5332990 La grande transformationعندما التقيت بها أو بالأحرى رأيتها، كنت انسانا منتهيا، اعتقد ان كل شيئ انتهى، كل ما آمنت به وكلما آمنا به، حتى تلك السخريات التي أطلقناها هزلا بالتنين، أصبحت بدون معنى، كان الوحش في أبهى قوته وقد ظهرت رؤوسه السبعة المسننة والشرر يتطاير منها،  من سيجرؤ مجددا على ان يقول لا لهذا المسخ العجيب؟ قويا هائجا مترنحا، بعد ان أتبث الزمن صموده امام جميع العواصف التي خرج منها أقوى مما سبق، وخرج أعداؤه ضعفاء مشتتين مهلهلين، ان الوحش يطلب العذراء الوحيدة التي في قريتنا، وكما يحدث عندما يغادر كل شبان قريتنا مخابئهم واضعين سلاحهم، ستخرج العذراء الفريدة في كامل زينتها، ليس لتهب نفسها طائعة، بل لتقاتل حتى النهاية.
في مثل هذا الزمن عندما تغير الريح اتجاهاتها، وتظهر الغيمة الوحيدة للفلاح الذي سكنت شرايينه خلايا الجفاف القاري، فيجثو على ركبتيه من جديد أمام الاله في الصحراء-الهي لك الحمد على نعمك - متمنيا ان تكون غيمته الوحيدة محملة بالمطر، قطرة واحدة تكفي وبعد ذلك فليعد الجفاف، كما كان منذ الازل، ذرة نور واحدة  تكفي وبعد ذلك فليكن العدم.

imagesشرايينه تتمزق، وغضب يتملكه حتى كاد يُسقطه أرضاً، لولا استناده إلى الجدار، إلى أن استعاد توازنه مجدداً. طويلة هي اليوم، هذه المسافة التي تفصل باب المجمع السكني عن باب بيته.
خطواته متثاقلة، تبعد المسافة أكثر وأكثر.
سحقا للنسوة اللعينات. إنهن يسترقن السمع والنظر من خلف شقوق النوافذ. إنه يسمعهن يتهامسن، وكلماتهن رافقته حتى عتبة بابه، لكن لسانه لا يسعفه للرد عليها.
عيون حمراء تستقر خلف الستائر، وتجفف الدم في أوردته. طأطأ رأسه أكثر فأكثر، وهو يحس بكرامته ومروءته تسحقان، مثلما سحقت دراجة نارية تحت عجلات سيارة مسرعة كما ورد في أخبار التلفزة صباحا.

LITERATURE-large-"مجرد هذيان..".
قالها في نفسه.. وهو يضع القصة جانبا على الطاولة.. بعد أن تعب من القراءة.. فقد إبراهيم القدرة على التركيز..مضت أيام طويلة وهو يبحث، بلاجدوى، عن حدث يصلح لأن يكون موضوع قصة..جف القلم وإعتراه الخمول..مزاجه تغير..غابت عنه الفرحة..حالات من الشرود تحاصره بين الفينة و الاخرى..وصارت الكآبة ظلا لا يفارقه.. منذ أن ترك أهله في القرية.. وجاء الى المدينة ليشتغل معلما بمدرسة الحي..عرف بالإستقامة والاخلاص في العمل..لا يغادر بيته إلا لزيارة أهله، أو لملاقاة أطفاله الصغار في المدرسة..زملاؤه في العمل يلقبونه "بالرجل المعتكف" لكثرة الوقت الذي يقضيه في بيته هائما بين أكوام  الكتب و الأوراق..
جال ببصره في أرجاء الغرفة: ليس يرى غير هذه الكتب المكدسة التي علاها الغبار، وهذه الصور الباهتة التي تزين الجدران، وتؤرخ لبطولات قديمة..

abstr5556جالسا في الجهة المقابلة من المقهى،ظل يتأملها بشغف كبير راسما بذهنه أروع السيناريوهات البوليودية الملونة ، وكانت إيماءاتها شديدة الدقة و نظراتها غاية في الإتقان والروعة، تجرد من كل أبعاد الحياة من الزمان والمكان،سافر بعيدا بمخيلته الخصبة فأطلق العنان لفانتازياته البطولية،وتناسى كل كائن وجودي بجانبه،أبى إلا أن يكون البطل في قصته القصيرة مرددا ذلك الحوار الإفتراضي بينه وبين نفسه الصامتة.. إقترب منها النادل وطلبت منه بلغة الإشارات أن يجلب لها "براد أتاي" كانت صماء بكماء...

chalk starكان الأستاذ عبد البديع إذا ما جلسَ؛ أطرَفَ، بقميصِهِ الفضفاض، وبرأسِهِ المنفوش، ثمَّ انكفأ، يأخذُ الأنفاسَ، وينفثها، ومع كلَّ نَفَسٍ يسحبه؛ يمسحُ دمعه بكمّيه، ويُنقّلُ عينيه بين الوجوه، لا يبدي رضى عن حديثٍ، أو امتعاضا، فقط يسعلُ، ويدخن، وإن نصحه معلمٌ بتركِ التدخين؛ غادرَ صمته مثل ملسوعٍ، وكمستجيرٍ صاح:
هه .. وماذا نفعلُ من بعدِها؟
وإذا ما دقَّ جرسُ درسِه؛ قام متثاقلا، ليخطو كمن يزحفُ  اتجاه حتفِه، يستقبله دقُّ المقاعدِ، والغناء، فيتعثرُ الأستاذُ عبد البديع، يتعثرُ، أو يكاد، قبل أن يصلَ، ليعبرَ باب جهنم، ويمارسَ هجمتَه مثل ثورٍ جريح، يصفعُ طالبا هنا، ويبصقُ على آخر هناك، لكنَّ الضجيجَ يستعرُ، والقيامةَ تقوم  إلى أن يأتيَ المدير.

abstract-12430عاش إلى عهد قريب كغجري ،يتوسد ديوان شعر و يدخن لفافاته  المعقدة  و أفكاره المفبركة مقتنعا بأن من أراد حياتا بلا هم أو فِكر فليجعل نديميه دوما لفافات  و ديوان شعر ، عاش يذرف الأدب ألوانا و  أصنافا  و يستنشق للحياة حنينا  مستعصيا إلى كل  من غادروه إلى غير رجعة و رهنوا الأرض أو باعوها تحت قدميه.
كنت التقيه دوما غاديا أو رائحا يدندن لحنا مهشما لأغنية قديمة ،متجولا في خراب عوالم كان يعمّرها بخيال شرس و ريشة فكر لا غير .
 يداه في جيبي سترته المائلة  ألوانها إلى الاندثار و التي نالت منها الشمس  ما نالت ،ملامحه جامدة غالبا، رتيبة بل قليلة حركاته ،واثق من أن شيئا ما سيحدث و سيتغير كل شيء إلى الأفضل . وكنت أستمتع دوما بالإنصات إليه و هو يحكي قصصا غريبة لا تشبه أي قصص نمطية أخرى عن أناس أعرفهم و لكنني لم اكن أتكهن بان يتحولوا في سرده أحيانا إلى تلك الدرجة من البشرية أو من الدنو إلى  مرتبة الحيوانية أحايين أخرى ، وكنت استغرب من أين تأتيه كل تلك التفاصيل ،لاشك أن خيالا مسعورا يوحي إليه بما يوحي.
كان  كل شيء ، قد كان .

Abstract vector artistic 714من سخريات القلم أن تجيد الكتابة عن هموم الآخرين وما تنثره أيامهم في شارع الحظ السيء من بقايا أحلام وأماني ذابلة، لكن حين تغرف من قدر التعاسة مصابا أو نكبة أو جرعة هموم ،فإن هامش الإفصاح يضيق لاسيما إذا كنت ممن يأنفون الإقرار بأن فارس القلم قد يترجل، وأن شباك الهموم لا تميز الخبيث من الطيب !
أمي معلمة،لذا لا أخفيكم ضجري من تقليب صفحات المعجم حتى تولد حكايتي هاته مبرأة من كل خطأ إملائي أو زلة نحو،إلا ما اقتضته المشيئة من سهو.فنحن ،أبناء المعلمين، موصوفون في الذاكرة الطفولية الهشة بالقرب من معين الضاد،والسلامة من التأتأة والفأفأة وعقد اللسان.كنت الابن الثاني الذي ركل أحشاءها في حجرة الدرس،ولم يشأ التريث حتى تتشرب العقول الصغيرة حكمة انفراد الله بالخلق.وفي بلدة لا تبلغ فيها سيارة الإسعاف موقع الحادث إلا بعد انفراج الأزمة،تولى عون حراسة نقلها إلى المركز الصحي على عربة حين بلغ وجع المخاض أشده.أمي تؤمن بأن أداء الواجب ممر سحري إلى السكينة وإلى قلوب صبية يعولون عليك هنا للإفلات من الضنك.يغبطني بعضهم لأني ابن معلمة،فأمثالي ممن يولدون وفي فمهم ملعقة فظة لا يليق بهم أن ينحتوا الصخر لأجل لقمة العيش.وحدي كنت ألوك في الصدر مرارة لا يبدد غيمتها سوى جدة تولت مكرهة دور الحاضنة.

Abstract circle abstractكان يقود السيارة على عجل من أمره كأنه يسابق الزمن كي يسافر عبره، الطريق ملتو لا ينتهي يفوق الأفعى في التوائها، قرص الشمس يسير نحو التواري كي ينير عالما آخر، هدوء كبير يلف المكان والزمان والذكريات البعيدة جدا... تناول سيجارته المفضلة، كان طعمها يبعث فيه حلاوة المنتشي من إنجاز حققه، وكم كان الأمر مثيرا عندما ضغط زر الموسيقى حيث أغنية "سلو قلبي" لأم كلثوم تسمو به في أقصى الأقاصي، هناك في الأفق حيث الحلم يحضن كل كبيرة وصغيرة، حيث الطموح سيد العالم، وحيث الامتنان لشيء مجهول لا يفوقه امتنان، فجأة رن هاتفه النقال الذي كان كافيا لانتباهه إلى السرعة التي يسير بها، نظر بعين واحدة نحو شاشته فكانت مفاجأته كبيرة حين لمح اسمها تطلبه بعد غياب دام زهاء سنتين وما ينيف...
تردد في الاستجابة لطلب مكالمتها، كان مستعدا لاستقبال أي شيء إلا هذا الذي يحصل معه الآن، كيف تذكرته وقد انقطعت أخبارها بالمرة، هكذا قال في نفسه، هام طويلا فلم يترك لنفسه مهلة التردد ثم اتخاذ قرار الإجابة من عدمه، غاص في شيء لا يدري طبيعته وجوهره، إلى أن غاب عنه صوت رنين التلفون، وكان هذا كافيا لتذكرها من جديد، مرت أمام مخيلته بوجهها الشاحب وابتسامتها الهادئة، ومرت معه لحظات لا حصر لها عندما كانا معا، توتر بعض الشيء لعودتها إلى سطح الذكريات، اختلطت عليه الأشكال والأشياء، فقرر التوقف قليلا حيث لفه صمت المكان بسحره إلى جانب سحرها مما أضفى على وجدانه طابع الانصياع لذكريات تبخرت وأفل نجمها، أشعل سيجارة مرة أخرى علها تحرق ما مضى، كان يتأمل الفضاء الشاسع أمامه لكن في قلبه ضيق احتمل كل الأشياء بما فيها الشساعة نفسها، وحده صوت أم كلثوم يعيده إلى ماهو عليه الآن، نظر في كل الاتجاهات، رمى السيجارة أسفل حذائه، سحقها بكل حسرة ومرارة متخيلا نفسه يسحق تلك القرارات الرعناء التي أخذها عن طيب خاطر، ثم عاد للسيارة طلبا في إكمال نهاية هذا الطريق الملتوي عله ينتهي...

مفضلات الشهر من القصص القصيرة