انفاسابتسم وتمدد بثوبك المزرق الحائل،  متأملاً تخاريم الجير في السقف العتيق..  لا  خيار أمامك بعد السؤال اللحوح،  سوى هذه التكشيرة المستسلمة،  والنظرة الراكدة،  وقطرات من عرق،  تنعقد فوق جبهتك الغامقة.
ارفس الغطاء المتفسخ، وأشتم أولاد الـ.. هؤلاء بكل مالديك من نعوت، تعرف وحدك ببساطة، كيف تجيدها، كأنما هي من وضعك، ألم تحفظ لك أيام المجد محاصيل التحليق في إرث من العز والأمان؟!
اسعل ماشئت بمرارة، وانفث خشونة ريح غائرة، من صر تنبت بين شعبه المتوغلة، عفرة تبغ رخيص، وأجهد محنياً رأسك، أن تشهق بوجه محتقن، في جموح خاطف، فما أتعب غائلة هذا السعال الأجش المبحوح! اجمد بعدها،فقد يغلبك النوم العصي،وتتجسد لك الأحلام المستحيلة،بعد ساعات الضيق الجلفاء،فما أحوجك إلى انعطافة ترضي جوارحك،بانطلاقات غير مشهودة،من أيام مستحضرة..من ماضٍ ساحر بعيد.
أنت..ألم تهف النعمة عليك بانصباب،من نبع غني لاينضب؟ ألم تغمرك الأيام بالرضا،على تقلباتها..لكنك،دعني أقولها،كنت غير غافل،عديم الثبات وطول الباع!


من يخلد لجنون لعبة،مسارها،تلك المصادرة الذاتية،والحرق اللاهب لإرث لايحصى،وتعلق أبله بحلقات متعطشين لكل أنماط الاحتفال في حياة ليليلة شبيهة بالأحلام؟!

أَقُلْتَ الحرق؟.. ذلك ماكنت تفرقعه بالحكي حتى جذر الدهشة،وأنت تدّعي أن ترسانة من النقد،استعملتها لغلي ماء الشاي،دون حساب للتكلفة! من أين لك بكل هذه الأشكال المشوشة،المستقرة على وتيرة واحدة،من الاستهلاك المشدود إلى مآلات من ا لخراب؟! المانحة لإحساس رث من المتعة؟!

 

انفاساستمع المواطن إلى نشرة الأخبار الزوالية، على شاشة التلفزة الملونة، التي بها خلل مدة تزيد عن الشهر. لم يستطع لحد الآن إصلاحه، فمرة تظهر الصورة واضحة بدون صوت، ومرة أخرى يجلجل الصوت وحده في فضاء الغرفة دون صورة وثالثة يغيبان معا، فيضطر إلى الربت على هيكل الجهاز، ثم الخبط بانفعال، فيستجيب حينا ويعصى أحيانا.    تحدثت المذيعة الجميلة عن كوارث طبيعية, تقع في كل بقاع العالم، ووصفت حالة أناس تجرف أجسامهم وأثاثهم وبهائمهم سيول المياه الرصاصية الهائجة وآخرين يفرون من ألسنة النيران الراقصة  في الهواء وثلة أخرى وقد تداعت أجسادها منهكة، تجاهد لفتح أفواهها طلبا لما تسد به الرمق،ثم ظهرت صور لذبابات ورجال مسلحين يطاردون رجالا ونساء وأطفالا، يطير بهم الخوف طيرانا، تلت ذالك أخبار عن رؤساء ووزراء، يحيون بعض الواقفين، وهم يبتسمون ثم ينبرون لإلقاء خطبهم، وسط عواصف التصفيق، ووميض آلات التصوير.


ثم رأى المواطن لقطات للاعبين يسجلون أهدافا في المرمى، ثم يتقافزون كالقردة ملوحين بأيديهم نحو الجماهير الهائجة. ولقطات عن  امرأة مسنة ما زالت تحتفظ بجمالها وأناقتها، تمتلك قصورا ومعامل وضيعات وأرصدة في أبناك متعددة، إلا أنها تشعر بالوحدة، لأنها لم تجد رجلا وفيا يحبها لذاتها لا لمالها، لهذا أصبحت تفكر في الانتحار.

انفاس  جالت عيناه في زوايا الشارع. كان الطقس دافئا مستكينا. يبحث عنها بين صفوف القادمين, لم يتبين وجهها من بين الوجوه القادمة, نظر إلى الساعة في معصمه:
- هذا هو وقتها.
انتظر قليلا ربما تمر أمام دكانه كما هي عادتها كل صباح, تلقي التحية عليه ملتفة في جلبابها ذي الثوب المهترئ ورأسها المشدود بمنديل كحلي لا يترك لخملات شعرها حرية التنفس. دلته قريحته بعد طول انتظار إلى كتابة رسالة, بعث بصبية وضع في يدها ورقة صغيرة مكتوب عليها,أنتظرك بشوق, لفها وناولها للطفلة  قائلا لها:
- خذي هذه الورقة وسلميها لجارتنا أمينة, لا تسلميها لأحد غيرهاضغط على يد الصبية وعيناه تكاد تخرج من محجريهما, يؤكد على أن لا تسلم الورقة إلا لأمينة وإلا عاقبها.
منح لنفسه مهلة ينتظر الرد, أشغل نفسه في التحدث مع الزبائن كلما وجد في زبون منهم استعدادا للحديث, انهمك


في جدله وثرثرته الفضفاضة الفارغة, لحظات بزغت الطفلة أمامه وفي يدها ورقة هشة ملفوفة سلمتها له ثم قالت:

- هذي من عند أمينة !

انفاسكان أخ حفيظة السكير قد منعني يوما من رؤيتها بحجة أنه التقاني على بعد ستين كيلومترا من منزلي في بلدة أغبالة. السفر خروج من الستر وأفق المرأة الوقور حذاؤها. لم تكن هذه الإشادة بمخيلة الإسكافي لتروقني ولا لتروق صديقة الطفولة. كنا نحب المرور أمام المقاهي التي تتحاشاها النساء استفزازا للذكورة المصطنعة. مرة فعلناها تحت المطر بلا مظلات. كنا نمشي الهوينى أمام مقهى عيطون ونتحدث بأصوات عالية منفرة.
طلبنا من الج  أن يأتينا ببغل من قرية إيمهيواش، ركبناه وأوجهنا إلى الخلف. أوصلنا الرجل الطيب للثانوية على هذا الحال ثم أخذ منا بعض الطفولة والبهيمة وعاد من حيث أتى وعيناه تلمعان من الضحك.

مرة أخرى استلفنا لباسا عسكريا ومررنا ورؤوسنا مرفوعة صوب قمم أشجار الجوز الفارهة. كان ذلك في نفس المكان الذي صفعت فيه نفيعة بعد أعوام رجل سلطة عنّف دون سبب ظاهر صديقا نحيفا مريضا بالسكري. واستعدت يومها للسجن كما تستعد النسوة للزواج.


نفيعة هذه كانت مثل الصلاة لا يستغنى عنها في أوقات الضعف وكانت تأتي جريا كلما مسّك سوء وتحملك لبيت والديها قائلة: أنت في بيتك ومن لم يعجبه الحال يخرج هو و لو كان أبي.

ويأتي الأب أحيانا ليطفىء النور ببساطة ونحن لم ننم بعد و يقول: إيوا السيبة هذى، الضو ماشي فابور ولا ماشي نتوما لي كتخلصوه.

انفاسساح دمي على الطوار. انفصل الرأس عن الجسد كأنما قطعه سيف بتار. عز علي أن تظل جثتي ملقاة على الإسفلت فتدوسها شاحنة أو عربة نقل. حاولت أن أصدر الأوامر إلى يدي لترفعا الجثة. لكني أدركت أنهما لم تعودا خاضعتين لتوجيهاتي. الشرايين والأوردة تتدفق نافورة جامحة فتتسع البقعة، متطلعة، ربما، إلى تحقيق مشروع بركة حمراء.
المارة يتابعون طريقهم لا تكاد تلامس عيونهم دمي المسفوح. يتحاشون الرشاش ولا يلتفتون، سمعت شيخا وطئت قدماه البقعة الحمراء فاتسخت بلغته، يتمتم :
"لا حول ولا قوة إلا بالله"    
أنا أيضا لم ألمح قاتلي، وسرعان ما غمرتني الفرحة لأن رأسي المقطوع لا يزال قادرا على الحركة، لا يزال يتحكم في انقطاع اللسان. عيناي تدوران بسرعة في محجريهما. كيف أتصرف؟ ماذا أستطيع أن أفعل برأسي


المقطوع قبل أن يتنبه الفضوليون لغرابة الظاهرة فيلحقوا الرأس بالجثة في حفرة صامتة؟

أغمضت العينين. ركزت كل ما تبقى من كياني في نقطة واحدة مستفيدا من كتاب "كيف تمارس اليوكا"؟ ثم تمتمت : "هب لي من لدنك جناحين يحملاني بعيدا بعيدا لأعيش ولو يوما واحدا".

انفاس التقى هابيل وقايبل بعد موت هابيل. بينما كانا يتمشيان في الصحراء تعرف أحدهما على الآخر عن بعد، لأن الاثنين كانا طويلين. جلس الشقيقان على الأرض، أوقدا ناراً وأكلا. كانا صامتين على طريقة الإنسان المتعب بعد زوال اليوم. في السماء أطلت نجمة، للآن لم تكن تتسمى باسم بعد. على ضوء النار، لاحظ قابيل شق بضربة حجر في جبهة هابيل، فأسقط قطعة الخبز من يده التي كان ينوي دسها في الفم، وترجاه أن يغفر له جريمته.
أجاب هابيل:
ـ هل أنت الذي قتلتني، أم أنا الذي قتلتك؟ فأنا لا أتذكر شيئاً؛ المهم أننا مع بعض مرة أخرى.
ـ الآن أعلم أنك في الحقيقة قد غفرت لي ـ قال قابيل ـ؛ فأن تنسى، معناه المغفرة. أنا سأحاول كذلك أن أنسى.
فقال هابيل بتمهل:

انفاس 

هدير السيارة يزعج صمت الليل، لقد رست تماما، لكن هديرها ما زال يزعج الصمت، مدت المرأة يدها تحرك الرجل الذي ينام  إلى جانبها .  قال لها : إني لست نائما. قالت: سمعت ؟ قال: لقد جاء دوري إذن. في قلب الليل يحدث ذلك، يقومون بزيارات خاطفة ويمضون سريعا ... لكنهم يتركون آثارهم دائما. كان كل السكان الآن قد أيقظه هدير السيارة. توقعوا ما هنالك، توقعوا ما سيحدث  .  قالت المرأة للرجل الذي ينام إلى جانبها: هل سيقتحمون الباب؟ قال لها: إذا لم يفتح الباب فسيقتحمونه،
قالت له:  لماذا لا يأتون في النهار؟ لماذا يتسترون بالظلام في مثل هذه العمليات؟
أيقظ هدير السيارة الطفل الذي عمره سبع سنوات، فتح عينيه في ظلام الغرفة وظل ساكنا. كان لغطهم، في الخارج قد بدأ يعطي علامة على أنهم سيتحركون الآن. هدير السيارة توقف. الذين أطلوا من خلال الظلام على الشارع، رأوا السيارة الكبيرة تطفئ انوارها .

في الغرفة الصغيرة تتردد أنفاس الثلاثة منتظمة. بدأ يفكر ماذا سيفعل، وكان اللغط مستمرا في الخارج، والذين كانوا يطلون من فجوة النافذة رأوا سيجارة يشعلها أحد ركاب السيارة .
الآن عرف الجميع أنهم قد تحركوا، فقد سمعوا صوت الأحذية الثقيلة تضرب الرصيف. الذين كانوا يطلون من النافذة متسترين بالليل، رأوا أصحاب السيارة الكبيرة قد انقسموا  أربعة هم في الطريق وثلاثة آخرون ظلوا داخل السيارة. اثنان منهم كانا يدخنان. قال الرجل: الأفضل أن ألبس الجلاب. قالت المرأة : ضع تحتها معطف الصوف. قال الولد الصغير: خذ معك جميع مسدساتي، إنني لا أريدها الآن. قال الأب : لا ... دع لك مسدساتك. قال الولد : ستشتري لي غيرها في عاشوراء. قالت الأم: إنهم قادمون، ارتد ملابسك بسرعة. قال الطفل : يكذبون علينا في المدرسة. قالت الأم: هل سيعذبونك ؟ قال الرجل : إنهم لا يتشاورون في هذا الأمر .