انفاسيأتى فى حلته الزرقاء الداكنة.. وشعره الابيض المتطاير أسفل قبعته . عيناه تميلان الى الزرقة والعرق دائما على جبهته صباحا أو مساء
اسلاك دراجته الذهبية تدور تنتقل من الشمس الى الظل ومن الليل الى النهار . لا تشعر انه يتوقف ابدا .. يدور .. ويدور
البحر ليس كأى بحر .. ربما لأن الورود الحمراء تساقطت عليه الصيف الفائت , ربما لأن الطيور البيضاء ملأته يوما عن أخره حتى انك لا ترى شيئا غيرها .. ربما لانهم قالوا أن جنية البحر نثرت حبات الملح فوق الغرقى ثم ملأت اجسادهم بالعطر .. ربما .. ربما .

يوم ان اتى العجوز سألته عن البحر ... قال:

الموت سر والبحر سر ونجمة السماء التى لمعت على وجه الطفل الذى مات منذ قليل .. غابت ولم تعد .

انفاسحزناً و جزعاً
على موتها أغني ..
وميض خاطف يلفني ، يحاصرني ، يكاد يسقطني أرضاً ، يخنقني ، طيف لسماوات عظام يظللني ، يخطفني بعيداً و جسدي يرتشف غيوم المكان ، ضجيج يعمر الصالة التي انحني في جذعها ، جلبة نساء فاجرات تضرب جدران رأسي ، همهمة لفتيات يافعات في انتظار الرقص على تهاويم الميت ..
في صباي كنت ساذجاً كما أنا الآن ، لكنني اللحظة أشد من ذي قبل ، لم أدر كيف أفعل في هذا الحصار ؟ فلم تكن الجلبة وحدها التي تخنقني ، بل صوت أخواتي من حولي أيضاً ، و زوجتي التي تجلس بقربي هنا ، ساعة كئيبة هذه التي تزورني . اليوم بت مدركاً أنه عام الحزن و الجزع .
Read More

و على موتها أغني ..

في الصالة ازدادت حدة الهمس و الصفير ، ازداد الفزع و الخوف ، بدأ الصوت يأخذ ارتفاعاً شاهقاً كأعمدة النور باسقة ، وقفت النساء واحدة تلو الأخرى للرقص على جسدي الميت ، و عبر شقوق الألم أنتصب تائهاً ، أبكي فزعاً على موتها ، أصرخ علّني أتيه في ومضة وجهها الغجري .

انفاستوقفت مرتين على الجسر متثاقلة، قبل الوقوف الأخير في وسطه.. وبذا تكون هذه النقطة هي الأبعد عن مياه النهر فتسهل مهمتها القاسية.. والأبعد في الوقت نفسه عن الشاطئين لتضاف سهولة أخرى.. ولكن!. كيف سيواجه أشقائها عامة الناس؟.. ويواجهوا الأصدقاء؟ لا سيما أن أعداداً من سكان الديوانية قد نزحت إليها من القرى والأرياف.. ولو ـ لعنت الشيطان ـ وعادت بخفي حنين إلى المدينة، كيف ستواجه الأم التي طالما حذرتها منه؟ إذ هي على دراية أن السفر هاجسه بقصد الدراسة أو الإقامة أو ما يبرر له هذا.. عدا أن الكثير من شباب الحي يمني النفس بها، وهي لن تمني النفس إلا به، لذا لقبتها أمها ـ إكحيلة ـ عن استحقاق.

فبعد مضيها لبعض الوقت في غرفته تنهض لتضع لمساتها على جميع مقتنيات الدار ولوازمه، لم تدع صحناً أو قطعة ملابس إلا وغسلتها وتحديداً ملابس أمه.. التي أحبتها بصدق.. والحق، إنها كانت كحمامة بيضاء هادئة ووديعة.. كغزال بري في لفتاته. كثيراً ما أضافت إلى المنزل هالة رائعة بتشكيلات ملابسها وتسريحات شعرها. كان الشريط الأسود بعرض اصبعين يطوق جيدها ويضفي عليها الكثير.. كانت واثقة الخطى في المنزل.. وواثقة منه تماماً، فعما قريب ستأتي رسمياً إلى الدار، وبذا تلقم الأفواه الممطوطة الشفاه هزءاً بحجر.. فأمها حين امتثلت لإرادتها، قالت ذات صباح:ـ إنها كفيلة بإسكات أشقائها.

انفاسوسط شجيرات التين الوارفة ـ المتهللة بإشراق خضرة مبكرة عند مقتبل صيف، لتبدأ فاكهة التين تنضج رويداً رويداً ـ  ينتصب الكُتّاب ببياضه الناصع وعلَمه الأبيض المهمل كضريح قديم، ومن شق بابه الواسع تنبعث رائحة (السمق). كل صباح يقصده اثنا عشر طالباً ـ تختلف أعمارهم ـ حثيثي المشية، وفور وصولهم يقبلون رأس الفقيه بهدوء وكأنهم يتلذذون نسائم شعره، ثم يعزلون ألواحهم المركونة في الزاوية الخلفية.. وأخيراً يصطفون جلوساً على الأرض لا يفصلهم عنها سوى حصير بال قد قضمته الأرضة. وبعدها ينتظرون الإشارة من فقيههم:

ـ إيـوا تـقـرا..

فتتناسل أصواتهم لتغالب الريح وتصل أقصى ربوة في القبيلة، ولم تكن زوابع الضجيج لتقلق الفقيه، بل كانت تشعره بالزهو حتى لا يتهمه أعيان القبيلة بالكسل، ومع ذلك كان (المختار) يميز أخطاءهم وينبههم واحداً واحداً دون أن يحول نظره عن موضع الإبرة التي يخيط بها جلباب الصوف.. هذا الشاب الأنيق الذي أتاهم من قبائل دكالة، شغفهم حباً منذ البداية، فشكله محبب لديهم ولا يعنفهم كالفقيه السابق (الغياث) الذي ضُبط متلبساً في علاقة غير شرعية مع أرملة.. كما كان يصنع طلاسم الجلب للنساء، فلحقه غضب القبيلة وطرد ملعوناً من رحمتها. السيد المختار ليس كباقي من توالى على هذا الكُتاب من فقهاء، فهو يتقرب من (المحضرة) ويوزع عليهم الحلوى وكؤوس الشاي وأرغفة (المسمن)، يوزع على تلاميذه كل ما تحمله إليه نساء القبيلة. وكان كلما قدم تلميذ جديد يخربش على راحة يده اليمنى بضعة كلمات ثم يأمره ببلعها، فما أن يفعل ذلك حتى يحفظ كل يوم لوحة ويمحوها. نال المختار مكانة كبيرة في قلوب الجميع، وسحر ألباب بنات القبيلة بوسامته وعذوبة صوته الذي يتسلل كل فجر إلى الربى وهو يتغنى بآيات الرحمن. وكانت السعدية أقرب فتاة إلى الكُتاب؛ كل صباح تعد فطوراً شهياً، تضعه في قفة مصنوعة من شجر الدوم ثم تقصد الكُتاب، تدخل دون أن تستأذن، تضع الزاد، وقبل أن تغادر تختلس نظرات بريئة إلى وجه المختار وهو منهمك بمداعبة الإبرة. وظل غرامها به يكبر دون أن يسمح لها كبرياؤها بالبوح له على الرغم من أنها كانت تجده لوحده أحياناً في غياب (المحضرة). كتمت سرها في جسدها وفضلت احتراق أشواقها، مكتفية بالنظر إليه عن بعد وهو يغادر الكُتاب، أو الاستمتاع بصوته وهو يغرد كالشحرور.. ودفعها اهتمامها إلى الإكثار من أسئلتها لأخيها التلميذ عن كيفية تعامله معهم وسلوكياته، فزادها ذلك تعلقاً به. وعند تسامرها مع بنات القرية في أغانيهن الليلية ويتجاذبن أطراف الحديث عن ساحر عقولهن، تغيّر السعدية الموضوع خيفة افتضاح سرها، أو غيرة على عشقها، مما يجعلها تغادر قبل متم السهرة.

من أنت أيها الصاحب الفريد.. يا مدى المجهول وشقيق المغامرة؟.. أيها البحر طالعاً من دفـاتر المهاجرين، مـن أنت مـن أنت..؟.. حامت الأسئلة تترى في الليل البحري الطويل.. والرجل النحيل الصامت يواكب موجاً يتلاطم والفنار الوحيد يلوح واهناً بعيداً يتدفق الليل الخريفي ثقيلاً هامدا ًوالرجل يتوسد حقيبته صغيرة وبقـايا دراهم عليه أن يسـددها لمن سيحمله في زورق الليـل مهـاجرا إلى المجهول.. صفقة يعرف أبعادها جيداً وفحواها انه لـن يعود.. لـن يعود.. فالبحر وخباياه تحمل نذر اللا عودة.. وكل أولئك العابرين سيحملون تابـوت الوقت معهم.. إذ قد يداهمهم حـرس السواحل فيتهاوى زورق الغرباء إلى القاع.


يا نذير الراحلين، يا أصدقاء الوهج القديم من هؤلاء.. ومن أولئك.. ماذا بقي منهم، قلبوا مشاهد الرحيل الطويل عبر البوابات والعسس والغرباء، قلبوا أوراقه وتفرسوا في ملامحه وسألوه مرارا لأنه كان قد ألغى قصائد الترحال، واجل جنون المغامرة إذ سقته السلطات علماً جعله يواكب ولا يمضي ويكتم ولا يركب موجة التعبير عن مكنونات روحه.. روحه الوحيدة الأسيـرة، التـي تمردت على ثـلة المعاصرين الـذين حاؤه بأمـواج الحداثة وتفرقوا فجـأة بلا مـلاذ.

انفاس  منذ عدة أيام لاحظ بعض رواد القاعة بأن عدد الحضور يتناقص حتى تحول إلى أقل من النصف. قال البعض بأن السبب هو رداءة المواضيع التي تقدم للجمهورالذي ضجر من حالـة اللاجديد. ورأى البعض بأن فصـل الصيف الشديد الحرارة هو السبب.ونظر البعض الآخر بأن حالة الفقـر التي أتت على البلاد هي التي جعلت الأهالي لا يفكرون إلا بتأمين لقمة العيش. لأن حضور الأنشطة الثقافية يعد من الثانويات ومن الأمور الترفيهية التي يقضي بها المرء وقت فراغه في متعة ثقافية. بعد انتهاء النشاط الثقافي الأخير الذي حضره فقط تسعة أشخاص سار السيد عارف مع صديقين له نحو قلب المدينة وقال: كل الكلام الذي قيل كان فارغا.


من السخافة أن نعيد السبب إلى رداءة المواضيع لأن الجمهور لا يعلم مسبقا ما سيسمع. وحتى الكاتب الرديء يظهر أحيانا بكتابات جيدة وجريئة وهو في أحضان رداءته. وأما المضحك أن نعيد السبب إلى الصيف لأن كل سنة فيها صيف. وقاعتنا مكيفة ومغرية للجلوس فيها ساعات طويلة. وما هو مثار السخرية أن نعيد السبب إلى الفقر. فالقاعة لا تقبض من أحد اشتراكا ولا رسما للدخول. وأي شخص في العالم يجد ساعة واحدة في المساء يمضيها لمتعته الشخصية.

انفاسكلانا وحيد: أنتِ ترقدين بعيداً عن الضوضاء، فيما المطرقات تحطم أغصان ذاكرتي، أنت ترقدين تحت التراب وأنا أرقد تحت جبل من الحروب. ليس لديك ما يحلم به أحد، وأنا من حولي العواصف التي تهز أبواب قلبي. أمنياتك تكاملت وأنا لا أحد يدعني لأتمنى. فلم لا نتبادل الأدوار، أيتها الغائبة، بعض الوقت، ونجرب، ان الذي لا يحلم، هو أكثر فأكثر مسرة فريدة. أنتِ تنظرين لي، فيما أنا أعمى. أنتِ تتحركين داخل مملكة السكون، وأنا ساكن في كون يعج بالصخب ودقات الساعات التالفات. أنت لا تكبرين.. وأنا، في كل دقة ريح على الشبابيك، أرتفع نحو الهاوية. أنتِ لا ترتكبين الأخطاء، أبداً، بينما أنا على العكس منك، لا أعرف من يلوث الآخر، الهواء أم أنا. أنت لا حروب وأنا بلا سلام. فلماذا، للحظات، لا نتبادل الأدوار. أنت غاضبة على شيء، وأنا الأشياء كلها غاضبة علي. أنت لا تبحثين عن مأوى، وأنا طردوني من كوخي.

فمن منا أجدر بالرثاء، يا من كنت، قبل قليل، تقاسميني رغيف الريح، وعواء الجدران وخرائب المدن.؟

انفاسلمعان باهت ولّده امتزاج الملح والرمل مع العرق المنداح حول العنق، مسح جبينه بكم القميص المخطط، ووجد نفسه خارج الحفرة بعد أن سمع: اعطني يدك يا صبّار، لقد تعبت. ومرة بعد أخرى، كانوا يتناوبون السقوط في الحفرة بعد السحب، وأصوات المعاول تغزو الرأس وهي تحتك بالأحجار، الأحجار المنتصبة في الأرض على شكل علامات دالّه، أسند رأسه عليها، فأبصر القادمون على شكل خيط ملتو، ملتو لأنه يشبه مكحول، مكحول الممتد أمامه مثل مسبحة، رأسها في الشمال، أطلال قلعة لأسلاف مضوا، ويحضن جسدها لفيف قرى ـ متناثرة ـ لا يفصلها عنه سوى دجلة وجذوع أشجار فضيّة. صعّد من وتيرة زفيره في محاولة لطرد التعب إلى الخارج، فامتزجت أمامه مجموعة من الصور: القادمون على شكل خيط، خيط الحذاء المعقود على شكل فراشة، الفراشة التي طارت عندما أزاح الأشواك عن باب الخندق منذ عام تقريباً. أقول(تقريباً) لوجود مثل هذه الأعوام دائماً!!.


الخندق الملتوي إلى اليمين ثم إلى اليسار، ثم سواد، سواد في وضح النهار رحلة في وجه زنجي أو شعر سعاد!! فتمنى لو أنه بومة!. العيون تتسع لطرد الخوف، الخوف القادم من المفاجئة، المفاجئة التي تتوقعها لدى دخولك لجحر لم يتشرف يوماً بالوقوف في حضرة الشمس منذ اكثر من عقدين من السنين، قصيرة مثل حلم وطويلة مثل كابوس. عفونة، رائحة براز، صوف مهضوم، والقلب ينقر أعلى الصدر فأحس (بالهضيمة). تتصلب اليد بشكل مخيف للدفاع عن النفس ضد أي ظفر أو ناب. فكّر، ملابسي سميكة لا يمكن تمزيقها بسهولة قبل وصول خليل، ثم إن حذائي قوي، وإذا تعقدت الأمور سأستخدم أسناني، فسمع الصرير، صرير أسنانه لا صرير الباب لأنه ليس ثمة باب بالمعنى الفيزياوي إنما هي فتحة في الأرض، جحر أرنب.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة