تعترض الباحث في التاريخ الاقتصادي مشكلة قلة معرفته بالمقاييس التي سادت خلال العصر الوسيط ببلاد المغرب والأندلس. ولا غرو إن قلنا إن البحث في المقاييس من أصعب المهام المنوطة بالتاريخ الاقتصادي، ذلك أن وحدات المقاييس كانت أساسية في الحياة اليومية المتعلقة بالبيع والشراء ومعرفة مسافة السفر، وفي المعاملات الدينية المرتبطة بتقدير الخراج حسب ملكية الفرد(1)، وبتحديد مسافة قصر الصلاة والإفطار في رمضان خلال السفر إلخ. ولعل صعوبة ضبط المقاييس لارتباطها الوثيق بعلم الحساب والهندسة والفلك، دفع ببعض العلماء إلى التأليف فيها لتحقيق بعض الوحدات وتبسيط قواعدها وتسهيل استعمالها على العموم(2). غير أن التأليف في هذا الاتجاه يبقى ضعيفا، وجله لم يصلنا وما وصلنا منه إما مخطوط أو عبارة عن إشارات متفرقة في المصادر.
ولا مناص للباحث في موضوع المقاييس في بلاد المغرب والأندلس خلال العصر الوسيط من الاعتماد على المؤلفات الفقهية والجغرافية المغربية والمشرقية، إذ تعد المخرج الأساسي لفك ما يكتنف بعض الوحدات من غموض وارتباك. ومن المؤكد أن المهتمين بضبط الأطوال والمسافات حاولوا البث في الخلاف وتصويبه وفق رؤية علمية وشرعية(3). ورغم ذلك تبقى بعض النصوص التاريخية تحتاج إلى قراءة جديدة في ظل معرفة المقاييس التي استعملها المغرب الإسلامي.
الاسلام والنهضة الاجتماعية ـ برهان غليون
إن المشكلة الحقيقية التي يطرحها الفكر الاسلامي في العصر الحديث ليست الاهتمام بالسياسة ، فهذا الاهتمام من علائم النهضة الاجتماعية الحديثة عامة. انها تكمن ، بالعكس ، في الخلط بين الأهداف الدينية والسياسية ، وبالتالي العجز عن التمييز، ثم الاختيار، بين الوسائل والقواعد والتقنيات المختلفة المرتبطة بممارسة هذين النشاطين الاجتماعيين الاساسيين ، ولعل نمط السياسة الرسمية الذي ساد في العقود القليلة الماضية في المجتمعات العربية ، والذي يجعل من العمل السياسي منطقة محرمة من جهة، وضعف الجهد التجديدي في الاسلام المعاصر من الجهة الثانية، هما العاملان الرئيسيان المفيدان في تفسير هذا الوضع . ومن هنا يتوقف نجاح الفكر الاسلامي الحديث في تجاوز تناقضاته ولعب دور ايجابي في إعادة بناء الدولة والمجتمع السياسي على قدرته على الحسم في طبيعة نشاطه الجوهري وأهدافه الرئيسية ، والطرق والوسائل العملية لتحقيقها.
والمسألة الأولى التي يجب التأكيد عليها في محاولة تجاوز الانقسام والنزاع في الدين والشريعة والسياسة ،.. هي التمييز بين الاسلام كجماعة ودين من جهة ،والحركة الاسلامية كفريق سياسي يجتهد في تفسير الواجبات الدينية وتأويلها تأويلا سياسيا من جهة ثانية . ان من الاخطاء الكبرى ان يعتقد الإسلاميون مثلا ان الانتماء الى الاسلام لم يعد اليوم ممكنا إلا بالانتماء الى الرؤية السياسية التي يمثلها التيار الاسلامي المعاصر للاسلام . ولا شك أن هناك ميلا، مقصودا أو عفويا، في صفوف العديد من الاسلاميين ، وليس كلهم بالطبع ، للتوحيد بين الاسلام والاسلامية الجديدة ، كما لو كانت النظرة السياسية الى الاسلام ، هي عودة الى الاسلام ، او كما لو كان نشوء تيار السياسة الاسلامي ونموه هو التعبير الاصيل الوحيد عن هذه العودة . أو كما لو أن الاسلام يبعث من جديد، ولم يكن قائما من قبل ، أو كأن غير الاسلاميين ليسوا مسلمين . فلا يمكن لمثل هذا التصور إلا أن يقود الاسلاميين إلى فكرة خطيرة مفادها انهم مكلفون بأسلحة المجتمع او اعادة اسلمته ، وهو ما وقعت فيه كل الحركات الدينية التي خلطت في القرون الوسطى بين مهام الهداية ومهام السياسة ، ولم تعرف كيف تميز بينهما.
البابا فرانشيسكو ولاهوت التحرّر: عفا الله عما سلف ـ عزالدين عناية
في أعقاب تواري البابا جوزيف راتسينغر، أكان ذلك جراء إقالته القسرية أو بموجب استقالته الطوعية، اتخذت الكنيسة الكاثوليكية منحى مغايرا في التعاطي مع العديد من القضايا. لم تعد الصورة الإعلامية المروَّجة للبابا الجديد صورة ذلك الفيلسوف المتجهّم الذي يقارع فطاحلة الفلسفة (حوار راتسينغر مع هابرماس)، ولا صورة ذلك المتهجّم على الأديان الجامحة (قدح راتسينغر في الإسلام في راتيسبونا)، ولا أيضا ذلك المشهِر سيف الحرمان في وجه كل من تسوّل له نفسه بشقّ عصى الطاعة عن روما (حِرْم لاهوت التحرر في أمريكا اللاتينية). غدا البابا في نسخته الجديدة بشوشاً وديعاً عطوفاً، متقفّيا أثر البساطة الإنجيلية؛ لكنها بساطة تبدو رهينة الميديا ومن صنعها، ما قد يضفي على ذلك المسلك طابع الرياء، الذي طالما حذّر منه المسيح (ع) في تقريعه للمرائيين.
أديان ما قبل التاريخ ـ جمعة مقطب
1- مفهوم الدين
اختلف الباحثون والدارسون حول إعطاء دلالة واحدة وموحدة لمفهوم الدين على اعتبار أنه موضوع يلفه الغموض وعدم الوضوح وتشتبك السبل نحو معرفة كنه وجوهره، خاصة إذا ما تعلق الأمر بالأديان البدائية إن صحت هذه التسمية نظرا لما يلف الحقبة بأسرها من ضبابية ونظرا لما يسبح فيها من تحولات نوعية قد تصل إلى حد التناقض،ـ فالتطور الإنساني يتجاوز أنماطا من التفكير والاعتقاد كي يتبنى نمطا آخر ينسجم ومتغيرات حياته والتحولات الكونية.
ورغم كل الصعوبات التي قد تعترض الباحث في هذا المجال فقد حاولنا جاهدين إعطاء نظرة عامة وشاملة حول هذه المعتقدات المختلفة والكثيرة للإنسان البدائي.
وكما سبقت الإشارة فإن السؤال المحير يبقى هو: ما هو الدين؟ يقول هنري برجسون في هذا الصدد "أن الدين البدائي هو وقاية من الخطر الذي يتعرض له الإنسان إذ يفكر إلا في نفسه وعلى هذا فهو رد فعل دفاعي تقاوم به الطبيعة العقل" ([1]).
العامية واللغة العربية.. سياق تاريخي موجز ـ غسان الكشوري
يؤمن علماء اللسانيات الاجتماعية بنظرية اتساع اللغات وانقسامها، وتقول كتبهم أن كل لغة تتوسع في مساحة انتشارها واختلاطها بأكبر عدد من اللغات يعرّضها للانفجار والانقسام إلى لهجات. ويقول الكاتب الفرنسي لوي جون كالفي في كتابه سوق اللغات أنه "كلما اتسَعت المساحةُ التي تنتشر فيها لغة معينة أصبحت اللغة أكثرَ قابليةً لكي تنقسم إلى لهجات". ويبدو هذا الرأي أو القاعدة عند اللسانيين هو ما يجعل التخوف واردا عند بعض اللغويين العرب تجاه ما يمكن أن يحدث للغة العربية. وهو تخوف مشروع نظرا لما آلت إليه اللغة اللاتينية في العصور الأخيرة، حيث انقسمت داخليا إلى لهجات تحولت فيما بعد إلى لغات مستقلة عن بعضها، وأضحى الفرنسي أو الإسباني أو الإيطالي المعاصر يصعبُ عليه قراءة نصوص القرن 15 الميلادي وما قبله.
ونبه ابن خلدون في مقدمته إلى تأثر اللغة العربية، في تحولها التاريخي، بالأمصار وبتنقل القبائل العربية ما قبل الإسلام، إلى توحيدها أواخر القرن الثاني الهجري مع حركة التدوين الثقافي والعلمي. كما تعرضت العربية، بالرغم بقيامها بوظائف: تواصلية ودينية وعلمية وفنية وحضارية، لهجمات خارجية ولمحاولات سلخ لهويتها. إذ تحيل دراسة تاريخ العربية وأنماطها إلى ضرورة قراءة هذه اللغة في توحدها وفي انقسامها الداخلي، أي دراسة العربية الفصحى وعلاقتها باللهجات (أو العامية) المتزامنة معها. الشيء الذي يوحي أيضا بتدخل دراسات اللغة النحوية والصرفية والصوتية في البناء المشترك لنظمها، على غرار قوانين التطور التاريخي للغات البشرية.
أستاذ علم اجتماع الأديان عزالدين عناية في حوار بشأن علاقة الإسلام بالمسيحية في عالم اليوم ـ أجرى الحوار الشاعر والكاتب محسن العوني
الحوار الإسلامي المسيحي هو صناعة غربية، حاضرة الفاتيكان فيه تقود والإسلام يتّبع
*- لماذا تفتقر الجامعات العربية والإسلامية إلى تدريس الظواهر الدينية بمنهج علمي؟
لا بد من الإقرار أن في البلاد العربية ثمة مصادَرة للدين من قِبل الدولة، يقابل ذلك استنزاف للفكر الديني في اللّغو. وذلك من الأسباب التي أبقت على استهلاك العرب للدين والتفكّر فيه بمنطق التحريم والتحليل، أكان في مستوى الثقافة العالمة أو في مستوى الوعي الشعبي. حيث بقي أسلوب النظر ذاك يستحوذ على رؤى السواد الأعظم من الناس، حتى عُدّت كل مقاربة مغايرة في عداد المبتدع والمنبوذ.
وضمن ذلك السياق عادة ما تم عرض الأديان الأخرى أو الإشارة إليها في كليات الشريعة، وفق منهج المنافحة عن المعتقَد الذاتي وليس بناءً على الحكم الموضوعي والتقدير العلمي. ولا تبتعد أقسام التاريخ والعلوم الاجتماعية والحضارة عن ذلك التمشّي، لذلك لم نوفّق حتى الراهن في توليد علم اجتماع ديني، أو إناسة دينية، أو ما شابه ذلك، حيث ما فتئنا ندرّس العلوم المستورَدة دون تعريبها الوظيفي ودون نقد جذري لها.
التاريخ والحضارات في تصور رواد التاريخ الجديد:جاك لوغوف - محمد أبرقي
في سياق التعريف بقضايا التاريخ الجديد، ومنهج التاريخ الشامل ،وعلى هامش صدور الأجزاء الأولى من الموسوعة التاريخية الضخمة "تاريخ وحضارات"، قامت يومية le monde الفرنسية بنشر حوار فكري، بعمق تاريخي متميز مع المؤرخ "جاك لوغوف"J.LE GOFF ،أحد رواد التاريخ الجديد، والذي يشتهر عالميا بتخصصه كمؤرخ وسيطي، من مؤلفاته الحديثة "العصر الوسيط ،والبحث عن الزمن المقدس"(2011) و"العصر الوسيط، تفسير بالصورة"(2013) ،"هل ينبغي حقيقة تفكيك التاريخ إلى قطع؟"(2014).
أسئلة شملت موضوعات متنوعة:التاريخ وأزمنته، الحضارة والثقافة، الأديان،المدينة،الجسد،صراع الحضارات،العولمة والأفق المنظور للتاريخ الإنساني.
*لماذا تقديم سلسلة"تاريخ وحضارات"؟
هذه المجموعة،تبدو لي أنها تجيب عن ضرورة أساسية في مجال التاريخ: وضع مجموعة من المعارف الضرورية لتربية الإنسان اليوم رهن إشارة عدد من القراء، كما يظهر لي أن هذا أكثر أهمية في عدة بلدان ،منها فرنسا،حيث التاريخ اليوم في تراجع في التعليم. يتعلق الأمر بخطأ مقلق،لأن التاريخ ،سواء على المستوى الفردي والجماعي،ضروري لفهم العالم ،ولفهم دورنا في اشتغاله.
قراءة في كتاب الاحتجاج والمقاومة : في مغرب ما قبل الاستعمار (1860-1912) .. إدموند بورك ـ ذ.إبــراهيم أيت إزي
مقدمة :
توحدت أفكار الأوربيين مطلع القرن 19م، خاصة بعيد مؤتمر فيينا 1815، حول السياسة إزاء باقي العالم. اتفقوا ضمنيا على التدخل، أينما دعت الضرورة باسم الحرية. فرفعوا شعار تحرير العبيد، منع تجارة الرقيق، ووضع حد للقرصنة وحماية الجارة والتجار. ولئن فضلت أوربا التأني، قبل تطبيق سياستها في آسيا وإفريقيا الاستوائية، فإنها تدخلت مبكرا في الشمال الإفريقي المجاور لها باحتلال الجزائر سنة 1830، تدخل خلف ضغطا قويا على المغرب، بلد استفحل ضعفه الذاتي الناتج عن قرون من الاستقرار في ظل الانحطاط، ضغط بلغ ذروته سنتي 1844 و 1860. بيد أنه لم يتوقف يوما واحدا، حيث تواصلت التهديدات لكي يفتح المخزن باب البلاد على مصراعيه في وجه التجار الأوربيين.
تأخرت لحظة الحسم وطالت مأساة المغرب حد تعبير المؤرخ عبد الله العروي، بدى عبد الرحمان وبعده محمد الرابع في دور بطل المآساة الذي يخونه القدر فيخيب مسعاه رغم علو همته، ويظهر الحسن الأول في صورة بطل المبكية يتنقل بين أطراف المملكة يرمم هذا الجانب قبل أن يهدم ذاك، ثم يأتي ع العزيز وبعده ع الحفيظ ليشخصا مسرحية مضحكة مخزية حيث ينزلق المجتمع المغربي كله في هاوية لا حد لها[1]. مرحلة عصيبة أسالت الكثير من المداد وتشعبت حولها التأويلات، ومنها هذه المحاولة التي قام بها المؤرخ الأمريكي إدموند بورك III EDMUND BURKE في دراسته المعنونة بـ " الاحتجاج والمقاومة : في مغرب ما قبل الاستعمار (1860-1912) "، والتي سنحاول ملامسة بعض أفكارها وتفكيك قضايا عبر ثنايا هذه القراءة[2].