انفاسأصبح من المسلم به اليوم أن استيعاب المعرفة وإنتاجها وتداولها يشكل اليوم وسوف يشكل في المستقبل بشكل أكبر محور التنافس بين المجتمعات وأساس نجاحها في الرد على حاجات أعضائها وبالتالي في استقطاب ولائهم، وذلك بقدر ما أصبحت المعرفة في أيامنا هذه العامل الأول في تقدم المجتمعات والارتقاء بشروط حياتها المادية والمعنوية· وهذا الاستيعاب وما يتبعه من إنتاج وتداول مكثف للمعرفة يشكل اليوم، أكثر من التعبير عن الهوية، التحدي الرئيسي الذي تواجهه الثقافات في مجتمعاتنا المعاصرة· فالثقافة التي تخفق في تحقيقه تجد نفسها شيئا فشيئا مستبعدة من المنافسة التاريخية وتحكم على نفسها بالزوال كثقافة حية وفاعلة حتى لا يبقى منها سوى ذكرى ثقافة أو ثقافة الحنين والذكريات·
وكما بين ذلك تقرير التنمية البشرية للمنطقة العربية لعام ،2002 بصرف النظر عن العديد من نقاط الضعف التي تعتري هذا التقرير،لم تنجح المجتمعات العربية المعاصرة في الرد على هذا التحدي، ولا تزال تعاني من نقص فادح في اكتساب المعرفة وإنتاجها وتداولها، خاصة المعرفة الابداعية العلمية منها، وهي تعتمد في تأمين حاجاتها الأساسية منها على النقل أو الاستعارة أو الاستيراد من الخارج·
وقد تحدثت في مقال سابق عن أثر العوامل السياسية والاجتماعية في تكوين فجوة المعرفة الواسعة التي تفصل العالم العربي ليس عن المجتمعات الصناعية المتقدمة فحسب ولكن حتى عن المجتمعات النامية، على رغم ما يتوفر في مجتمعاتنا من موارد بشرية ومادية· وأود أن أشير في هذا المقال إلى أثر عوامل أخرى لا يمكن لأي سياسة تنموية أن تتجاهلها، وهي السياسات العلمية والثقافية بشكل عام· وإذا كان من الصعب فصل هذه العوامل عن العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلا أنها تشكل ميدانا للبحث قائما بذاته وبالتالي يحتاج منا إلى التأمل والتفكير والمراجعة· فوجود إرادة التنمية المعرفية لا ينفي ضرورة بلورة سياسات علمية فعالة لتحقيق هذه التنمية· Read Moreولعل ما وسم العقود القليلة الماضية من العمل العربي في هذا المجال هو الافتقار إلى سياسات تنمية معرفية متسقة وناجعة، وفي بعض الحالات إلى غياب أي سياسات علمية على الإطلاق، على رغم الموقع الكبير الذي احتلته مسألة التنمية واكتساب العلوم والتقنيات في الايديولوجية العربية القومية السائدة· وهو ما يمكن أن نلاحظه على مسألة التعليم أيضا· فعلى رغم الجهود الاستثنائية التي بذلتها الدول العربية لتوسيع دائرة المستفيدين من هذه الخدمة الاجتماعية الكبرى إلا أن الاهتمام بتحسين نوعية التعليم وربطه بمسائل التكوين المهني والتعليم المستمر والتأهيل الاجتماعي بقي ضعيفا جدا إن لم نقل معدوما· وربما كان السبب الرئيسي لذلك كامنا في غياب أهداف واضحة ومحددة للتربية والتعليم في جميع مراحلهما وانفصالهما عن عالم العمل والانتاج والاهتمام الاجتماعي· وهكذا لم تنجح الاستثمارات الكبيرة التي قامت بها الدول العربية في هذا القطاع، في تجنيب الدول العربية التبعية شبه الكاملة في تأمين حاجاتها المعرفية على الخبرة الأجنبية· فهي لا تزال تستورد الخبرة الفنية والتقنية بكثافة، ولا تزال تعتمد بشدة، منذ أكثر من قرن، في تكوين الاطر العلمية والفنية والتقنية المتقدمة، على ايفاد البعثات إلى الدول الأجنبية لتلقي العلم، كما لا تزال تعتمد في إعداد البرامج التعليمية على المناهج المصوغة لمجتمعات أخرى·

انفاسبين الثقافة والدين أكثر من علاقة. لنقرأ ـ هنا ـ وجهين أساسيين من تلك العلاقة لأهميتهما في مضمار تحديد معنى الثقافة وتحديد نظام اشتغالها:
يمثل الدين ـ في مستوى أول ـ ثقافة كاملة لشعب أو أمة أو حضارة. لا يتعلق الأمر، هنا بالدين من حيث هو مجموعة نصوص وتعاليم وقيم فحسب، بل ـ أساساً ـ بما هو كيان مجسد في طقوس اجتماعية وتقاليد وأفعال يمارسها الناس أيضاً، أي من حيث صيرورته نظاماً من الممارسات المادية قد تقوم مسافة ما واقعية بين وضعه النظري ـ في نصوص ـ وبين طريقة استيعابه والتعبير عنه منط رف المؤمنين به تعبيراً مباشراً في حقل اجتماعهم المدني.
يحتسب الدين ثقافة من واقع كونه يعبر عن رؤية للعالم: للطبيعة، والوجود، والانسان؛ ومن واقع كونه يقدم تصوراً لبناء الاجتماع الانساني على نحو يغطي ـ أحياناً ـ أدق تفاصيل هذا الاجتماع: اقتصاداً، وسياسة، وأخلاقاً، وأحوالاً شخصية.. الخ. ليس يهم إن سعت عقيدة ما إلى بناء (أمة روحية) ـ شأن النصرانية ـ أو إلى بناء (أمة اجتماعية وروحية) ـ شأن الاسلام، بل الأهم أنها قامت على تعاليم رسمت للمنتسبين إليها تخوم الجائز وتخوم الممنوع، وقذفت في (روعهم) الجمعي مبادئ تحولت إلى قواعد صارمة للفكر والسلوك، وأفكاراً تحولت إلى عقائد راسخة لا تقبل المراجعة في جانبها اللاهوتي حتى وإن كانت تقبل بعض التغيير في الجوانب المتصلة بميدان الاجتماع المدني.
الدين هنا ثقافة بوصفه نمطاً من المعرفة بالوجود (الطبيعي والاجتماعي)، يختلف في الأسس والمبادئ عن سواه من أنماط المعرفة الأخرى كالعلم، والفلسفة، والأسطورة، وسواها. فله مسلماته التي لا يقوم الإيمان ـ داخل نظامه ـ بغير الإقرار بها، وله طريقته الخاصة في بناء أحكامه ليست تفهم قضاياه وأحكامه بغير ربطها بنمط الاستدلال فيه.. إلخ.

انفاس.يثير موضوع واقع العلوم الإنسانية والاجتماعية في الفكر العربي المعاصر إشكالات نظرية وتطبيقية متعددة. بعضها يرتبط بأسئلة المعرفة العلمية في الثقافة العربية والمجتمع العربي، وكثير منها يتصل بنوعيات الممارسة العلمية كما تجري في الجامعات ومراكز البحث العلمية العربية.
صحيح أن عمر البحث في الإنسانيات بأساليب المنهج العلمي ما يزال في بدايته، وأن أعرق الجامعات العربية لا يتجاوز عمرها ثلاثة أرباع القرن الواحد، بل إن عمر أقسام العلوم الإنسانية داخل هذه الجامعات لا يتعدى أربعة عقود من الزمن في أغلب الجامعات العربية، إلا أن كل هذا لا يعفينا من التساؤل عن طبيعة الإنجازات التي تبلورت في هذا المجال ومدى مطابقتها للأسئلة التي تطرحها الأوضاع الإنسانية في الوطن العربي. ولعلنا لا نجانب الصواب إذا ما قلنا إن التفكير في مسيرة البحث في العلوم الإنسانية في الفكر العربي المعاصر يتيح لنا صياغة الأسئلة المحفزة على تطوير آفاق هذه العلوم.

وإذا كنا نسلم بأن ميلاد البحث العلمي في الظواهر الإنسانية في القرن التاسع عشر(1) قد واكب في التاريخ الغربي ميلاد المجتمع الصناعي، وتطور نمط الإنتاج الرأسمالي، كما واكب مجمل التغيرات التي عرفها الغرب الأوروبي في سياق تطور المجتمع، وتطور علاقات الإنسان بالطبيعة وبالتاريخ، وسعيه لمعرفة مظاهر السلوك الإنساني في مختلف أبعادها، فإن محصلة كل الإشارات التي ذكرنا آنفا وباختزال شديد ساهمت في تحقيق ثورة فعلية في مجال الإحاطة بالظواهر الإنسانية في مستوياتها المتعددة (الاقتصادي، المجتمعي، النفسي، الظواهر الرمزية الخ…) ثم في مستوى الفروع التخصصية التي اتجهت نحو المزيد من الإحاطة بالأبعاد الفرعية لهذه الظواهر، من أجل تحقيق معرفة أفضل بالإنسان ومحيطه، وبصورة تمكن من تهيئ ما يسمح له بتحسين أحواله، والتحكم في مستقبله ومصيره. Read More