stock-footageفتح عينيه ببطء شديد وكأنه يبصر لأول مرة. ركز بصره على الأكسسوارات الدائرة بالمصباح المتدلي من سقف الغرفة كمن يلاحظ ذلك لأول مرة. فجأة أمسك بطرف الغطاء واختفى تحته. تقلب مرتين وأعاد رفع الغطاء؛ لكنه ما زال ممددا. فكر ماذا سيحدث لو أعاد الغطاء؟ سينام لساعة أخرى أو ساعتين! وعندها سيستيقظ لاعنا نعمة النوم. أزاح الغطاء عنه كليا؛ لكنه بقي ممددا على السرير. أخذ يتثاءب ويتلوى ويفرك عينيه ويحك شعره حتى استنفذ جميع حركاته. وبكل خمول استجمع قواه ونهض أخيرا من فوق السرير.

Dark-Red-Abstractكنتُ هناك أقفُ في الزاويةِ الآسنة، إن أُسقطَ النعاسُ جبهتي؛ ردَّتها حبيباتُ الطلاء، وحيدا في الصمت، كآلةِ رصدٍ لزحفِ الزمان، أعضائي موزعة .. متباعدة ..  رأسي منتصبةٌ في كيس، ذراعاي خلفي موصدتان، ينهبُ دمهما البعوض، قدماي تنتفخان في البعيد، أذناي تغادران؛ تغربلان الصوت الذي يأتي، ويروح، يلامسني متموجا، ثم يمضي تعذّبهُ الرِّيح. تقول عينايَ لعتمةِ الكيس: هذا عصر، هذا فجر ..
 والصمتُ يعود، يخالطُه الطنينُ.
كانت أياما من صمتٍ وطنين، أمسيتُ كائنَ الكون الوحيدَ المتبقي على وجهِ الأرض .. صاغرا للّدغِ أمارسُ فنَّ الانتصاب، يسري في دمي خدَري، تغافلني رأسي، تسقطُ على صفحةِ الجدار، فتدقُّها حبيباته البارزة، أرفعُ قدما؛ لأحكَّ الأخرى، دمي كان طعاما شهيّا في البقعةِ الهائجة ...

paris-abstrحدث هذا قبل سنة ونيف... كنت أمر من اللحظات الأخيرة في باريس، باريس التي يحلو لي تخيلها كعروس تعيش شيخوختها دون أن تنجب، باريس التي غابت فيها تقاسيم الآلهة، باريس بليلها الذي يأتي باكرا، ونهارها الذي ما إن يبدأ حتى يتبخر مثل شمعة الشعراء، المطار هو الآخر لا يقل أهمية عن هذه المدينة الغريبة، فضاء يتسع للجميع بجنسياتهم المختلفة، وأفكارهم ودياناتهم، الكل يسير وفق نظامها، حتى الأمريكيون الذين يؤمنون بقوتهم وبطولتهم وتفوقهم، يجبرون أنفسهم على احترام خاصياتها، لا يضحكون بصوت مرتفع، وكأنهم يتفادون نظرات الآخرين التي تحولهم إلى أبطال كرنفال في مدينة الأنوار، كنت الوحيد المنكسر هنا، أجلس مناجيا نفسي في إحدى مقاهي المطار، أنظر للساعة بين الفينة والأخرى، أتمنى أن تتوقف عقاربها كي أعيش أكثر مدة في باريس، بقدر ما أسمع نداء الضفة الأخرى، كان كل شيء يبعث على الانكسار بما فيه الانكسار نفسه، فجأة سمعت صوتا عبر مكبر الصوت يقول بلغة رسمية :
    ــ نداء إلى المسافرين المتوجهين للدار البيضاء، ستتأخر الطائرة لمدة نصف ساعة بسبب عطل مفاجئ، نجدد اعتذارنا مرة أخرى... شكرا.

DSC 0063SCC تسلقت جدار قصر (القادر)، ووثبت إلى الحديقة. اختبأت بين سيقان أشجار الليمون وأغصان الزهور الشوكية؛ من أجل أن أشاهد (حواء). كانت الساعة قد تخطت العاشرة ليلاً والظلام قد نشر ذراته السوداء في فضاء بغداد. رغم إنها ليلة اكتمال القمر إلاّ أن سحب الخريف قد دثرته وحجبت ضياءه. من بين كتل الظلام قدحت عيناي تتلصلصان كعيني ذئب متحفز للانقضاض على فريسة. ترقبان نوافذ القصر بحثاً عن نافذة مضاءة. كنت أبذل الجهد من أجل السيطرة على وجيب قلبي وارتجافات تركزت بين ساقيّ وأسناني. بدأت تجتاحني مشاعر بركانية تمتزج فيها حمم رعب من فضيحة ورغبة مستعرة لمشاهدة (حواء).

anfasse55555حين انتهى عبد القادر من التهام البيضة الرابعة شعر بالشك  ، لكنه اكتفى بغسل فمه و دعك أسنانه بالسواك ، ثم ارتدى فوقيته السوداء ، و لم ينس أن يتطيب بالمسك كعادته .  و قبل أن ينتعل الصندل ارتفع صوت فرقعة ممزوجة بأزيز طويل  ، فتملكه شك جارف ، لكن أنفه لم يفلح في رصد أية رائحة مريبة ، و تساءل إن كانت كل الفرقعات لها رائحة ، و حتى يغلق الباب على الشيطان قرر تجديد الوضوء.

    مضى إلى المسجد تحت شمس ظهيرة صيفية ،  و كان عقله محشوا بشكوك تقتحم النوافذ دون استئذان ،  أخذ يداعب لحيته الكثيفة ، و يفكر في هذه المشكلة التي ما فتئت تنغص عليه حياته منذ شهور . لام علماء الأمة  لأنهم لم يهتموا لأمرها بالشكل الذي يليق ، و إن كانوا قد بذلوا جهدا عظيما في تأليف موسوعات فقهية حول الغازات المعوية . خطرت له فكرة مفاجئة : « ماذا لو تم اختراع جهاز علمي للتحقق من صلاحية الوضوء ، و إذا تسرب شيء من الفجوة الخبيثة بدأ الجهاز في الاستغفار ».  راقته الفكرة لكنه أدرك سريعا سخافتها فارتسمت على وجهه ابتسامة بلهاء ، و لم يلحظ تلك النظرات الساخرة في عيون التلاميذ القادمين من الثانوية ، كانوا في مثل سنه تقريبا ، لكن لحيته الكثيفة جعلته يبدو أكبر منهم بأعوام .

ANFASSE3334444وضعوا القيد في يدي وساقوني ،وصفحة بثقل الزمن تَشِم نفسَها على مؤخرة الرأس ،عرّجتُ لحظتَها على سبع معارج طباقا ،وسبع سماوات تُمَفصِلها جثثي، كما تَتَمفصَل هي عن رأسي ،غصْتُ في أمعاء التخوم أتتبع رقصاتِ الكون المبهمةَ ،وَتزَحزُحَ أطيافه ...منذ نشأتي كعنصر من خَلْق الله ،والقيود في كل مرحلة تتناسل ، و تبصق في فمي ،..
ترسم حدودا ،وفواصل لأناي ، هذا المخلوق الشاسع، الذي وُلد ليلحَس التعب ،باحثا بنشأته وإنشاءاته في قمم الأدغال عن مَبعثِ نور ..تتمثل لي صورتي لحظة كنت في الرحم ..أمَهد وقتها لكائن إنساني يجمع جزيئاتِ أطرافِه ،والتهيكل بالتدريج في بقعة لا تتعدّى ملمترات ،عليها حراس وعسس تتشابك ترقباتهم ونظراتهم ، تخلق منها حركات موغلة في الأسرار ،قاتلة للرغبات ..والشطط الغاصب يعلن الحَِجْر ويجهش بتطويق ناطق بجداريات المَنع ....كي لاأتجاوز المحيط المحدود ...

simon-addymanحين لامستُ نصوص المبدع الصحفي عبد الكريم ساورة السردية ، انسخلتْ من ذاكرتي تماما ، سمة ذاك الصحفي الذي كان ينهال على مقاماته  بمهماز لغوي مباشر ، لتتمثل أمامي شخصية أخرى من صنف آخر ، مبدع رشَمَ جنس السرد القصصي ((ق.ق .ج)) باحترافية كبيرة ، تشهد عليها نصوصه  وهي تؤدي اليمين بأمانة : كتجربة كبيرة تقلّدَ مشعلَها المبدع عبد الكريم ساورة   في جانب من الحياة ، والعلاقة بالعالم بكل ماتعنيه المغامرة السردية من كلمة ، وذلك بتحويل كائناته والعلاقات في ما بينها وما تهْدر بها من تنافرات إلى  صور بليغة  في وصف راق ، انطلاقا من سعة الخيا ل والاحترافية في الصياغة والحنكة  والدقة في اختيار التيمات ،  والمراس في انتقاء الألفاظ المناسبة والجميلة ، حيث لملمَ الخلطة بجميع عناصرها و بهاراتها في عجنة فنية واحدة ،  لينصهر بعضها ببعض  وتتدفق شلالا سرديا فاتنا ، يغري بمتعته القارئ من أول لمسة بما يهُبّ عليه من نسائم الخيال الرحب  ، وما يخلخل به مبدعنا من التفاصيل اليومية ، ومايَهَبُه للذات الكاتبة من بعد تصوري ،  وهي تتفرس الأحقاب الزمانية بعلامات الوجود والكائنات  على محك التساؤل والاستفسار ، من أجل الكشف والاستبصار ، وسبْر غور الأشياء ، فتفجرت النصوص محملة بالرمزي والإيحائي آهِليْن بتراسلات وجودية ، يشخص فيها مبدعنا المَراحل  التي تمُر منها وضعية المرأة كإنسان ،وكيف كانت تعيش على تبعيتها للرجل ، كمُعيلها الوحيد رغم ماتسديه إلى جانبه من خدمات شاقة ، وكيف أثبتت وجودها كإنسان تتقاسم معه نفس المشاعر والإحساس ، ولما بيّنت أن لها قدرات وطاقات  يمكن أن تشاركه  بها بنجاح إلى جانبه وفي أغلب الميادين ، سقطت على رأسه الصاعقة ، ولم يتقبل الأمر ، فانتشرت بعض الخرافات التي ترى أن وضعية المرأة هي البيت  ...

 arton653    دلف إلى المحطة تغلفه مسحة من الكآبة، والرأس مثقلة بخواطر وتساؤلات تطيح به في دوامة الحيرة والقلق، وأحس بشعور غريب بدأ يتسلقه من الداخل..هو مزيج من الخوف والضجر، لا يدري على وجه الدقة..الشعور ذاته الذي بات لا يفارقه في هذه الأيام منذ أن عقد العزم على السفر لزيارة الطبيب..
     المحطة تعج بكائنات آدمية تتحرك في كل اتجاه..أصوات القطارات تكسر هدوء المكان..ومحنة الرجل لاتهدأ  على حال، وبدت له الوجوه بلا ملامح كأنها في حالة ترقب أو انتظار، تروح وتجيء ..
     الرجل واقف يتأمل، وقد انبعثت في أعماقه كلمات الطبيب: