الأطفال الذين تعودوا على إرسال الكرة نحو زجاج كل  النوافذ دونما حذر، استثنوا شقة واحدة أحدهم يصيح دائما في بداية اللعب :
-احترموا هذه الشقة فهمتم، لا نريد مشاكل مع المخزن
- احترموا هذه الشقة وابتعدوا إلى الخلف، لا نريد مشاكل
تصيح إحدى الأمهات أيضا، ويتحول الأطفال صوب بيت الحارس ، يكتفي الحارس  بالابتسام نافذته الصغيرة
طار زجاجها منذ زمن ربما لهذا لا يجد مبررا للصراخ في وجه الأطفال ، ثم ربما  يفكر أن لا أهمية للزجاج مادام ينام خلف باب العمارة ليلا ويجلس أمامها نهارا، أو ربما يفكر في أشياء أخرى تنسيه صخبهم أو تحببه إليه...يقف في حركة مفاجئة تجعلك تتوقع  انه أخيرا  سيتمرد ويصرخ في الأطفال كي يبتعدوا..لكنه  يلف حول  العمارات  في حركة استكشافية روتينية ويعود إلى كرسيه

في يوم من الأيام، اقتحم رجال الشرطة بيتنا، وبحثوا عنّي وعن زوجتي، ولم يتمكنوا من العثور علينا لأنّي تحوّلت مشجبًا، وتحوّلت زوجتي أريكة يطيب الجلوس عليها. وضحكنا كثيرًا عندما خرجوا من البيت خائبين.وفي يوم من الأيام، كانت السماء زرقاء لا تعبرها أي غيمة، فقصدنا أحد البساتين، فإذا رجال الشرطة يدهمون البستان بعد دقائق طامحين إلى الإمساك بنا، ولكنهم لم يوفقوا لأنّي تحوّلت غرابًا أسود اللون، دائم النعيب، وتحوّلت زوجتي شجرة خضراء، غزيرة الأغصان. وضحكنا كثيرًا من إخفاقهم.
وفي يوم من الأيام، تذمرت زوجتي من عملها في المطبخ، فذهبنا إلى أحد المطاعم، وما إن بدأنا نأكل حتى طوّق رجال الشرطة المطعم، واقتحموه عابسي الوجوه، وفتشوا عنّا تفتيشًا دقيقًا، ولم يجدونا لأنّي تحوّلت سكينًا، وتحوّلت زوجتي كأسًا من زجاج ملأى بالماء. وضحكنا كثيرًا لحظة غادروا المطعم قانطين.

انفاسكان الجنرال رجلاً ذا رئتين ومعدة وأمعاء غليظة وأمعاء دقيقة وكبد وشرايين ملأى بالدم الأحمر، ولا يختلف عن غيره من الرجال إلاّ بكونه جنرالاً في جيش محارب في بلاد ليست بلاده. وكان الجنرال كثير الضجر من مهنته الخالية من الإثارة، ويحلم بأن يعمل يومًا في مزرعة لتربية البقر والغنم أو في مستشفى للمعوقين والمسنين. وكان الجنرال صارمًا كثير الاكتئاب، لا يبتهج إلاّ حين يتخيل عصفورًا صغيرًا يحاول الطيران ويخفق، ولا يبتهج إلاّ حين يتخيل جنوده المطيعين لأوامره يحتلون القرى والمدن متنافسين على هدمها وقتل سكانها، ولا يبتهج إلاّ حين يتخيل أنّه يزود جنوده بأسلحة قادرة على إبادة مئات الألوف في ثوان، فلا يحاولون استخدامها حتى لا يحرموا قتل أعدائهم ببطء وتشف. وابتهج في أحد الأيام ابتهاجًا مختلفًا حين تنبه إلى أن شعرًا جديدًا أسود بدأ ينبت في رأسه ويحل محلّ الشعر القليل الأشيب، وتباهى به دليلاً على الرجولة وعودة الشباب. وتزايد نمو شعر جسمه مغطيا الجلد بطبقة كثيفة خشنة، وتبدل شكل وجهه تدريجيا.

انفاستمرّن شكري المبيض مع زملائه في السجن تمارين رياضية لا تخلو من العنف، غايتها الحفاظ على سلامة صحته، فأدت إلى إصابة جسمه بالكثير من الرضوض والكدمات والجروح. ومارس شكري المبيض هوايته في شي الكستناء، الفاكهة المفضلة لديه، فأحرقت النار أصابع يديه وقدميه وظهره وصدره وبطنه. وحاول شكري المبيض حلاقة ذقنه صباحًا بينما كان منهمكًا في الاستماع إلى ما يقدمه مذياعه من نشرات أخبار وأغان، فأخطأت يده اليمنى الممسكة بموسى الحلاقة، ولم تخلص جلد الوجه من شعر لا لزوم له، وذبحت بحركة طائشة العنق من الوريد إلى الوريد، فنُقل شكري المبيض توّا إلى أفضل مستشفى، وهناك حاول الأطباء إصلاحه، فعجزوا، ووضعت جثته في كيس من قماش متين، وسلمت إلى سيارة توزع الموتى يوميا على بيوت أهاليهم. ولم يواجه سائقها أي مشقة في الاهتداء إلى بيت أهل شكري المبيض في حارة قويق، ولكنه بوغت به خاليا منذ شهور. فأبوه مقبوض عليه بتهمة التشرد والتسول، وأخوه يحاكم لسطوه على أموال الدولة، وأمه مسجونة لاعتدائها الشفوي على أعراض نساء محترمات، وأخته معتقلة لأنها تتعمد ألا تعبر عن فرحتها أو حزنها.  

انفاس  ذهب بلال الدندشي إلى مدرسته كعادته في صباح كل يوم، ووصل إليها متأخرًا، ودخلها وهو يرتعد خوفًا من معلمه وتوبيخه الفظّ الساخر. ولكنه وجد التلاميذ نائمين والمعلمين نائمين، فحاول إيقاظهم، فلم يستيقظ أحد. وسئم الجلوس وحده، فتثاءب ونام، ورأى في أثناء نومه أنه نائم في مدرسة تلاميذها نائمون نومًا عميقًا غير مبالين بصيحات معلميهم الغاضبة. وأيقظته أمّه من نومه، وحثته على الإسراع حتّى لا يتأخر عن مدرسته، فهرول قاصدًا مدرسته ليجد معلميها مقتولين وتلاميذها يلعبون مرحين، ولم يلعب معهم لأن أمّه أيقظته من نومه ليذهب إلى مدرسته. فارتدى ثيابه على عجل، وغادر البيت من دون أن يأكل، وهرع إلى مدرسته وجلس في صفه بين التلاميذ متأهبًا لما سيحدث.

انفاسالغيابة الأولى:  الحليب
أحسست بطعمه في فمي وأنا أستيقظ هذا الصباح. لم أتذكر الحلم، ولكن طعم الحليب كان في فمي، وسرعان ما عادت إلى ذاكرتي رائحته الفاغمة التي عرفتها في الطفولة وهي تتصاعد مع البخار إلى الأنف، وشرشرته وهو يهبط من الإبريق الأبيض إلى الكأس المزوقة في الصينية الصفراء، حتى لقد أحسست بالشرشرة تغلف ـ بغلاف مخملي ناعم ـ ضجيج السيارات وراء زجاج النافذة المغلقة. وغمرني وأنا بين النوم واليقظة عالم الحليب الطفولي القديم.
ـ حليب الكأس المزوقة والإبريق الأبيض


ـ وقبله حليب المعزة الملتذة بالحلب وهي تجتر ساكنة مستسلمة، ورائحة الضرع المكتتر الأجرد، والخشونة الناعمة لـ (البزولتين) الدافئتين، والحليب وهو يسقط منهما في دفعات موقعة في نغمتين متواليتين: نغمة الخروج من الضرع، ونغمة السقوط في الحلاب الطيني الأحمر المغسول، المسدود فمه بنبات شوكي (لتصفية ما قد يقع في الحلاب من قذى أو غبار).

انفاساتفق أن وصل ذات يوم أحد أقاربي البعيدين إلى منصب وزير، فدبرنا معه الأمر لكي يعيّن عدداً لا بأس به من أفراد العائلة في أحد فروع مصلحة البريد بشارع (سيرّانو) لكن، والحق يقال، لم يدم بنا الأمر هناك كثيراً. قضينا يومين من الأيام الثلاثة التي بقيناها في ذلك المكتب، ونحن نقدم الخدمة للناس بسرعة فائقة، بحيث تلقينا زيارة مستغربة من أحد المفتشين من الإدارة المركزية، وظهرت في جريدة (الحق) كلمة تمتدحنا. في اليوم الثالث أصبحنا واثقين من شعبيتنا، فقد وفد علينا الناس من أحياء بعيدة ليبعثوا برسائلهم وليقوموا بتحويل مبالغ مالية إلى (بورماماركا) أو إلى جهات أخرى سخيفة مثلها. في ذلك اليوم أعطانا عمي الأكبر حرية التصرف الكاملة، فرحنا نعمل كلٌ حسب رغبته. كانت أختي الثانية، المكلفة بتخليص الرسائل وبيع الطوابع، تهدي بالوناً لكل من يمر بشباكها ويشتري طابعاً. كان البالون الأول من نصيب امرأة بدينة بقيت، عندما تسلمته، مسمّرة في مكانها، وقد أمسكت البالون بيد والطابع البريدي المبلل من فئة "بيسو" واحد، يلتف على إصبعها.

انفاس'' الكثير من الناس يضيعون نصيبهم من السعادة، ليس لأنهم لم يجدوها، ولكن لأنهم لم يتوقفوا للاستمتاع بها''.
ويليام فيذر William Feather
البوليس يطوق المكان حفاظا على الأمن العام.
باب قصر المهرجانات الضخم أغلق وفتحت بويبة صغيرة في الجدار يقف شرطي في مدخلها: يتسلم التذكرة من يد الزائر، يقطعها إلى نصفين، يحتفظ بالنصف ويعيد له النصف الثاني ثم يقتحم جسده تفتيشا وتلمسا ودلكا...
حتى إذا لم تصادف يداه وخزا معدنيا تحت لباس الزائر دفعه بقوة إلى داخل البويبة ليتفرغ للزائر الموالي في الطابور الطويل المنتظر على يسار الشرطي لولوج الحفل الذي سيبدأ بعد أربع ساعات...

مفضلات الشهر من القصص القصيرة