anfasseيتميز الإنتاج المعرفي في الكليات الدينية في البلاد العربية بسمات جامعة، تتلخص بالأساس في تخطّيه شبه التام أوضاعه الاجتماعية والاستعاضة عنها بخطاب هائم مفارق، لا غاص في الأرض ولا تشبّث بالسماء. حتى خلّف ذلك المنهج اغترابا لافتا بين المشتغلين في الحقل الديني، تجلّى أحد أوجهه في تردّي الدراسات بشأن المسيحية.
ولا نزعم أن الدراسة للمسيحية مفتقدة أصلا في كلية الشريعة، بل إن الظاهر أن المنهج المتّبع عقيم لا يستجيب لمستلزمات الراهن. فلم يدرك العقل الإسلامي، في ثوبه المشيخي المتدثّر بفكر الردود وبالمنظور المستند إلى مقولات أهل الذمة، أنه ما عاد قادرا على استيعاب المسيحية الراهنة، لما طرأ عليها من تحولات.
فلا أدل على وهن القدرة الإسلامية في مناقشة المسيحية، وتردي الإدراك في تبين مساراتها، من اختراق الوافد الديني للحصون الداخلية للإسلام المغاربي، وتهديد موعظة المبشّر فتاوى الشيخ. ولولا تجريم ما يسمى بالتبشير المسيحي، ومحاولة سدّ منافذ تسرّباته، وإن كان بأشكال تعيسة غوغائية، لبلغ السيل الزبى.
والجلي أن الوقائع ما كانت لتؤول إلى ما آلت إليه، لولا ضعف الفكر الإسلامي في اهتماماته بالآخر، حتى بات المفكّر يخشى المبشِّر. ففي بلاد الغرب الإسلامي، هناك غفلة تامة عن التعامل مع التراث المسيحي السابق، رغم أن المنطقة شهدت في سابق عهدها تطورات عميقة كان أبرز تجلياتها الفلسفية واللاهوتية في أعمال القديس أوغسطين ابن ثاغست، سوق هراس الجزائرية اليوم.

كان قدر لغتنا العربية أن تقف في مفترق طرق الحضارة اليوم تتجاذبها خطابات الأبناء والغرباء معا حول إمكانية سيرورتها ومكامن إسهاماتها في صناعة التاريخ تماشيا وحالة التشرذم الفكري والاغتراب الثقافي الذي خلفه الاستعمار في دولنا العربية القطرية وشعاره كان وسيظل مع الأسف تقسيم المقسم وتجزئة المجزئ.
ولا زالت المعارك بين المشككين والممكنين للعربية وفي محفل صناعة الحضارة ضارية إلى حد أن أنست بعض معارك الأرض والجغرافيا في قدسية القدس حتى! مما يدلل بوضوح على مركزية الإشكال اللغوي وقدسيته في العقل العربي المستنير كقدسية العرض والدين.
الأستاذ الدكتور عبد الكاظم العبودي أحد جنود العربية في معركة فتح مجال التقانة أمام لغة الضاد يحدثنا عن سخافات المشككين في تكنولوجية اللسان العربي عبر التاريخ مشيرا إلى مكامن الضعف في إشكال الاستيعاب اللغوي للتقانة والتي يلخصها في مؤامرات الدخل والخارج معا ليس إلا. 
ـ الأستاذ الدكتور عبد الكاظم العبودي هل لازالت جهود تعريب المصطلح العلمي في البلاد العربية فردية وتتم بمعزل عن الجهد الجمعي المؤسس ؟
ـ رغم وجود مؤسسات وطنية وقومية في الأقطار العربية، كالمجامع اللغوية والمجالس العليا المتخصصة والمهتمة بقضايا اللغة العربية وبالبحث اللغوي والاصطلاحي، إلا أن غياب إرادات وطنية وقومية جماعية وفاعلة، يبقى سائدا، ولا يتكفل بالتنفيذ والمتابعة والالتزام بالاستخدام للمتفق عليه قوميا من مصطلحات علمية، وتعميم  ما يترجم أو يوضع أو ينحت من المصطلحات الجديدة .
كل ذلك كرس، وسيكرس حالة من الفوضى الاصطلاحية، مصحوبة بالتشتت الفكري واللغوي الاصطلاحي، كالحالة التي نعيشها، وهو ما ينعكس، كنتيجة منطقية على مستوى النشر العلمي أو البحث اللغوي الاصطلاحي واللساني ويعرقل الجهد الترجمي، وبالتالي سيؤثر سلبا على التدريس الجامعي عموما بكل اختصاصاته سواء اللغوية والإنسانية منها أوالعلميةـ التطبيقية.

PAYS_23على نهج المقالات السابقة حول " التنمية الضائعة  : أين نحن من الحداثة " سنظل دائما نطرح السؤال الذي يؤرقنا  . لماذا تخلفنا نحن وتقدم الآخرون ؟
إن تطور الرأسمالية منذ القرن 15 م – على أنقاض الفيودالية – وإزدهارها  الإقتصادي (  الرأسمالية التجارية ،الثورات الصناعية ،الإمبريالية....) والإجتماعي ( نمو البرجوزية كطبقة مهيمنة تدريجيا..) والفكري ( الحركة الإنسية ، فكر الأنوار ...)والسياسي ( نشوء الدولة الإمة الحديثة وترسيخ مبادىء الديموقراطية ...) كرس إختلال التوازن بين أوربا والقوى الرأسمالية الصاعدة - الولايات المتحدة  واليابان – من جهة وباقي العالم من جهة أخرى . هذا الإختلال في التوازن تحول بشكل منظم ومخطط له إلى مواجهة تنوعت مظاهرها وأساليبها ، مواجهة حتمية إنتهت بالسيطرة من جانب  والخضوع من جانب أخر .
كان من الطبيعي أن تنتهي هذه المواجهة بمنتصر ( سيشكل المركز ) يفرض شروطه وينظم المجال العالمي حسب مصالحه ، وسيعمل على تغيير أساليب سيطرته تبعا للظروف والتحولات الحاصلة ، ومنهزم ( سيشكل الهامش ) فشل في الخروج من  السيطرة وتحقيق الإستقلالية  ( فشل المحاولات الإصلاحية أو محدوديتها في العالم العربي ) . هكذا أصبحت ثنائية التخلف / التقدم ، السيطرة / الخضوع ، النجاح /الفشل ...هي التي تؤطر علاقة عالمنا العربي التقليدي بالعالم الرأسمالي الحديث .
هذه الثنائية ( التقليد /الحداثة ) لم تعد تقتصر على مواجهة الخارج بل أصبحت واقعا داخليا يكرس  إزدواجية تعيق التقدم أكثر مما تفيده ، بل تعيق حتى التأخر للإنطلاق من جديد ( تعليم حديث وآخر عتيق ،صناعة حديثة وأخرى تقليدية ،علاقات إجتماعية تقليدية وأخرى متحررة...
وإذا صح الحديث عن الخطأ التاريخي ، فإننا في العالم العربي قد إرتكبنا خطأ مركبا ، إما بإرادتنا أو كنا مرغمين على إرتكابه  :
- سوء إختيارنا لأدوات وأساليب مواجهة صدمة الحداثة /إختلال التوازن ، فكانت النتيجة الخضوع السياسي ( الإستعمار) والتبعية الإقتصادية والثقافية ...
- عدم وعينا بتخلفنا ( وعيا تارخيا ) لأن الوعي بالشىء شرطا من شروط مواجهته .
في هذه المقالة سنطرح سؤالين جوهريين ( في إعتقادي ) :

35المقدمة
في الاغوار البعيدة من تاريخ البشرية .. ومنذ انبثقت الانسانية الجماعية .. من خلال علاقات وروابط مشتركة تجمع بين مجموعة افراد .. فأن هذه العلاقات التي تكونت تحقيقاً لمتطلبات الفطرة والطبيعة .. كانت بأمس الحاجة الى توجيه وتنظيم .. وكلما حقق هذا التنظيم انسجاماً مع الواقع الانساني ومصالحه كلما تحقق استقرار المجتمع وسعادته .
وقد رافق نضال الانسان وجهاده من اجل البناء الاجتماعي وهندسته الكثير من التضحيات وكان جهاد الانسان مرهقاً يضج بالمآسي ويعج بالمظالم ولولا ومضات برقت في لحظات من التاريخ لصح القول بأن التاريخ البشري عبارة عن سلسلة مترابطة من الكوارث والمآسي والامواج المتلاطمة .
لسنا بصدد استعراض تاريخ الجهاد الانساني في الميدان الاجتماعي .. لكننا نريد ان نواكب الانسانية في واقعها الحاضر .. لنتعرض الغاية التي انتهى اليها الشوط الانساني .. ولاسيما النظر الى النظام الرأسمالي الذي هو أساس الحكم في الشطر الاعظم من المعمورة بعد ان انسحب النظام الشيوعي من الساحة خائباً يجر اذيال الهزيمة والخسران .. مما مهد السبيل الى النظام الرأسمالي ليفرض هيمنته على العالم خاصة بعد ان اصبحت امريكا قطب القوة المتفرد في العالم والتي تعمل جاهدة لفرض هيمنتها على العالم من خلال ترسيخ القيم الرأسمالية وزرعها في كل بقع الارض وتأطيرها وفق النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي تفهمه وتريده امريكا كقوة طاغية متجبرة توظف أعلى حلقات العلم الذي تمتلكه لتنفيذ مآربها الدنيئة .

الرأسمالية والديمقراطية

يمكن القول ان النظام الرأسمالي الذي أعقب عصر النهضة قد قام على أنقاض الانظمة الدكتاتورية وجمود الكنيسة اللاهوتي .. تلك الانظمة السياسية والفكرية البالية التي لا تكترث بالفرد ، وتطمس مصالحه ولا تعير أي اهتمام لدوافعه الذاتية .. في حين قامت الديمقراطية الرأسمالية على الايمان بالفرد واعتبرت ضمان مصالحه تحقيقاً لمصلحة المجتمع .. وان ركائزها تقوم  على اساس الحريات الاربع : السياسية ، الاقتصادية ، الفكرية والشخصية .

 anfasseتبلور الخطاب الفكري في عصر النهضة في خضم الصراع بين تيارات مختلفة، تحاول تأصيل أفكارها من أجل  تجاوز الأزمة الحضارية. فلقد برزت مجموعة مـن التيارات التي تنادي باعتناق الـفكر الغربي كأساس منهجي علمي، يساعد العقل العربي على تخطي أزماته الفــــــكرية واللحاق بــركب الــــحضارة العالمية ،وهناك  مـــن رفض هذا الفكر وحاول الرجوع إلى التراث، باعتباره القاعدة الأساس التي من خلالها نستطيع الحفاظ على الهــــوية العربية ،أما التيار التوفيقي فـقد نادى بضرورة التـوفيق بين الفكر الغـربي و الموروث العربي لضمان التحديث والسير بالفكر العربي في مسار الـتقدم و العلمية ،  وقد انقسمت الساحة النقدية والفكرية إلى :
         تيار علمي علماني وتيار سلفي، يتجاذبان العقل العربي و يحاولان صياغة الخطاب الفكري العام صياغة إيديولوجية في أغلب الأحيان، فالتيار العلماني يـدعو إلى اعتناق الفكر الغربي  و نبذ التراث الذي أصبح في نظرهم قاصرا عن احتواء الإشكاليات الفكرية الراهنة، أما التيار الإصلاحي فقد رأى في التراث العربي ضالته،لأنه يحمل من الفكر الحداثي العربي ما يماثل الفكر الغربي، لــــذلك دعو إلى تبنيه . ومن هــــذا المنطلق عرفت الثقافة العربية الحديثة مجموعة مـن المفكرين و الــنقاد الذين  حاولوا بلورة الخطاب الثقافي العام من منطق فكري و منهجي ، حيث شكل التراث القاسم المعرفي المشترك بينهم.
         وقد  تعددت آراؤهم واختلفت مناهجهم، فمنهم  من درس التراث من منطلق عقلاني ، محاولا تغيير نمطية الدراسات الفكرية وإخراج الإرث الثقافي من دائرة الاستهلاك والاجترارية، ويعتبر محمد عابد  الجابري من  أهم  المفكرين  الذين نادوا  بهـــذه  الفكرة ، كـــما نادى آخرون  بضرورة  التخلص من  الفكر الاستشراقي  و إعادة  صياغة الموقف الفكري  الـــــراهن  انطلاقا من إعادة استيعاب الذات  العربية و جعلها المدار الأساس في الدراسة، و قد حــمل محمد أركــون  لواء هذه  الفكرة ،أما  نصر حامد  أبو زيد وحسن  حنفي فـقد  حاولا  إعادة تأويل الـنص الـديني ، و الخطاب الديني  من  منطلق تاريخي ، و على أسس مختلفة.

12.jpgإنّ لِمسألة اللغة والتقدم وجهين، وجهٌ ظاهر ووجهٌ خفيّ.
الوجه الظاهر:
- إنّ من لا يتقن لغته لا يقدر أن يعبّر عن نفسه ويتواصل مع الآخرين المنتمين إلى نفس المجتمع أو إلى نفس الثقافة.
- إنّ من لا يتقن اللغات الأجنبية، والانكليزية على رأسها، خاصة في أوساط الشبان،  لا يمكن أن يتواصل مع الآخر المنتمي إلى ثقافة أخرى، وبالتالي لا يمكن أن يحصل التثاقف المنشود بينه وبين ذلك الآخر.
- إنّ من لا يتقن اللغات الأجنبية وبالخصوص الانكليزية لن يقدر على مواكبة العلوم والتكنولوجيا، وهي أدوات للتقدّم بامتياز.
- إنّ اللغة العربية ليست مستعملة الآن كلغة للعلوم.
الوجه الخفيّ:
1.اللغة والفكر
أ- ليست اللغة فقط أداة تواصل فهي فكر أيضا. وقد بدأ منذ الفرن الـ18 التفكير في أنّ اللغة ليست فقط أداة تواصل، بل هي مواقف وأحاسيس وفكر، وذلك قبل مجيء فردينند دي سوسير في أواخر القرن 19 وبداية الـ20 ليؤسس علم الألسنيات، وهو علم اللغات المسمّى أيضا اللسانيات أو اللغويات، وقبل أن يأتي، في النصف الثاني من القرن الـ20 الأمريكي نعوم تشومسكي ليحدث ثورة في علم اللغات بفضل نظرية "النحو التوليدي والتحويلي" المرتبطة بمفهوم "النحو الكلي".
ب- ثم إذا قسمنا الفكر إلى جزأين بحكم أهميته في حياتنا كعرب ومسلمين تواقين  إلى التقدم أي إلى الاستقلالية العلمية ستجد اللغة معبرة عن العلم من جهة وعن الدين من جهة ثانية.

souhaila.jpgالإسلام الإيطالي
رحلة في وقائع الديانة الثانية
تأليف: ستيفانو ألِيافي
ترجمة: عزالدين عناية و عدنان علي
عدد الصفحات: 279
الناشر: "كلمة" أبو ظبي و "معهد الشرق كارلو ألفونسو نالينو" روما - 2010.


أقدّر أن المسلمين في إيطاليا مجهولون لدى العرب، رغم وفرة عددهم وقربهم من بلاد المغرب، فقد أسقطهم الإعلام العربي من اهتماماته، والأمر متأت لكون غالبيتهم عمّال، يكدحون في سبيل الرغيف ولا يبالون بمصدح الإعلام. غير أنّ نصّ عالم الاجتماع الإيطالي ستيفانو أليافي المدرّس بجامعة بادوفا، بترجمة التونسي عزالدين عناية والعراقي عدنان علي، أتى قطعا مع ذلك الإهمال. فالكتاب كما يبين عنوانه رحلة في واقع المهمّشين والمجهولين، رحلة ثرية ومثيرة في الآن.
فقد بلغت أعداد المسلمين في إيطاليا، ضمن الإحصائيات الأخيرة الواردة في التقرير السنوي الصادر سنة 2010 عن منظّمة "الكاريتاس"، والتابعة لحاضرة الفاتيكان، مليونا وثلاثمائة ألف. ويحمل أكثر من مائة ألف منهم الجنسية الإيطالية، ويضاف إليهم أعداد المهتدين الإيطاليين إلى الإسلام. يأتي في مقدّمة المهاجرين المسلمين المغاربةَ، بما يناهز نصف المليون، ثم يليهم التونسيون، بأكثر من مائة وخمسين ألفا، ثم المصريون، بما يناهز مائة ألف، فضلاً عن تجمّعات أخرى من عديد البلدان الإسلامية. وهي كتلة بشرية هامة، تعادل ثلث مجموع المهاجرين عامة، و2،5 بالمائة من مجموع الإيطاليين. بيد أن هذا الحضور تتخلّله هنات عدّة، بدءاً من تدنّي المشاركة إلى محدودية التنظيم. وتتأتّى تلك المساوئ لا من إنتاج ذلك التكتّل وحده، بل أيضا جرّاء محدودية استراتيجية الاستيعاب والدمج في المجتمع المضيف، نظرا لجدّة تقاليد التعامل مع الهجرة عموماً، في الأوساط الرسمية الإيطالية. فقد تتوفّر إرادة الاندماج لدى المسلم غير أنها تتقابل ونوايا تأجيل للدمج، إن لم نقل صدّاً له أو تعطيلا، تحت مبررات وتخوّفات مختلفة.
وثمة بالتوازي ذاكرة مثقلة بوطأة التاريخ، وبهواجس الحاضر، تجاه المسلمين، يغذّيها توجّس من قبل وسائل الإعلام الإيطالية، وعدم إقدام الوافدين لخوض مُثاقَفة فعلية مع مجتمع الأهليين، وهو ما خلّف أحيانا إعادة انتاج واستهلاك لوقائع بلدان المأْتى.

langue_arabe.jpgليست مقاومة التخلّف اللغوي هي التعريب. بل من المؤمّل أن يكون التعريب نتيجية طبيعية لنجاح المقاومة اللغوية. وأعني بالتخلف اللغوي عدم اكتساب العقل العربي للقدرة على ضمان استقلالية اللغات المستعملة اليوم، الواحدة عن الأخرى، بما في ذلك لغة الضاد. كما أعني بالتخلف اللغوي عجز نفس العقل عن تغذية اللغة العربية الفصحى (أو الفصيحة) بقيم ومفاهيم العصر حتّى تصبح بكل فخر واعتزاز وعن طواعية اللغة الأم بالفعل وليس على الورق كما هي موصوفة الآن. كما أقصد بالتخلف اللغوي هيمنة اللهجات العامية على مجالات التعبير والإنتاج الرمزي الناجح من دون أن يقع التفكير في وضع استراتيجية لتحويل تلك الهيمنة وذلك النجاح من المستوى العامي إلى المستوى الفصيح.
 وقد بينتُ في دراسة سابقة (1) كيف أنّ مستعملي اللغات من العرب لا يُتقنون لا اللغة العربية ولا اللغات الأجنبية، وخلصتُ إلى القول إنّ ذلك ناتج عن خلط رهيب بين الأنماط اللغوية وبالتالي إلى عدم احترام كيان كل لغة على حِدة.
وما لا حظتُه في مجال اللغة أُلاحظُه أيضا في مجال السياسة. فالمشهد الإيديولوجي السياسي الذي ساد  في المجتمع العربي منذ حقبة الاستقلال القُطري تقريبا يكاد يكون نسخة مطابقة للمشهد اللغوي. وهو ما حذا بي إلى التأكد من أنّ الشيء جاء من مأتاه فعلا، وبالتالي فهو لا يُستغرب.
لقد جرّبنا نحن العرب عدّة "لُغات" إيديولوجية ولَم نُعطِ أية واحدة قدرها من الصيانة والاستقلالية. بل اكتَفينا بنقلها نَقلا ولم نُوظفْها في التربة الثقافية الذاتية ابتغاء استخراج نموذج أو نماذج من عملية اللقاح والتفاعل بينها من جهة وبين المخزون الثقافي من جهة ثانية . جرّبنا القومية فأفلحنا، لكن إلى حدٍّ ما و إلى حين. وجرّبنا الاشتراكية لكنها لم تتلاءم مع ثقافتنا الذاتية. انخرطنا في الشعبويّة لكنّها لم تفِ بالحاجة إلى الوحدة العربية، وإنّما خدمت مصالح القوى العظمى في أن لا ينافسها أحد في العظمة. ثمّ استقرّ رأي نخبنا على العلمانية إلى درجة أنك ترى اليوم العديد من رموز اليسار السياسي العلماني تتبوّأ، ومنذ أواخر السبعينات من القرن الماضي، مكانة هامة في أجهزة الحكم المعاصرة لمعظم بلداننا. ولكن ها أنّ كثيرا من العرب والمسلمين اليوم، ومنذ أن صعد العلمانيون على سدة الحكم، يمتطون صهوة الإسلامية، غير مُعجبين ولا راضين بما آلت إليه اختيارات النخب القُطرية.