Original pluie"عشت معه
لأرى
كيف يحيا ..
بدوني"
  هلا محمد

تحسبا لأن تمطر مساء كما تفعل أحيانا،تناولت قصفة  قصائد ظلت تؤجل خواتيمها منذ مدة و حملت مظلة سوداء بحواشي زرقاء تليق بالأسود الذي يطرز ملامحها ، ثم قصدت ذلك المقهى حيث لم  تلتق يوما سوى بحطام خيبتها لأنه لا يكون غالبا ... هناك .
في الشارع كانت الأرجل تنافس بعضها الخطى في إحساس واثق أنها تدين للإسفلت بالتسكع ،مشت هي الأخرى دون أن تفكر في شيء محدد قد يبعد فكرة أن تمطر بغتة عن ذهنها.
أفكار صغيرة ظلت تنط هنا و هناك في رأسها و مع ذلك لم تغادر مجال فكرة أن تبلل رزمة الورق التي تحملها معها في مكان ما من الرغبة في البوح المكتنزة بداخلها ،لن تبوح بكل شيء  فربما .... يأتي  .
لم تمض سوى دقائق و بضعة شوارع مبللة، حتى طالعتها تلك الواجهة الزجاجية للمقهى حيث تنعكس عدة أضواء و ملامح وألوان ،منبعثة ربما من الأرض حيث زرعت –كالنوايا تقريبا- عدة مصابيح .
 لا يهم ،جلست دون انتقاء محدد لمنضدة معينة و انهمكت في تكهنات غير واقعية بالمرة لما قد يحدث أو سيحدث ،لو، أو لن يحدث بالمرة ،أذابت في النهاية قطعة السكر الثانية في الفنجان و ظلت تتابعها وهي تتحلل بهدوء .

فتاة تحب الكتابةاعشق فتاة لم يسبق لك أن رأيتها في ملابس نظيفة تماما، بسبب قهوتها التي تحملها معها دائمًا، وبسبب بقع حبر قلمها. ولديها مشاكل دائمة في ترتيب غرفتها، وجهازها المحمول ليس مملًا على الإطلاق لأن داخله كلمات كثيرة، وعوالم كثيرة، تتحرك أمامها في الهواء.
تقرأ في شاشتها صفحات مليئة بالغرابة.
وترى في الأسفل أيقونة أغنية مشهورة وهي ترقص في أذنها.
تراقبها وهي تقرأ عن تاريخ كاثرين العظيمة، وعن خلود قناديل البحر.
تضحك بشدّة حين تخبرك أنها نسيت تنظيف غرفتها، وملابسها مبعثرة حول أغلفة الكتب وتعتذر منك وتخبرك أنها ستحتاج وقتًا أطول لتنزل إليك.
وأن حذاءها مخبّأ أسفل جبل من الأقلام المكسورة التي كانت تحتفظ بها منذ أن كان عمرها 12 سنة.

قبّلها أسفل عمود الإنارة عندما تمطر السماء، وأخبرها عن تعريفك للحب.

combatt-anfasseرفع رأسه عن تصاميمه وهو يفرك عينيه المتعبتين من شدة السهاد، فمن رام العلى سهر الليالي، هكذا أخبرته جدته. انتصب من على كرسي مكتبه الواقع بالطابق الخامس واتجه نحو النافذة يتأمل بهاء المدينة الساحرة، تتحسسها أنوار صباح جديد ينفض عنه عتمة الليل، يحمل نسائم دافئة تذكره بمدينته الساحلية الجميلة بالوطن.
 شعور راكد مبهم يلفه كلما هاجت به ذكرى ذلك الوطن، لا يدري إن كان يشتاق إليه أم أنه سعيد بمغادرته، فهولا يرتسم أمامه إلا كوجه حزين مليء بالكدمات، لقد عاش فيه طفلا صغيرا مشاكسا يعشق اللعب في المروج مع رفاقه بكرة بلاستيكية بالية حيث تتعالى أصواتهم كلما تعالى الغبار من حولهم، كان يهوى القفز من أعلى أشجار التين والتقاط حبات الرمان الحامض المتدلية كقناديل معلقة بفروع مائلة خفية عن أصحابها، والتسابق مع أقرانه عبر الحقول البورية المنتشرة هنا وهناك بمرتفعات قريته الصغيرة، قرية معزولة نائية انعدمت فيها أبسط شروط الحياة الكريمة. كان يقضي معظم أيام العطلة الدراسية عابثا لاهيا إلى أن يشتد به الجوع فيركض نحو كوخ بني من حجر وطين، تضوع منه رائحة خبز أمه وينبعث منه عطر الفقر الممزوج بريحان الألفة والتآزر.

elle-imageإلي التي شغفتُ بها عشقاً.. ولن أبوح، إلى التي بين أحضانها شممتُ للدفء رائحةُ تفوح، إلى التي ملكتْ عليَّ ذاتي وكياني، إلى التي تمنيتُ أن تحتويني ولكني فشلتُ في أن تحتويني، إلى التي إذا أدمعت ـــ أدمعت كلُّ دنياي، إلى التي أتنسمُ وأشمُّ من عبقها روح البقاءِ ـــ ودعوى الاستمرار، إلى من أحبُّ وأهوى، إلى من أذوبُ فيها و أحيا، إلى من ضاق صدري لغيرها بالنجوى، إلي جنتي ونعيمي، إلى عذابي وأنيني ، إلى من جئتُ (....) وإليها تنتهي كلُّ أمالي.
لا أدري لماذا تسيطر عليَّ ولأول مرة؟ لماذا طيفها لم يعد يفارقني؟
طالت حبالُ الصمتِ بيننا كثيرا ولأول مرة ، لا أدري ولكن..
بداخلي إحساسٌ أني لن أراها بعد الآن، أو أنها لن تراني منذُ فارقتها
هل لهذا الإحساس أصلٌ؟ أم أنه من تداعي الخيال؟

أمام المرآة ـ قصة : سعيد بوطاهـر   لم يسبق له أن وقف أمام المرآة كل هذا الوقت، اليوم ليس كباقي الأيام، أربعون سنة من عمره تبخرت، ذابت في بركان الضياع، تسللت منه بدهاء ثم وقفت بعيدا تودعه بسخرية وشماتة، و لكن أيضا بحسرة وشفقة.
 بالأمس فقط كان شابا يافعا وأول أمس كان طفلا بريئا، إنه يتذكر صورا من الماضي وكأنها حدثت للتو، مزيج من حنين وندم يعصر قلبه إلى درجة الألم؛ لم يكن سعيدا في حياته ولكن أيضا لم يكن شقيا، كان في حالة من الوعي اللاواعي أو اللاوعي الواعي، لا يدري، كان فقط يحلم، طول الوقت يحلم، يحلم بالأفضل والأمثل، صار الحلم عنده إدمانا يرهق أعصابه ويستنزف طاقته، ولكن كان أيضا يستهويه ويستعذبه.
كان ذاهلا عن الدنيا، يحياها ولا يعيشها، كان فيها حاضرا غائبا، كان كالورقة اليابسة اليتيمة، تنقلها الرياح من مكان إلى مكان فلا تستقر في مكان، تتوق إلى اليوم الذي تعود فيه ورقة خضراء تنتمي إلى غصن وشجرة لها جذور، ورقة تنبض بالحياة.

إليكَ يا ولدي ـ نص : أحمدالحارونرسالتي إليك يا بُني ربما تكونُ الأولى وفي ذاتِ الوقت الأخيرة، فلا أدري .. قد تسعفني الكلمات ولا يمهلني القدر،  هل ســــ تقرأ كلماتي فتسمعها؟ أم تصم آذانك وتولي عنها مدبراً؟ اعلم يا صغيري أني أكتب لك الآن لتفهمَ بعد سنين، ولعلك حين تكبر لا تجدني بجوارك، فإن استوحشت طول الدرب وقلة السالكين فاذكرني، واعلم أن روحي معك تعينك وترقبك، فتسعد بطيبِ فِعالكَ، وتحزن لسوءِ مآلك، وثق يا بني أنكَ مشيئة الله في هذا الكون، فما كان في ذهننا أنك ستقبل على الدنيا، وكنا نتفادى مجيئك أنا وأمك قدر المستطاع، فقد عزمنا النية أن نكتفي بأختك لخمس سنين، ربما لرعايتها على الوجه الأفضل، وأن تأخذ حقها من الاهتمام كما حلمنا، لكن.. شاءت إرادة الله أن تأتي، فاستسلمنا لما ليس منه بد، وقلنا لعل الخير يكمن في غير إرادتنا، وليكن في فكرك أني كنت عن الزواج عازف، وما تزوجت إلا خشية أن يحاسبني الله على قدرتي أن أعفَّ مسلمة وتخاذلت، وكنتُ أفرُّ من أن أكون سبباً في قدوم أناس للحياة يعانون في بلدٍ همها وأد الحريات، وتكميم الأفواه، وسرقة الفقير والعطف على اللصوص والقتلة... وأنا الذي في قناعتي أن من يفر من الزواج وهو قادر عليه كمن يفر من الجهاد سواءً بسواءٍ، وأن الأرامل والعوانس هما حقيقة ذنوبُ البعض إن لم يكونا كبائرهم، وقلت في نفسي: لعل الله يرزقني بولدٍ يكون سبباً في دخول الجنة، فحين أكتب إليك فاسمع وكأني أحادثك، ولا تصم أذنيك حين أناديك وأنا في عالم الغيب، ففي مواطن الضعف كن قويا بالله ثم بي، وبدلاً من أن تكون بعض ذنوبي فزد في قليل حسناتي.

عودةـ قصة : حسن لشهبكل خطوة يخطوها في اتجاه الحرية تصبح عبارة عن جمرات تحرق قدميه... يلتصق الجلد الدامي بالأحجار، جوانبها المسننة تمزق لحمه، تفتح مسارات لسيلان الدم مدرارا...
مع كل خطوة فوق التراب ينتابه شعور بالارتياح... تختلط الدماء بالتراب فتغدو عجينا يلتصق بالجراح... يصبح مانعا لها من السيلان.
يتوسل لبقايا إرادة جريحة ويناجي نفسه، لا أريد أن أنسى... أريد أن أحيا لأتذكر...
لكأنه ساع لاسترداد شيء عزيز ضاع منه...
ويصر قائلا "مؤكد أنني لن أنسى"
لأكثر من عشرين سنة عاش أسيرا ، قضاها مع رفقاء حولهم السجانون إلى عبيد، تفننوا في إذلالهم وكسر عزيمتهم.
يجمع قبضة يديه بعزم ويواصل السير، "مؤكد أنني لن أنسى".
كانت الزنازين عبارة عن غرف طينية ضيقة وخانقة. تملؤها روائح البول والغائط، ونتانة أجساد متسخة؛ بل هياكل آدمية توشك على الهلاك جراء الهزال والجروح غير المندملة والقمل الذي يتغذى على ما تبقى فيها من حياة.

    اغتــراب ـ نص : عبد الرحيم بيضونانخطاف أن اكتب عن هذه اللحظة الشاذة التي انتقلت كالزئبق من بين يدي. فكيف لي أن أعطي اللحظة حقها      و أنا لا امتلكها؟ هكذا اعترف بتيهي في امتلاك أويقات من هذا الزمن المارد، الذي صير الإنسان مجرد فرد منعزل داخل عالم من الأشياء، مدعيا أنه امتلك أخيرا صيغة عالمة المستقل بذاته. فما هذا الضبط الذاتي الآلي؟ و ما معنى هذه السيادة المتزايدة للأشياء التي أصبحت حقائق ضرورية إنسانية ؟!
إنه غثاء، إنه جنون تجاه هذا الزمن الذي ندفع فيه الثمن غاليا من أجل القليل من كرامتنا.
ففقر اللحظة يشعل أنواري بلفحاته، تاركا خلفه رماد سنين الكفر، تاركا خلفه دمارا على دمار على ذل   و عار... فلما لا تكون خطوطي سرمدية، معانقة غموض اللحظة العبوسية؟ فهي غنية في اضطرابها، مرتبطة في قناعاتها، مدهشة في ارتعاشها. إنها حالة هوس مجسدة بواقعية ساحرة. إنها جنون ذو نفحات مهدمة لمنابع الحب   و الأمل. فكيف لي محاورة اللحظة المهزوزة و طوماهوك يمطرنا؟ و الجفاف و الجوع يرتديننا و الأقمار الاصطناعية ترغمنا على الخنوع لهذا السيناريو الجديد بعد أن عاينت تحركاتنا.