الظلام يكلل كل شيء، لو مددت إصبعك أمام عينيك، فانك لن تراه، والجسد الملوح بالسياط والعصي والتعب منتصبا كشجرة حور عملاقة.
التعذيب طوال الساعات الماضية لم ينل منه شيئا، والوقوف الإجباري بسبب الربط الخلفي في ماسورة مثبتة بالحائط، الجلوس الإجباري على كرسي أطفال من الخشب مع التقييد التام لليدين والقدمين معا، اجبر الجسد ان يكون مقوسا تقوسا يشبه الانحناء بالرأس نحو القدمين، كل هذا لم يزحزح الرجل عن موقفه قيد أنملة.
عادت الذاكرة للعمل من جديد، هكذا يحصل دائما، حين لا تجد ما تفعله، فانك لا تستطيع ان تمنع عقلك من الانفلات على هواه ليعمل ما يشاء، ويصور ما يشاء. وفي عمله مع لحظات الهدوء القاتل، ولحظات التوقع القادمة من الظلام، تبدأ روعة العقل في الظهور لتطفو فوق كل الحدود والجدران، ترسم عبقرية فذة في صنع شيء ما للجسد المقهور والمغلول، هذا العقل هو الانتصار الأبدي على كل المعاقل العاتية، وسطوة القهر الطاغية. لا توقفه الجدران ولا تسيطر عليه القيود. هو حر داخل الزنزانة، وتحت السياط، حر برغم القيود الضارية التي تغل اليدين والقدمين في آن.
القنغاء ـ قصة : مريم كعبي
تنهدتُ بضيق بعد أن قضيتُ نهارا شاقا ومتعبا في تمثيل دور الأبله للأطفال، استدرتُ نحو النافذة الصغيرة المطلة على الحديقة الخلفية للبيت والجدار الإسمنتي الذي يحيط بها، تذكرتُ الغارة الكبرى والأقدام الهمجية التي وطئت بيوت أهلي بحثا عن الذهب الأسود والأصفر والرصاص الذي فَرَّقَ شمل أحبابي من على الأغصان كتساقط النبق الهشيش إثر حجارة صبي مشاغب يرمى الشجرة لان قامته الصغيرة لم تبلغ بعد حد الثمار الناضجة.
تذكرتُ أنين الأشجار حين لامست مناشيرهم الكهربائية وهم يفترسون الغابات ويفرشون الأرض بالفحم ويغلقون منافذ الهواء والغناء.
تذكرتُ السهول الخضراء التي تتحول إلى بحيرات جميلة في الشتاء نشرب منها الماء ونواصل رحلاتنا السعيدة في البر والسماء، تذكرتُ البراري الواسعة ومساحات أصواتنا الدافئة التي تتفسّح في أحضانها وأتساءل وحدي كيف وصلنا إلى هنا؟
***
المبصر قصة : رشيد بلفقيه
حلم الليلة الماضية حلما جميلا ، رأى فيه كل هوامش أفكاره تحتل البؤر و رأى كل ما كان يغمه قد صار على ما يرام ..... باختصار وجد أن حياته قد صارت مكانا مثيرا و جميلا و يصلح فعلا للعيش ،عندما استيقظ قرر أن يبقي نفسه داخل الحلم ، لذلك غادر السرير بعينين مغمضتين . وقف أمام المرآة ،غسل ذاكرته من كل ما فات و نسق ملامحه كما اشتهى ثم تناول فطوره بتأن و لأول مرة استساغ مذاق الخبز الجاف و الجرعات المتتالية من كأس الشاي المعتادة .
يوم من أيام المخيم ـ قصة : مأمون احمد مصطفى
أصبحنا وأصبح الملك لله، الحمد لله الذي أحيانا بعد ما آماتنا واليه النشور، اللهم بارك لنا في هذا الصباح وقنا شره، الله واكبر، لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب يسر ولا تعسر.
صوت والدي الذي يصحو في كل يوم باكرا، يتناهى إلى مسامعي حين تبدأ خطاه بالتوجه نحو المطبخ، ليُحَضر إبريق شاي الصباح الذي لم يطلع بعد، ليجلس بعد ذلك مع أمي في قاع البيت يستدعيان ذكريات اختزلتها الذاكرة اختزالا عجيبا ومدهشا، ثم ينتقلان مرة واحدة للتسبيح والدعاء، ليعودا للحديث عن الدنيا ومتاعبها، فتسبيح ودعاء، وهكذا، حتى تبدأ سماعات المسجد بالخشخشة إيذانا ببدء الآذان، فيقومان نحو المغسلة لتبدأ دورة الوضوء مع الأدعية المرافقة له، ثم يتناهى لمسامعنا أصوات الجيران وهم يتحدثون، يضحكون، يوقظون أبناءهم للحاق بصلاة الجماعة.
تَـوْقُ الدُّنُـوّ ـ قصة : مأمون أحمد مصطفى
تتسارع الأشياء، تكتمل، تتوالج الظلمات مع انبثاقات النهار، تتوثب الرؤى لتنازع المعلوم مرورا لطيفا بين خفقات المجهول، تندفع الطاقة الكامنة من روح تشعر بتحدب اللحيظات القادمة، تتدلى أيام العمر أمام العينين، كعناقيد من وهج متفجر، ترسل بريقا يمتزج فيه الأصفر مع لون الغروب، تتلاقح الألوان وتتزواج، تندغم وتتوحد، يصبح الكون امتدادا رحبا في النفس المحملة بروائح الرحيل والمغادرة.
بداية الأشياء، نقطة من زمن متكون متصل ينحو نحو الصيرورة والديمومة، ومكان يمنح الزمن لحظات التكامل والاكتمال، الزمن والمكان توحد واندماج وانصهار، لا فكاك منه، يتداخل في مراحل التكون الأزلي، أنا ولدت في زمن معلوم، ومكان معلوم، فلا بقاء للزمن الذي دفعني رحم أمي فيه بدون المكان الذي استقبل لحظات قدومي، لتتداخل فيه أنفاسي مع مكونات الوجود بكل ما فيه من تنوع وخصوبة وتدفق، دماء الرحم التي سالت، وجع الطلقات المدوي في عمق الأثير والمكان، فرحة الميلاد، نشوة اقترابي من صدر أمي لألثم ثديها المترع بالحياة، كل المكونات تتلاصق، تندغم، تتلاقح لتشكل ما يسمى بالزمن.
نحو الخمسين أدنو، أشارف منتهى التكون، منتهى الاكتمال، نقطة النضج، "أبو حامد الغزالي" أشار للأربعين بفوات الأوان، باغت العقل مباغتة، باقتراب الدنو من الجحيم، أو النعيم، لماذا اختار الأربعين؟ ولماذا أودع الزمن المنقضي ملاحقات القادم؟ قديما قال الحكماء، بأن اقتراب التلاحم بين لحظات الزمن وبين الإدراك تمتد بتناسق مع الأربعين من العمر.
ساقية المشرب ـ قصة : خالد أخازي
نزعت كلثوم لجام الحصان العجوز،بعدما حررته من العربة المرهقة أعمدتها الحديدية أكثر من حمولتها المتواضعة،دفعته برفق إلى زريبة ضيقة وسط بقايا القش ولبنات من التراب متناثرة هنا وهناك،صهيل متعب للحصان أفزع بضع دجاجات اتخذت من ركام أكياس الشعير مستقرا لها للمبيت،فقفزت في ضجة وتناثر ريشها في الهواء،ربطت الحصان بعقال مثبت بوتد على الأرض ثم وضعت أمامه علفا في صحن مصنوع من قاع برميل حديدي،أضافت إلى العلف المكون من عشب المراعي حفنتي شعير،وطفقت تنزل الأكياس من العربة ورائحة العطارة تنبعث منها،تملكتها رغبة متعثرة وجامحة في العطس،تجاهد نفسها أن تعطس بلا ضجيج، لكنها تعطس بقوة، فيتناثر مخاط أنفها على نحرها، تمسح أنفها بالكم الأيمن لقميصها،تعرج على البوابة الخشبية المتهالكة الكبيرة للبيت، لتتأكد من إحكام إغلاقها بمزلاج خشبي،الصوت الخشن لزوج أمها العطار ما زال يتردد صداه في أعماقها وهي تستحضره دوما في هذه اللحظة من الليل ،يحذرها كل ليلة قبل أن يأوي إلى فراشه" اغلقي دائما الباب جيدا....بيتنا معزول عن الدوار، و لصوص الليل لا ندري متى يحضرون".
ورم (2) ـ قصة : مأمون أحمد مصطفى
ثمَّة لحظات يُرِيد المرء أن يوتر عقله وقواه إلى أقصى حدود الألم؛ حتى تنبجس المعرفة كشرارة، فإذا بطُيوف من النُّبوءَة تَجتاح النفسَ المرتعشة، النفس القلقة، لتنبِّئها بالمصير الذي ينتظرها، إنَّ كياننا كله - وقد جرفه الظمأ إلى الحياة بأيِّ ثمن - يستَسلِم عندئذٍ للأمل، مهما يكن هذا الأمل أعمى، ومهما يكن عنيفًا، ويَنأَى عن المستقبل بكلِّ ما فيه من مجهول وسر، يُنادِيه أن يأتي إن صَحَّ التعبير، يُنادِيه ولو كان مشحونًا بالعَواصِف والزوابع، حسبه منه أنَّه الحياة.
(دوستويفسكي، نيتوتشكا نزنفانوفا، ص – 228).
ورم (1) ـ قصة : مأمون أحمد مصطفى
الثامنة صباحًا، في أقصى الشمال الأوروبي، أفَقتُ كعادتي، تسلَّلت نحو الصالة لأُعانِق فنجان الشاي الصباحي، ولأحرق ثلاث دخائن، دخلت الحمام، غرقت تحت مياه حارَّة، يَتصاعَد البخار منها ليهرب من فتحة صغيرة، خرجتُ وكالعادة كانت القهوة التي أعدَّتها زوجتي تقتَحِم خلايا دماغي بقوَّة، فللقهوة مكانةٌ في قلبي لا يعرفها إلا المقرَّبون منِّي، أحرقت ثلاث دخائن أخرى، ارتديت ملابسي، وخرجت.
العاشرة صباحًا، موعِدٌ مع طبيبي الخاص، قدت السيارة إلى مكانٍ بعيدٍ عن العيادة؛ طلبًا للتمشِّي واكتِساب بعض أنفاسٍ من هواء نقيٍّ، لم ألتَفِتْ إلى شيء، ولم أدقِّق بأيِّ تفصيل؛ فالشوارع معهودة، وكلُّ ما عليها أصبح بسبب العادة لا يُثِير دهشتي أبدًا.
انتظرت في الصالة، كان أفراد دائرة السير يختَفُون خلفَ العيادة مباشرةً، يصطادون السيارات المارَّة، لا بُدَّ وأنَّ الراتب الشهريَّ الذي اقتَرَب كان همهم الأوحد، فلا بُدَّ لخزنة الدائرة أن تكتظَّ بالنقود، وبين ملامح هؤلاء والسائقين كان هناك اختلاف كبير.