Abstract landscape small        قافلة عربات تجرها بغال صبورة، تخترق الشارع الطويل في اتجاه الجديدة ذهابا، ومراكش عند الرجوع. تغدو وأهل المدينة نيام، قاصدة حقول الشمندر المسقية، فتعود محملة بالأعشاب  والحشائش مملوءة عن آخرها، وعلى قمة الحشائش تجلس "حادة بنت الكركاع"، بساقين على شكل زاوية منفرجة، تتأبط ابنها الصغير، موثوقا إلى ظهرها وقد أطبق بفمه على ثديها، يستجدي حليبا ودفئا.  لا أحد يستطيع التعرف عليها وعلى أمثالها من نساء القافلة:  فقد تلفّعن  بسترة لا تُعفي من الوجه إلا العينين. أغلبهن مصحوبات بصغارهن من الأبناء أو الإخوة، يتخذن منهم دروعا بشرية إذا لزم الأمر، كأنْ يتدخل صاحب حقل مسقي لمنعهن من دخوله ، فتمسك حادة برجل ابنها، ورأسه مَهْوى الأرض، مهددة إياه بضربه على صخرة، فيبتعد مخافة تهمة باطلة، ثم تنفجر الأخريات ضاحكات مستبشرات، ساخرات من جبن مهين، معتدّات بفعل "حادة" البطولي في نظرهن .
 

flames-sun-hd-free-abstract-wallpaper(فصل من رواية باي العربان، تصدر قريبا عن دار زينب)
عُدْتُ إلى دير الحبراء. صلّيت وأشعلت شموعا أمام الهيكل، وبكيت طويلا من أجل روح أمي التي لا أعرف لها قبرا... لم يتعرّف عليّ أحد في الدّير، فقد شاخ الحبر إسحاق وشحّ بصره، لكنه رحّب بي ككل التونسيّين حين يأتيهم غريب، ثمّ تركت بعض النّقود على قبر الرّبّي نعمان وعدت إلى داري كي أنتظر رجلي حُلُمي حتى يعود من زيارة الباي الذي شرّفه بقبوله في قصره بتوصية من المقيم العام الفرنسي.
أوّل مرة دخلت الدّير كان عشيّة يوم الجمعة، حيث يقام احتفال "السّبّات". يتكرّر الأمر كل جمعة: سيدي يعقوب مساعد الرّبّي إسحاق يمرّ من منزل لآخر يطرق أبواب اليهود، كل مرّة يأتي إلى منزل الجدّة " لكن لا أحد يذهب، لأن جدتي لا تهتم بما يحدث في الأديرة ولا في المساجد.
اليوم ذهبت، أمام الباب المفتوح سمعت همهمة الصلاة، وأحسست بالخشية الطفولية نفسها. تمرّ أمامي نساء يرتدين السّواد، يدخلن القاعة دون أن ينظرن إليّ. عرفت "جوديت" التي تسكن في آخر العطفة تضع شالا أسود على رأسها، وحينما همّت بالدّخول التفتت نحوي وحيّتني بإشارة لطيفة.
بقيت مدّة طويلة في النّاحية الأخرى من الطريق أنظر إلى الباب المفتوح. ثمّ، فجأة، دون أن أدرك السبب قطعت الطريق ودخلت الدّير. كان الظّلام دامسا مثل مغارة، اتّجهت نحو أقرب جدار كأني أريد الاختباء.النّساء أمامي واقفات متّشحات بشالاتهن السّوداء، ولم يهتمّ بي أحد سوى فتاتين التفتتا نحوي. عيون الأطفال السّوداء تلمع بإصرار في الظلام الذي بدأت تتقلّص حدّته. ثم تقدّمت نحوي "سيسيل" وهي تقطن قرب منزل " جوديت"، وقدّمت لي غطاء رأس قائلة: " يجب أن تضعي هذا على رأسك" ! وعادت إلى وسط القاعة الفسيحة أين تتحلّق الفتيات. أحسست أنّي أكثر اطمئنانا منذ غطّيت رأسي ووجهي.

painting-for-sale-yellow-flowersفوق بساط ذلك المكان ،جلس ويده اليمنى تداعب شعيرات رأسه ، كان كهلا باغتته أيام  الخريف فنزعت من حياته  شعاع  البهجة.
كان المكان غاصا بالذكرى ،منازعا لتلك الأصوات المتضائلة ،حين أرادت أن تنال من ذلك الصمت الذي وشح المكان بذلك الوشاح الفطري المهيب ،لقد كان يطل برأسه من بين تلك الأعشاب، فيبدو ككومة صوف منفوش .
هو ذاك المكان الذي امتزجت بذرات هوائه نسمات الهوى، الذي ضاع بين تألق تغاريد الطيور، و زقزقات صغارها ، كانت حركات شملت أرجاء ذلك العش الضيق ،فعانق الناظر إليها تلك الأهداب الشعاعية المتناثرة من خيوط  أشعة الشمس الذهبية ،فاعتادت مداعبة تلك الأمكنة التي تمتثل لشحوب المنظر ، فيغرق المكان  كله في صمت عميق اعتلته  صفرة الخريف  .
كان الرجل  قد اختفى بين تلك الألوان ، تذكر تلك الأيام  التي كانا يقصدان فيها المكان ،لقد كان صمتا بدلالات لا تنتهي متاهاتها المحيرة ،فتزهو الذكرى منتشية في ذلك الحيز الذي تناثرت فيه أحلامهما ،كانا ككيان واحد ضم شخصين اجتمعا على الجمال، فارتويا من قطرات نبع ذلك الحب ،فلم يكن الزمان قد خلق في أحدهما شيئا ،إلا وكان له شبيه في الآخر ،لاحت له في سماء المكان عناوين تجلت حينا من الوقت ثم غابت،وأخرى لاحت له من بعيد وأعلنت أنها  آتية حين يقبل الخريف قبل الأوان ،قطف بعض الأزهار التي كانت تتراقص حوله ، ثم قال: هكذا كُنّا نقطف أزهار تلك الأيام واحدة واحدة ، ثم حلّ الخريف، وها أنا ذا وكل الفصول قد مرت  إلا هو ،لأجدني وحدي ، ها هو ذا يعبث بما بقي من جمال ليلقي به في مسارات الذكرى ،ويعزف على أوتار الحياة  أغنية "ناهاواندية "تؤثث لرقصة الوداع المتجلية في تلك الأنحاء.

morning-abstrعندما قررت – عن سبق إصرار وترصد – أن أختلي بك الصباح المحاط بالشتاء ، احترت ، أيَّ بداية مشروعة سيكون لها الحق في جمع شتاتي والأخذ بيدي كحارس شخصي , تحميني من الفواصل المنتشرة ومن علامات التعجب هنا وهناك ومن المفاجآت التي دائما أعرف أن اللغة تخبؤها لي بين كل سطر وسطر !
أي بداية ستكون شعلةً لقاء صباحي أحد أطرافه سيكون بعيدا من أرض اللقاء ..؟
هل أرجع إلى نصوصي المحنطة في الصفحات لأفتش عنها عن بداية ((معلبة)) جاهزة , تصلح لأكثر من استخدام بعد أن يتم تسخينها على بعض مشاعري الصباحية ؟ أم هل أجلس – على عجل – خلف لوحتي لأقول لك :
اكتب إليك هذا الصباح وقد طاردني الصقيع في الخارج فقررت أن أحتمي بك , وان أجلس قبالةَ مدفئة حضورك لألتقط أنفاسي بين أحضانها , ولأحدثك عني وعن يومي وحتى عن ذلك البيت الشعري الذي قرأته لنزار قباني عن غير سابق موعد :
{كم صار رقيقًا قلبي حين تعلم بين يديك
كم كان كبيرًا حظي حين عثرت يا عمري عليك}

new-facebook-chatالقلم منكفئ على نفسه  يأبى أن يترنح ، أن يتقيأ! يكتب أي شيء ، القلب مهموم مكلوم ، الليل كما النهار ، والخميس كالجمعة ،حزن يعانق هما ، ولا شيء يحدث ، المعجزة التي ظللنا ننتظرها لم تقع بعد!
  " غدا عيد الفطر" قرأت الخبر على شريط القناة الأولى ، لم يحرك فيك شيئا ، الامتناع عن الأكل أو الأكل لا فرق، قمت تبحث عن ديوان المتنبي تبغي قصيدة مطلعها " عيد بأية حال عدت يا عيد"!
  تقضي الساعات الطوال تتأمل شاشة صفحتك على الفيسبوك ، في انتظار أن تظهر إحدى الغائبات لتنسى نفسك بها لحظات، ثم تعود إلى بؤسك الثقيل . يطول انتظارك ولا أحد يظهر ،فقط تلك الفتاة التي تعودت حضورها – نزهة دائما على الخط بحكم شغلها بمخدع هاتفي بالمدينة الحمراء، لم يعد الحديث معها يطربك ، فهي  امتزجت ببؤسك حتى صارت إحدى حواشيه !

ayyachi-tabete أرقها طول الأمد في متاهات العنوسة، كلما سلكت سبيل بحث عادت من حيث لا تستطيع إطلاق زغرودة فرح: تخطت سبعة أمواج على شاطئ سبعة أبحر كما أشارت عليها النساء اتقاء نحس ضبابي الشكوك، وعبرت على متن القوارب نهرا عريض الضفتين كي تلوذ ببركة "لالة عايشة البحرية"، وتمسحت بجذع نخلة ناءت جنباتها بحمل مرميات العوانس والعاقرات،دون أن يطرق بابها طارق أو يلتفت اليها عابر زواج...
نصحها فقيه المسجد أن تُعرض عن تُرهات النساء، وتلزم دعاءً صاغه خصيصا على المقاس، فباتت تردد صباح مساء: " اللهم أنزل علي من السماء عريسا".
تغلغل في ذهنها المهووس بالزواج معنى الدعاء الحسي، فصارت تمشي في الشوارع وعيناها إلى السماء، تراقب نوافذ المنازل والعمارات، علها ترمق إشارة سعد منتظر...
هوى عليها ذات صباح كئيب، رجل خر من الطابق الثالث للعمارة، كان ينوي الانتحار. فكان جسمها الممتلئ سببا في إنقاذه من موت محقق، بينما سقطت المسكينة مغشيا عليها من قوة الارتطام.

ayyachi-tabeteكان علال البوكاضو ألحن بحجته من الآخرين، وأجرأهم على التقاضي، وأكثرهم دراية بمزاجية القايد موسى الذي ولاه المعمرون إبان الحماية على قبيلة العونات وما جاورها، فحظي بجوار القائد، الذي كان يستعين به على إصدار أحكامه المجانبة للصواب كما تراه الظنون، غير قابلة للاستئناف أوالطعون...
لاتعرض القضايا التي يفصل فيها القايد موسى إلا في حضرة علال، الذي كان يتدخل في كل مرة، فتكون أحكام القائد مستوحاة من إيماءات علال وتلميحاته. لم يفهم الناس سر المكانة التي حظي بها لدى القائد، إذ لاقرابة بين الرجلين ولا تقارب، ولا فضل لعلال على القائد إلا بما يرسله لسانه من كلام محبب لدى صاحبه. كان الناس يتقاضون لدى القائد وهم يدركون أن الحاكم الحقيقي هو علال. يتضايقون لكنهم لا يجدون لهذا البلاء صدا، فباتوا يهابون سطوة علال مثلما يهابون القائد، وصاروا يطلبون وده ورضاه، فيجزلون له العطاء، ويتفننون في إبداء الاحترام والدروشة إزاءه.

PaintingonPaper1-Jane-Daviesعادة ما تولد الفكرة من توتر الذهن أمام المدهش وغيرالمعتاد . يكسر حدث ما ألفة رتيبة مع وقائع غير متجددة, فيوقد الذهن شعلة تسري في المعاجم : حروف تلتقي وكلمات تحن إلى استوائها على رصيف العبارة. يلتقط المؤلف مسودته ثم يشرع في تحديد معالم كذبته المقبلة. قيل أن الإبداع يتطلب المواجهة ومناداة كل لون باسمه, حتى وإن تأرجح قوس قزح فوق رأسك كحبل يشتهي الرقبة ! لكن مشكلة حُسني أنه من صنف الرخويات, يكره رائحة الدم ولا يطيق الكتابة بشفرة حلاقة. كان في مقتبل خربشاته حين استدعاه "الباشا" ليُحدثه عن افتتانه بالشباب الذين يُعبرون عن انتمائهم بنضج, ولا يتهيبون العصي و البنادق المحشوة ببارود تالف.لم يعلق بذاكرته غير دوي الصفعة الأولى و سيل اللعنات التي اقتلعت أجداده من رحاب الفردوس لتلقي بهم في جحيم دانتي.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة