كان علال البوكاضو ألحن بحجته من الآخرين، وأجرأهم على التقاضي، وأكثرهم دراية بمزاجية القايد موسى الذي ولاه المعمرون إبان الحماية على قبيلة العونات وما جاورها، فحظي بجوار القائد، الذي كان يستعين به على إصدار أحكامه المجانبة للصواب كما تراه الظنون، غير قابلة للاستئناف أوالطعون...
لاتعرض القضايا التي يفصل فيها القايد موسى إلا في حضرة علال، الذي كان يتدخل في كل مرة، فتكون أحكام القائد مستوحاة من إيماءات علال وتلميحاته. لم يفهم الناس سر المكانة التي حظي بها لدى القائد، إذ لاقرابة بين الرجلين ولا تقارب، ولا فضل لعلال على القائد إلا بما يرسله لسانه من كلام محبب لدى صاحبه. كان الناس يتقاضون لدى القائد وهم يدركون أن الحاكم الحقيقي هو علال. يتضايقون لكنهم لا يجدون لهذا البلاء صدا، فباتوا يهابون سطوة علال مثلما يهابون القائد، وصاروا يطلبون وده ورضاه، فيجزلون له العطاء، ويتفننون في إبداء الاحترام والدروشة إزاءه.
عرفــان ـ نص : حميد بن خيبش
عادة ما تولد الفكرة من توتر الذهن أمام المدهش وغيرالمعتاد . يكسر حدث ما ألفة رتيبة مع وقائع غير متجددة, فيوقد الذهن شعلة تسري في المعاجم : حروف تلتقي وكلمات تحن إلى استوائها على رصيف العبارة. يلتقط المؤلف مسودته ثم يشرع في تحديد معالم كذبته المقبلة. قيل أن الإبداع يتطلب المواجهة ومناداة كل لون باسمه, حتى وإن تأرجح قوس قزح فوق رأسك كحبل يشتهي الرقبة ! لكن مشكلة حُسني أنه من صنف الرخويات, يكره رائحة الدم ولا يطيق الكتابة بشفرة حلاقة. كان في مقتبل خربشاته حين استدعاه "الباشا" ليُحدثه عن افتتانه بالشباب الذين يُعبرون عن انتمائهم بنضج, ولا يتهيبون العصي و البنادق المحشوة ببارود تالف.لم يعلق بذاكرته غير دوي الصفعة الأولى و سيل اللعنات التي اقتلعت أجداده من رحاب الفردوس لتلقي بهم في جحيم دانتي.
قائمة من الأتعاب ـ قصة : مالكة عسال
استيقظتْ تُنافس شروق الشمس ،محمّلة بجملة من الترتيبات ،لاتعرف رأسها من ذيلها ؛حركاتها المتسارعة وأطيافها المتراقصة في كل ركن تدل على ذلك ،هيأت وجبة الإفطار من شاي وخبز حاف ،ثم زحفت إلى أشغال أخرى تنتظرها في طابور ممتد ،نادتني بصوت عنيف احتجاجا على تأخري في الصحو والتراخي في تدبير أمري ،قصدت المائدة المقعدة التي تخلت عن إحدى أرجلها ،وعوضتها أمي بصخرة حتى تصحح الخلل ولا يختلّ التوازن وتضيع الوجبة ،فتُحدِث ثقبا في جدول الميزانية ..نهضت أفرك عيني أنفض عنهما ترسبات النعاس العالقة ،أسرعت إلى مايسمى الحمام :خُم الدجاج إن شئت مُنزوٍ في ركن ما ،قبل أن تتصيدني عينا أمي وتحدُث كارثة،فتحت الصنبور وملأت آنية ماء تجنبا لاختراق الثوابت المتفق عليها والمعلقة على كل جبين من أفراد الأسرة، والتي أجبرنا عليها جلاد الزمن وعلينا ألا نسقط خيطا منها ؛فقائمة المنع تنص على عدم الغسل مع انفتاح الصنبور ،ليس محافظة على نعمة الله من خلقه ،وإنما تحسّبا للفاتورة التي قد تنزل كالصاعقة بحديدتها الثقيلة على قمة الرأس وتكسر الترتيب ..
" لا تدَعْ راقصةَ الفْلامِينْكُو تتوقَّفْ " ـ نص : خيرالدين جمعة
( إلى أستاذي : صاحب الغليون الحائرْ و المعطف الطويلْ )
أصابتْني لعنة الكتابة في زمنٍ لا أعرفه و مكان لا أتذكّره ، كتبتُ في بداياتي الأولى دون أن أفكّر في موضوع بعينه أو أتمثل قارئًا يتربّص بي ، كانت الرغبة تجتاحني و تخنقني فأكتب.... و لطالما شعرتُ بمتعة غامرة بتلك الممارسة اللذيذة المهيبة التي كنت أقترفها سرًّا يشاركني فيها أبطال ماتوا بصمت.. ونساء جميلات أنهكهنّ العشق و الانتظار.. و أطفال عراة إلا من أحلامهم ....تلك التي تأخذهم إلى جنّات تسري من تحتها مغامرات جميلة كالحزنْ ...
الشخص الوحيد الذي كان قد رسم بصمةً في عقلي وفكري و قلَب كياني رأسًا على عقب ، هو مدرّس الأدب العربي الحديث في الجامعة.....لقد كان يحدثنا دائما عن الروائيين العالميين مُظهراٌ هوَسه بالروائيين الروس واللاتين و الأمريكان ، كان مكتبة متجوّلة و ممثِّلا بارعا بطريقته المسرحية في عرض الدرس ويديه اللتيْن تراقصان دخان غليونه في كبرياء ، كان دائما يرسم عوالم روائية خيالية عجيبة مليئة بشخوص ينهشها الحب والقتل والعنفوان !
قريني ـ قصة : عمر حمَّش
من أين كنتُ سأدري بما أتى، في البدءِ لم يكنْ يظهرُ في العلن، كان فقط يهمسُ، وأسمعُه طنينا، افعل، خذ، هات، كان آمري ومرشدي، وكنتُ الطائعَ المتلقي، كان برفقتي أين حللتُ، يسكنني، ولا يغادرُ، أستمعُ إلى لهاثِه، فأحتارُ، أأنا هو، أم أنا أنا، كيف أفرّقُ ما بين أنفاسي وأنفاسه، يبكي، فأبكي، يضحكُ، فأضحكُ، ويصرخُ؛ ليسبقني، كان لي نبيَّ النبوءات، فيلسوف حكايتي منذ البدءِ إلى المنتهى، يفكّكُ، ويركّبُ، يبشّرُ، وينذرُ، واحترتُ، أأمقتُه، أم أحبّه، على بسطة الخضار كان يحركُ سبابته، فأمدّ سبابتي، أنتقى ما انتقاه.
أنا وصديقي والحقيقة ثالثة ثلاثة ـ نص : محسن العافي
امْتثلَتْ تلك الغابات لأمطار الشتاء ،مُنتشيَّة في غَبَشِ يوْم شتوي تَتَلأْلأُ فيه قطرات الماء وقد عَلِقَتْ في الفضاء القريب ،رسمَت ألوان الطّيف وسَمَّت نفسها قوس قزح ، قطراتٌ علِقت دون إذْن منها ،رسَمَتْ ألوَان الحياة واستسلمت لتلك القِوى الخفيَّة الّتي جعلتها هناك بين السماوات والأرض. لكنني ما أردت لها الضعف والهوان .
قلت في نفسي : أيمكن أن أحدثها عما فعلت بها تلك القوى التي لا يُرى لها أثر، فنسمع لها عزيفا تارة، وحفيفا حين تدرك أوراق الشجر تارة أخرى؟.
كذلك ترسم تلك القوى علاماتها على كائنات ضعيفة ،وتَبْقَى ذلك الشيء الخفِيَّ الذي لا يُرى .
قتيلُ الليل! ـ قصة : عمر حمَّش
في إحدى سهراتِنا الخالدة؛ شدّني انعكاسُ ضوءِ القمر على صفحاتِ بطونِ القبور، حتى أصابني خفوتُهُ بالثَمَل، فآثرتُ التوَحدَ مع القبورِ، وأن أنعمَ بصفوِّ ليلةٍ هادئة، ولكي أتخلصَ من رفقتي؛ شرعتُ أروي حكاية القطّةِ مع جدتي، وكيف خطفت زغاليل الفراخِ في العلن.
قلتُ: عندما لاحقتها جدتي، قفزتْ القطَّةُ إلى الجدارِ، ومن فوقِه بعربيّة فصحى تكلمت، وتوعدت جدّتي!
حادثة ... عمر ـ قصة : رشيد بلفقيه
مشى كثيرا ، دون اتجاهات محددة تقريبا او باتجاه أشياء كان يظنها هناك ، لكنها كانت سرابا كلما اقترب منه و مد أصابعه ليلمسه و يقبض عليه كان يتبدد من أمامه و يتطاير ساخرا إلى أبعد مما قد تحمله انفاسه المتقطعة .
مشى كثيرا أكثر مما تتحمل جل نعاله في طرق متشعبة ، ضيقة ، فارغة ، معقدة، راقية ، وضيعة ، مجنونة في أحايين كثيرة و بشعة ، متناقضة جدا في أحايين أخرى .قاسم مشترك وحيد بين كل تلك الاسفار انه كان غالبا يمشي بالموازاة مع ذاته.
استسلم للتثاؤب مرة أخرى ،مد يديه محاولا طرد الضباب المنتشر أمامه. مط شفتيه ضرب أخماسا في أسداس وهو مقرفص في مساحة خطوة ضيقة تفصله عن إسفلت طريق . جديد برد مبرح، برد يستلقي في شقوق الكلمات ،يحث الفراغ العابر على التحول إلى شتاء دائم، دوّن بالبخار الخارج مع أنفاسه ..