لم يعد السؤال الفلسفي في اللحظة الحديثة يستمد إحداثياته من الكوسموس كما في الفلسفة القبل-السقراطية، ولا من الممارسات الخطابية في المدينة اليونانية مع سقراط والسوفسطائية، ولا من المرجعية الدينية- الأرسطية المهيمنة في الحقبة القروسطية. بل ارتد مع ديكارت إلى الذات المفكرة نفسها، فقد أضحى فعل التفلسف جوهرا ذاتيا، حين يسأل الفيلسوف عن هذا الذي يقيم داخله، والكوجيطو شهادة على أن التفلسف جوهره الإقامة في عقلنا أولا، فداخل الإنسان يقيم السؤال الفلسفي ومنه يبدأ؛ إنها الذاتية كسمة مؤسسة للراهن الحداثي، وبتعبير هيجل، إننا "ندخل- مع ديكارت- إلى فلسفة مستقلة بالمعنى المحدد... هاهنا يمكننا أن نقول أننا في بيتنا، ونستطيع، مثلنا في ذلك مثل بحار خاض غمار بحر هائج، أن نصرح معلنين:" اليابسة" إن هذه الصورة التي يقدمها هيجل عن ديكارت يشرحها هايدغر بقوله: إن "أنا أفكر أنا موجود" هي الأرض الصلبة، التي لا يمكن للفلسفة في حقيقتها وامتلائها أن تستقر عليها. فالأنا تصبح في فلسفة ديكارت هي الذات التي تضع لكل شيء مقياسه" [1]
تنبه ديكارت أنه يشك في كل شيء، لذلك فهو كائن مفكر وإذا افترضنا نقيض هذه القضية أنا لا أفكر، فإن القول أنا لا أفكر قول ينكر نفسه بنفسه. لأن من يقول أنا لا أفكر إنما يقرر شيئا ما أو أمرا ما هو في الحقيقة نوع من التفكير. يحدد الإنسان بفكره لا بجسمه، فالعقل جوهر ماهيته الفكر والجسم جوهر ماهيته الامتداد، وبهذا يقر ديكارت بثنائية الفكر/ الامتداد، لكن كيف يلتقي الجوهران في الإنسان رغم اختلاف طبيعتهما؟ وبصيغة أخرى، كيف يمكن لهذين الجوهرين المتمايزين في ماهيتهما، أن يتحدا في كل واحد لا انفصام فيه بينهما إلا عند الموت؟ إذا كانت النفس تؤلف والبدن جوهرين متغايرين، فكيف يمكن أن يتفاعلا، ويسلك البدن سلوكا يوحي بتحكم النفس/ الذهن به؟
يقول ديكارت:" إنني لست مقيما في جسمي كما يقيم البحار في سفينة، ولكنني فوق ذلك متصل به اتصالا وثيقا ومختلطا معه، بحيث أؤلف معه وحدة منفردة. إذ لو لم يكن الأمر كذلك، فما كنت لأشعر بألم إذا أصيب بدني بجرح، وأنا الذي ليس إلا شيئا مفكرا، ولكني أدرك ذلك الجرح بالذهن وحده، كما يدرك البحار بنظرة أي عطب في السفينة".[2] ( الغدة الصنوبرية).*