وسط شجيرات التين الوارفة ـ المتهللة بإشراق خضرة مبكرة عند مقتبل صيف، لتبدأ فاكهة التين تنضج رويداً رويداً ـ ينتصب الكُتّاب ببياضه الناصع وعلَمه الأبيض المهمل كضريح قديم، ومن شق بابه الواسع تنبعث رائحة (السمق). كل صباح يقصده اثنا عشر طالباً ـ تختلف أعمارهم ـ حثيثي المشية، وفور وصولهم يقبلون رأس الفقيه بهدوء وكأنهم يتلذذون نسائم شعره، ثم يعزلون ألواحهم المركونة في الزاوية الخلفية.. وأخيراً يصطفون جلوساً على الأرض لا يفصلهم عنها سوى حصير بال قد قضمته الأرضة. وبعدها ينتظرون الإشارة من فقيههم:
ـ إيـوا تـقـرا..
فتتناسل أصواتهم لتغالب الريح وتصل أقصى ربوة في القبيلة، ولم تكن زوابع الضجيج لتقلق الفقيه، بل كانت تشعره بالزهو حتى لا يتهمه أعيان القبيلة بالكسل، ومع ذلك كان (المختار) يميز أخطاءهم وينبههم واحداً واحداً دون أن يحول نظره عن موضع الإبرة التي يخيط بها جلباب الصوف.. هذا الشاب الأنيق الذي أتاهم من قبائل دكالة، شغفهم حباً منذ البداية، فشكله محبب لديهم ولا يعنفهم كالفقيه السابق (الغياث) الذي ضُبط متلبساً في علاقة غير شرعية مع أرملة.. كما كان يصنع طلاسم الجلب للنساء، فلحقه غضب القبيلة وطرد ملعوناً من رحمتها. السيد المختار ليس كباقي من توالى على هذا الكُتاب من فقهاء، فهو يتقرب من (المحضرة) ويوزع عليهم الحلوى وكؤوس الشاي وأرغفة (المسمن)، يوزع على تلاميذه كل ما تحمله إليه نساء القبيلة. وكان كلما قدم تلميذ جديد يخربش على راحة يده اليمنى بضعة كلمات ثم يأمره ببلعها، فما أن يفعل ذلك حتى يحفظ كل يوم لوحة ويمحوها. نال المختار مكانة كبيرة في قلوب الجميع، وسحر ألباب بنات القبيلة بوسامته وعذوبة صوته الذي يتسلل كل فجر إلى الربى وهو يتغنى بآيات الرحمن. وكانت السعدية أقرب فتاة إلى الكُتاب؛ كل صباح تعد فطوراً شهياً، تضعه في قفة مصنوعة من شجر الدوم ثم تقصد الكُتاب، تدخل دون أن تستأذن، تضع الزاد، وقبل أن تغادر تختلس نظرات بريئة إلى وجه المختار وهو منهمك بمداعبة الإبرة. وظل غرامها به يكبر دون أن يسمح لها كبرياؤها بالبوح له على الرغم من أنها كانت تجده لوحده أحياناً في غياب (المحضرة). كتمت سرها في جسدها وفضلت احتراق أشواقها، مكتفية بالنظر إليه عن بعد وهو يغادر الكُتاب، أو الاستمتاع بصوته وهو يغرد كالشحرور.. ودفعها اهتمامها إلى الإكثار من أسئلتها لأخيها التلميذ عن كيفية تعامله معهم وسلوكياته، فزادها ذلك تعلقاً به. وعند تسامرها مع بنات القرية في أغانيهن الليلية ويتجاذبن أطراف الحديث عن ساحر عقولهن، تغيّر السعدية الموضوع خيفة افتضاح سرها، أو غيرة على عشقها، مما يجعلها تغادر قبل متم السهرة.