العقل في رفضه مظاهر الشرك والتعدد، وتأكيدا على المسئولية الفردية، واستحقاق الإنسان بصرف النظر عن انتسابه إلى جماعة أو انتظار مخلص، اعتمادا علـــــــــــى الفطرة الأولى، الطيبة الطاهرة بلا وزر، لا حيلة للإنسان فيه، يتوارثه عن غيره. السلطة فيه بيعة من الناس، والأمر شورى بينهم، والعدالة الاجتماعية سارية فيهم، ومن ثم أصبح الإسلام منذ نشأته دين العقل والحرية والفردية والطبيعة والإنسان والتقدم. وهو ما عرف في الغرب بعد ذلك بفلسفة التنوير.
وقد عبرت الاتجاهات الفكرية عبر تاريخ الإسلام الطويل عن هذه الروح. ففي علم التوحيد ظهر الاعتزال مؤكدا أصلى التوحيد والعدل أو أنه لا توحيد دون عدل، ولا عدل دون توحيد، ويشمل العدل أصلى الحرية والعقل، فلا عدل دون أن يكون الانسان حرا عاقلا. والحرية تأتى قبل العقل، ويتفرد بها عن غيره، ثم يأتي العقل سندا للحرية. والعقل قادر على الفهم والتأويل، فالعقل أساس النقل. والانسان باستحقاقه، آخرته مشروطة بعمله في دنياه، الثواب والعقاب طبقا للعمل الحسن أو القبيح، وأن صلة الحاكم بالمحكوم عقد اجتماعي يبايع فيه المحكوم الحاكم ويطيعه بشرط طاعة الحاكم لشروط العقد وإلا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب على المحكوم قوله وواجب على الحاكم سماعه. وقد ظهر التنوير أيضا عند الحكماء، الفلسفة والدين شئ واحد متفقان في الهدف وهو الوصول إلى الحكمة وفي الوسيلة وهو العقل. لذلك   وكذلك الأحاديث النبوية(أفلا تعقلون)كثيرا ما نصت الآيات على العقل  "أول ما خلق الله خلق العقل ...".
 والنظر أول الواجبات على المسلم، والنظر يتم بالعقل وهو شرط التكليف، فلا تكليف لصبى أو مجنون، وجود الله وخلق العالم، وخلود النفس، كل ذلك يثبت بالعقل. بل أن الصوفية جعلوا الذوق مرادفا للعقل، وسيلتان لغاية واحدة فالصوفي يشاهد ما يعقله الفيلسوف.

أنفاس من الأسباب التي أدت إلى تقلص نطاق مصطلح العلمانية، تصور البعض أن العلمانية ليست ظاهرة تاريخية، شاملة كاسحة، وإنما هي ظاهرة محددة تتم من خلال آليات واضحة (مثل مصادرة أموال الكنيسة وإشاعة الإباحية)، يمكن تحديدها ببساطة، كما يمكن تبنيها أو التصدي لها بشكل واع.
ومن المنظور الاختزالي نفسه تناقش العلمانية في إطار نقل الأفكار والتأثر بالحضارات الأجنبية، فينظر إلى العلمانية على أنها مجموعة من الأفكار الغربية صاغها بعض المفكرين الغربيين، وأن هذه الأفكار نشأت في أوروبا بسبب طبيعة المسيحية، باعتبارها عقيدة تفصل الدين عن الدولة وتعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله (كأن الغرب لم يشهد ظاهرة تداخل الديني والزمني!)، وبسبب فساد الكنيسة وسطوتها، فالعلمانية من ثَم ظاهرة مسيحية غربية وحسب، مرتبطة ارتباطاً كاملاً بالغرب (الذي لا يزال البعض يصفه بأنه مسيحي)، ولذا، فلا علاقة بالاسلام والمسلمين بها. وحسب هذا التصور الاختزالي، يعود انتشار العلمانية إلى أن بعض المفكرين العرب قاموا بنقل الأفكار العلمانية الغربية، فتبناها بعض أعضاء النخبة، ثم قلدتهم دائرة أوسع من الناس، ثم أخذ نطاق التقليد يتسع تدريجياً إلى أن انتشرت العلمانية في مجتمعاتنا. بل يذهب البعض إلى أن عملية نقل وتطبيق الأفكار العلمانية تتم من خلال مخطط محكم (أو ربما مؤامرة عالمية يقال لها أحياناً (صليبية) أو (يهودية) أو (غربية)!). وللتحقق من معدلات العلمنة في مجتمع ما، فإن الباحث الذي يؤمن بمثل هذه الرؤية يتناول عمليات العلمنة الواضحة وآلياتها المباشرة ومؤشراتها الظاهرة، فإن وجدها، صنف المجتمع باعتباره مجتمعاً علمانياً، وإن لم يجدها، فهو، بكل بساطة، مجتمع إيماني!
وانطلاقاً من هذا التصور الاختزالي تصبح مهمة مَن يود التصدي للعلمانية هي البحث عن الأفكار العلمانية والممارسات العلمانية (الواضحة)، وعن القنوات التي يتم من خلالها نقل الأفكار والممارسات العلمانية. ومهمة مَن يبغى الإصلاح هي ببساطة استئصال شأفة هذه الأفكار والممارسات، عن طريق إصدار تشريعات سياسية معينة وفرض رقابة صارمة على الصور والأفكار الواردة من الخارج (يساعده في هذا البوليس السري والمخابرات العامة بطبيعة الحال!).
ول يمكن أن نقلل من أهمية الأفكار والممارسات العلمانية الواضحة، فهي تساعد ولا شك على تقبل الناس للمُثُل العلمانية، وخصوصاً إذا أشرف على عملية نقل الأفكار وفرض الممارسات مؤسسة ضخمة مثل الدولة المركزية. ولكن تصور العلمانية باعتبارها مجموعة أفكار وممارسات واضحة يظل، مع هذا، تصوراً ساذجاً، ويشكل اختزالاً وتبسيطاً لظاهرة العلمانية وتاريخها، وللظواهر الاجتماعية على وجه العموم.
وهذه الرؤية تتجاهل بعض الحقائق البديهية والبسيطة:

أنفاس ..نحن إذا أمام بنية اجتماعية معقدة تغطيها مؤشرات متداولة مثل القبيلة. وهذه البنيات العميقة إن صح التعبير هي المعبر الحقيقي عن مجتمع لا نقول بدون مشاريع، إنما مشاريعه إما ضخمة سريعة العطب –مبنية على ريع خارجي- أو متوسطة أو صغرى دائمة. إنه سلوك المزارع الذي لا يطمح إلى تسويق ولا ربح، سلوك لا ينظر إلى العمل عبر الفائض، بل العمل عنده جزء من الحياة اليومية رغم كون الفقه الإسلامي، عبر العقود وضبط الملكية، أعطى صورة تجارية لمجتمع لا يسمى مجتمعا إلا إذا كان وسيطا… ومن هذا المنطلق نتفق مع ماركس على أن الدولة ليست إلا محمولا وأن المجتمع هو الموضوع خصوصا في المجتمعات التقليدية.
إن أية دراسة مونوغرافية، سوسيولوجية خاصة كيف ما كانت درجة دقتها وقيمة وصفها، إذا لم تستطع أن تقوم بنقد إبستمولوجي، بل وحتى إيديولوجي للمفاهيم والنظريات "الجاهزة" المستغلة، إما عبر نقد منطقي أو عبر التجريب الميداني من جهة، وإذا لم تستطع صياغة استنتاجات وخلاصات تعميمية تتجاوز الرقعة المدروسة إلى المجتمع العام من جهة أخرى (قد يكون مثل هذا العمل نتيجة عوامل ذاتية أو موضوعية مشروعة أو قد يكون إحجاما عن الطموح النظري باسم مغالات المنظرين في التحليق على الواقع –الأمر الذي لا يخلو من كثير من الصواب- إلا أنه ليس مبررا كاملا للإنزواء والبقاء في مستوى الوصف الأمين)، إن مثل هذه الدراسة رغم حسناتها تبقى غير مكتملة… -مع الأخذ بعين الاعتبار طبعا الأهداف التي يحددها كل باحث لبحثه..- ولا يجب أن نفهم من هذا الحكم ضرورة استخلاص نتائج نهائية ومغلقة –الأمر الذي ليس ممكنا في أي حال من الأحوال- بل هو نوع من الدعوة إلى تجاوز التحفظ الذي طغى على العلم الاجتماعي المغربي بصفة عامة، وعلى الأعمال المونوغرافية بصفة خاصة، رغم وصول بعضها إلى درجة عالية من الجودة في التوثيق والتصنيف والوصف. بحيث لا يعدو الإحجام عند البعض أن يكون سوى ذلك التواضع الذي يسم المثقف المغربي عبر العصور. ونريد أن نشير وأن نلمح هنا بالخصوص إلى المونوغرافيات التاريخية الجيدة والتي نلمس لها العذر في عدم الاختصاص من جهة وفي المجهود التوثيقي من جهة أخرى. كما أن إحجامها مبرر في عدم تغطية ومسح المجتمعات المحلية كلها حتى نعمم على المجتمع العام.
إلا أن الأمر إذا كان بهذا العموم –أمر البقاء عند حدود الوصف والتصنيف- فقد أصبح ظاهرة تستدعي هي نفسها تفسيرا نلتمسه افتراضا في عدم وصول الكم إلى كيف ونوع يقتضي تنظيرات منافسة لما هو عليه الأمر في الغرب… إلا أنه لا بد من اجتهاد علمي مقتنع تمام الاقتناع بالأهمية القصوى للخطإ العلمي في بناء سيرورة العلم كله…

أنفاس لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن ظاهرة العنف ضد النساء، إذ أصبح الكثير من الكتب والمجلات يطفح بوصف مسهب لمظاهر هذا العنف وتجلياته على مختلف ميادين الحياة المجتمعية. كما ذهب العديد من الباحثين والدارسين إلى البحث عن تفسيرات علمية لهذه الظاهرة. وإذا كان يبدو جليا أن هذه الدراسات بينت أن النظام الاجتماعي والثقافي والوضع الاقتصادي والمستوى المعيشي كلها عوامل تفسر هذه الظاهرة، فإن الملاحظ هو أن هذه الدراسات والأبحاث لم تضع موضع السؤال علاقة العنف بتشكيل الهوية الرجولية. مما يجعل العنف ضد النساء يبدو كظاهرة عرضية وكمسألة طارئة في الزمان والمكان، كما يتجلى بكل وضوح في خطاب وسائل الإعلام.
يظهر أن هناك علاقة معينة بين العنف وتشكل الهوية الرجولية، حيث أن هذه الأخيرة تتأسس على الهيمنة على النساء بوجه خاص وعلى تحكم الرجال في وسائل الإنتاج المادي واحتكارهم لوسائل العنف الفيزيقي والرمزي، مما يدعونا إلى طرح التساؤل التالي: هل يعد العنف ضد المرأة مكونا أساسيا من مكونات تشكيل الهوية الرجولية؟ وإذا كان الأمر على هذا النحو، فبماذا يمكن تفسير هذه العلاقة؟ وهل تسعفنا المقاربات المعتمدة في تفسير الهيمنة الرجولية على إيجاد تفسير علمي للظاهرة موضوع الدراسة؟
I- المقاربات المعتمدة في تفسير الهيمنة الرجولية:
كما سبق أن أشرنا في مقدمة هذا المقال، فإن علاقة العنف بتشكيل الهوية الرجولية لم تحض بما فيه الكفاية من الدراسة والبحث. ذلك أن الاهتمام قد انصب أساسا على دراسة الهيمنة الرجولية بوجه عام، حيث اتجه العديد من الباحثين، بالاعتماد على بعض المرجعيات الفكرية والمنطلقات النظرية، إلى البحث عن تفسير لهذه الهيمنة دون الوقوف عند مكوناتها الأساسية. وبانطلاقنا من مسلمة كون العنف بصفة عامة والعنف ضد المرأة بصفة خاصة يعد بعدا أساسيا للهيمنة الرجولية، فإنه يكون من المشروع اعتماد المقاربات المستعملة في دراسة الهيمنة الرجولية لتحليل ظاهرة العنف ضد المرأة لدى الرجال والتعرف على علاقة العنف بتشكيل الهوية الرجولية. فما هو مضمون هذه المقاربات؟
1 -  المقاربة الأبوية البيولوجية:
تستند هذه المقاربة على السوسيو بيولوجيا التي تنطلق من كون العدوانية الذكورية الموروثة هي التي تمنح الأسس البيولوجية لهيمنة الذكور على الإناث، وللتراتبية والتنافسية بين الرجال وأيضا للحرب. على أساس ذلك، فإن ستيفن كولدبيرك (Steven Goldberg)، عالم الاجتماع الأمريكي، حاول أن يوضح أن الجانب الهرموني هو السبب في هيمنة الرجل.

أنفاسإذا كانت القرصنة الثقافية إحدى مظاهر الرداءة في الحياة العربية، فإن بعض عواملها تكمن في الانقطاع الذي يصل حدّ الاغتراب والتغريب بين السيرورة الاجتماعية والسيرورة الثقافية داخل المجتمع. ثمة حالة اغتراب وتغريب يعيشها الكاتب العربي في مجتمعه، تعود بأسبابها إلى جذور تاريخية وبيئية تربوية راسخة وإفرازات معاصرة. ان حالة الرفض الاجتماعي هي التي تدفع المبدع إلى الانتقال إلى العاصمة أو إلى بلد آخر، يعاني فيه من الغربة ولكنه يتخلص من تغريب المجتمع له ونظرته إليه ككائن خرج من نمطية القطيع إلى مستوى فكري وعقلي مختلف. بكلمة أخرى، انه التنافر السلبي بين المتخلف والمختلف. ولا يشترط أن يكون الاختلاف (الفكري) هنا حقيقياً، قدر ما هو حكم مسبق (على بياض) ناجم من النظرة السلبية للعلوم والفنون والآداب. على خلاف ذلك يحظى بالحفاوة والفخر من مجتمعاتنا من يتخذ سبيل الدين أو الشعوذة منهجاً. بل أن العاملين في هذا المجال يعامَلون كأحد أفراد الجماعة والمنطقة حتى لو كانوا من مناطق أو بلدان بعيدة. ذلك أن المتعامل بالدين أو الشعوذة يستخدم أدوات قريبة من واقع الناس وفهمهم، أو يخاطب عواطفهم وغرائزهم، فيتمكن من استمالتهم، أو أنهم يلجأون إليه لحاجتهم لما يوحي بالقناعة والطمّأنينة أو فكرة المنقذ والمخلّص الذي يرفع عنهم الخطايا ويعدهم بالفراديس المؤجلة، وهو الاسلوب الذي تتبعه الاحزاب الديماغوجية للاستئثار بالشعبية. بينما يحاول المثقف التماهي مع الحالة المعرفية والتجويد فيها بانتظار ارتفاع الوعي الاجتماعي وأدوات الفهم العامة للمستوى الحضاري الذي يستوعب فكرة الحداثة. دون أن يبتكر الأدوات والوسائل التي تقرب الثقافة من العامة وتساهم في رفع الوعي الاجتماعي للمستوى الذي يؤهله لقبول فكرة التغير والتغيير كسنّة للحياة. ومن المؤسف أن الثورات الثقافية في الشرق كانت دائماً بقيادة المؤسسة العسكرية أو الأيديولوجية. وهي بذلك لا تعلّم وتطور الانسان وانما تمسخه بلغة الأوامر والتهديد بالثواب والعقاب.

ان تحديد حالة الاغتراب ووضع تعريف لها يقتضي نظرة على الحالة العامة للمجتمع بالمعيار الحضاري أو الثقافي والاجتماعي والسياسي وبالتالي مدى صحية هذه الظروف لانتاج مجتمع طبيعي منسجم مع نفسه وامكانياته ومطامحه، وعليه تحديد حجم احتمالات عدم الانسجام أو عدم القدرة على تلبية حاجات جماعات معينة. وبالتالي فأن الاغتراب الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي يمثل معطيات بدهية في المجتمعات المعروفة بالتخلف الحضاري أو التي تعيش حالة عامة من الانسياق والتبعية المطلقة لجملة أحكام وتقاليد موروثة أو مفروضة لا قدرة لها على مناقشتها أو تغييرها.

أنفاسدرجت بعض فروع علم الاجتماع على إمضاء (البدائية) مرحلة طبيعية في تاريخ الوجود الإنساني، ونشأت في هذا النطاق مصفوفة من النظريات والرؤى التي تبحث في المجتمع البدائي، سواء على صعيد بداياته التأريخية وجذوره الزمنية أم على صعيد حقيقة وجوهر المنهاج الحياتي والعقلي لهذا المجتمع.
ويعتمد باحثوا هذه القضية في صياغة رؤيتهم العلمية عن البدائية ومجتمعها على أقوام متواجدين على هذه الأرض يعتبرونها تحاكي أو تطابق المجتمع الانساني في بداياته التاريخية السحيقة، فضلاً عن استيحاء بعض الآثار المادية التي تركها الانسان، وهو يمارس حياته الأولى، علماً أن هذه البحوث تتخذ من الانسان العاقل الذي يرجع تأريخه ـ كما يقولون ـ إلى 20000 سنة، بأنه بداية الكائن الإنساني الحالي، وإن مرحلة البدائية التي يتحدثون عنها تندرج ضمن المساحة التاريخية للإنسان العاقل.
لقد تظافرت علوم الاجتماع الغربية على التعامل مع (البدائية) كحقيقة أولية لابدّ منها، وكان للماركسية الدور الأكبر في تكريس هذا التصور، وقد أفاضت في طرح التصورات والأفكار حول المرحلة البدائية للمجتمع البشري.
ـ عقبات المنهج:
على أن هذا التسالم القبلي اصطدم بجملة عقبات بعد مراجعة نقدية شاملة لقضية البدائية ومجتمعها ومرحلتها.
والعقبة الأولى ذات بعد منهجي:
إن الباحثين هنا يستندون في دراساتهم واستنتاجاتهم إلى معلومات يجمعونها أو يسمعونها عن (أقوام) معاصرة يعدونها بدائية سلفاً، وبالمقارنة بين عاداتها وتقاليدها وأنماط سلوكها، يصممون نظرياتهم عن البدائية وملابساتها.
إن أساسيات هذا المنهج لا تتمتع بالمتانة العلمية والرصانة المنطقية، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: إن هذا المنهج ينطلق من موضوعةٍ يصعُبُ إقرارها مسبَّقاً وهي تحتاج إلى إثبات علمي، وتتجسد هذه الموضوعة في اعتبار بعض الأقوام نماذج بدائية، ولكن اختيار (الأقوام) في الكونغو والأمازون واستراليا، وإخضاعها لحكم أو عنوان اجتماعي أنثروبولوجي هو في حد ذاته عملية غير مقبولة، لأنها نوع من الحكم الأولي في مسألةٍ معقدة للغاية.

أنفاسمقدمة :
كثيرة هي النظريات التي تعد الاختلاف ظاهرة صحية في الحياة المجتمعية. وفعلا فإن طبيعة تكون المجتمع، وتشعب مناحي المعرفة التي يمتح منها الأفراد توجهاتهم السياسية والثقافية والتربوية والاقتصادية، كل ذلك يستتبع مجموعة من القضايا الخلافية التي تحصل بين الأحزاب بقدر ما تحصل بين الأفراد أو بين الفرد والجماعة التي ينتمي إليها أو يجد نفسه متورطا فيها. ومن هنا تصدر إشكالية معروفة تتمثل في كيفية تدبير علاقات الاختلاف في سياق وضعية يطبعها اختلاف العلاقات ؟ ! كيف يمكن إذن، لأطراف متعارضة في التصور والتمثل ونظام الفكر أن تتواصل وتناقش وتتفاهم؟

سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة انطلاقا من الدرس الفلسفي والسوسيوبنائي الذي نستخلصه من بعض المفاهيم الأساسية التي يستعملها "هابرماس" في كتاباته المختلفة. ويشفع لهذا الاختيار نزوعنا إلى تعرف الفكر الهابرماسي في بعض جوانبه الحداثية والديمقراطية. وذلك من أجل استثماره المفترض في تدبير ما يحدث بيننا من اختلافات سياسية وثقافية ودينية.

1-هابرماس : الولادة والفكر

ولد يورغن هابرماس (Jûrgen Habermas) في مدينة دوسلدورف بألمانيا عام 1929. درس الفلسفة وعلم النفس والأدب والاقتصاد والتاريخ في غوتينجن وزيوريخ وبون وهو في سن العشرين. وفي سنة 1954 حصل على شهادة الدكتوراه في موضوع حول الفيلسوف الألماني شلينغ shelling ، ثم أصبح أستاذا مساعدا لأدورنو Adorno وهو لايزال شابا. وفي سنة 1964 أصبح أستاذا للفلسفة وعلم الاجتماع بجامعة فرنكفورت التي بقي فيها كأستاذ شرفي بعد تقاعده سنة 1994.

قرأ هابرماس لفلاسفة ومفكرين عدة أمثال : كانط، وهيجل، وماركس، وفيبر، ودوركايم. ويعد حاليا الوريث الشرعي لمدرسة فرانكفورت أو مدرسة النقد الجديد. لقد تشرب أفكارها وتأثر بروادها كأدورنو وهوركهايمر وماركوز؛ كما واجه هابرماس هانس جورج غادامير، وألبرت، وأرندت، وبوبر.