vassily-kandinskyعند الغبش , وجدت نفسها ممتدة قرب جثة لحمية ضخمة بشوارب ستالينية , تحاملت على نفسها وغادرت الفراش , غسلت وجهها ولبست جلبابها وانصرفت بهدوء .. حتى لا يستيقظ ستالين !! ضاغطة على اوراق النقود التى كسبتها من ليلتها وكأنها تخنقها .. تنتقم منها ..
في طريق عودتها الى منزلها مرت بعدد هائل من "الشماكرية"  ذكرانا و اناثا مثلهم مثل النفايات المرمية على جنبات الطرقات. تسلل خيالها وخرج من جسدها المهلك والمتعب و ارتمى في احضان الماضي , بدأ ينبش في الذاكرة المتعبة بقلة النوم والسهر الدائم .. جراح مثخنة .. العمل بالبدن لتوفير الخبز .. الخبز علة وجودها !! تمنت لو كان الوأد عرفا ساريا في هذا الزمن الجاهلي الذي  تموت كل يوم مرات ومرات .. تموت للحصول على الخبز. ابوها قتله البحث عن الخبز , أمها الخبز قوس ظهرها وشيب رأسها وكمش جلدها .. وها هي تكمل لعبة البحث عن الخبز ..!!

6765964 cendres1-20x20لمْ يكنْ بدّ مِنَ التململِ اوتحريكِ ساقيّ لجرّ قدميَ فقد شعرتُ كأني والمدينةَ  في جوفِ كائنٍ خرافي من ذلك النوع الذي ينفث النارَ ، الأرضُ تحت قدميَّ محروقةٌ وبصيصٌ من غبشٍ مقهورٍ يُغلفُ المنظورَ بسلطة ظلامٍ مُعتق لم يغادرأمكنته منذ زمن بعيد فلا شيء غير الرماد، الرماد وحده المهيمن مشبعا برائحة الحرائق ، ذاكرتي قد مُحيَتْ تماما إلا من شعور ساحق بالخوف والترقب محاذرا من التمادي والإفراط في الحركة أشعر بثقل عيون كثيرة تراقبني  وتتحين فرصة للإمساك بي ، لا شيء في كياني بهذه الآونة غير انتفاض غريزة البقاء، أمد نظري نحو الإتجاهات فلا أجد غير الرماد ، حتى السماء كانت تمور بها من فوقي  سحبٌ رمادية والظلام لا زال يكتنف الأبعاد مخلوطا مع بقايا ضوء محتضر  مغلفا كل ما حولي بالأسرار والغموض وبينما كنت أختلس نظراتي اختلاسا  انبثق ليس بعيدا عني عمود من دخان رمادي أعقبه على مسافات متباعدة أعمدةُ دخان أخرى .

peinture-abstrait-amour-la-ligneرجفتُ.. رجفتْ دون ارتعاشٍ..قالتْ في غيرِ خطابٍ، لأفهمَ.. فهمتُ... استنجدتْ عيناها حكايا جفْـنيّ.. حالمٌ منْ قال تعطلتْ لغة الكلامِ.. كلُّ أشياءِ الكائن ناطقةٌ.. الفمُ ..الشفتان..الأنفُ والسمعُ.. الأصابعُ.. وقفةُ القوامِ ناطقةٌ.. للشعر، جدائلَ،أو جداولَ، لَغوٌ..وكذلك العينان نابِستَان..
 
نحن نتراءى. كلانا يرى الآخرَ. والمسألة هنا أمتع..بيننا مسافةٌ تملؤها قِصّةٌ ..عُمقُها عُمقُ المسافةِ ..هي لا  بالطّول..قصّتنا لا  ..أروعُ ما في القِصصِ أنّها تملأ الكُوى والفراغات،تلك التي تحفرُها الكائناتُ في الأحيزة بمجرّد حلولِها.. ثمّة مسافةٌ قِصّةٍ  .ولو قلنا قصّةَ مسافةٍ ،جاز لنا كذلك الأمرُ.لكنْ ، أيّتهما تملأ الأخرى يا ترى؟..

2fgghyأنا الموظف ع.س
أحلم منذ صباي بالسفر و التجوال و ارتياد مجاهل الدنيا . بلدتي لا تغري أحدا بالبقاء فيها . مَن الأبله الذي يتعلق فؤاده بكومة أحجار ووجوه لا تشرق ابتسامتها إلا على مضض ؟ .
لي إخوة توزعوا في أنحاء البلد , بين منخرط في سلك الجندية , و بائع متجول , و لص محترف لا يكف عن الشكوى من حظه التعس . كنت الوحيد الذي أتم دراسته , لا لشغف بالعلم طبعا , وإنما لئلا أكون أضحوكة في البلاد التي سأطوف أرجاءها .
لم تفلح كل مساعي الأقارب في ولوجي معهدا للسياحة . ربت العم على كتفي مواسيا :  

raisins vertsما أجمل أن تكون ظلاًّ شفافا كالملائكة !!
" طفلٌ بلا بيت رجلٌ بلا ذاكرة " عبارة أصبح  أبي يردّدها كثيرا هذه الأيام  و لكني لم أستطع فهمها ...كانت تدور و تدور و تدور... في ذهني الصغير كحُلم نائمٍ في ليلة شتاء ، و تغمرني كما أمواج شاطئ قريتي حين كنت أركض على طول الساحل النديّ الصامت .....ظلّت  تلك العبارة تطاردني بل تُغرقني  ، حين كنتُ  أجلس وحيدة  في أقصى حافلة المدرسة  ، لا أحد إلى جانبي ، غارقة في التردد،  أمسك حقيبتي المدرسية الصغيرة و كأنني أبحث عن رفيقة ، منذ أسبوع انتقلنا للعيش في مدينة العين ، هي مدينة  بلا شاطئ و لذلك بدتْ لي عجيبة مختلفة  عن تلك التي كنت أعيش فيها ....

amou-youssكان حبا من نوع خاص، لايشبه القصص التي نسمعها و نقرأها عادة عن الحب، هنا لم يكن يوسف يعرف عن حبيبته سوى تلك الدقائق المعدودة، التي تمر فيها من أمامه كل يوم، وتلك الإبتسامة التي تعني له اللحظة الجميلة الوحيدة التي من أجلها يستمر في العيش...
ككل يوم بعد أن ينتهي من جولته المعتادة بين مقاهي وسط المدينة، في البحث عن ما يجعله يعيش ليوم إضافي آخر ليرى حبيبته، يعود مسرعا دائما قبل نصف ساعة من الموعد الذي تمر فيه، يحرص دائما على أن لا يتأخر، وحتى إن تعرض له المتشردون الأكبر سنا، و الذين غالبا ما يأخذون منه ما قضى اليوم بطوله في جمعه، يتركه لهم لكي لا يؤخروه عن الموعد.

03084-24جريا على العادة في قريته , لا يصح لابن الخامسة و العشرين أن يخطب أرملة أو عانسا . لا بد من بكر تصغره بسنوات و تليق بفورة شبابه !
حاول يائسا أن يستميل الجدة إلى صفه . كان يدرك أنها , كغيرها من عجائز القرية , تمتح صلابتها و عنادها من التلال الصخرية التي تسيج هذ الفضاء العابس .
انسل تحت جنح الظلام من خيمته و حث الخطى مسرعا إلى حيث تواعدا . إنها هنا منذ ساعة ترقب مجيئه .
 فطومة ..مهرة القرية التي تعب غيره في ترويضها .
 أجل ! إنها هنا متلفعة ببرنس أبيض , تداعب الحصى بخنجرها الأثير . لم يحل بينهما غير زيجة فاشلة حملت وزرها منذ سنين مضت . الرجل يبقى رجلا , هكذا قالوا , حتى لو كان نذلا يسقيها العلقم في غدوه ورواحه !

Tristesse-Acryliqueلم يستطعْ أن ينطقَ ببنتِ شفة , فقط دموعٌ ساقطة من عينيهِ خلف نظارتهِ الشمسية كشفَتْ النقابَ عن حزنهِ و روتْ وجههُ الجاف من تراكمِ غبارَ الزمنِ عليه. قبل عدةِ سنواتٍ أصابهُ الجنودُ في حنجرتِهِ و من حينِهَا لم يعُدْ يجيدُ إلا لغةَ الصمت , جاؤوا بإبنه محمولاً في الكفنِ ليلقيَ عليهِ نظرةَ الوداع , نظرةٌ يتغذى عليها الحنينُ في دوامةِ الزمنِ اللاحق , تأملهُ قليلاً , كلّ شبرٍ من جسدهِ من أعضائِهِ كأنهُ غريبٌ يحاولُ أن يمسكَ بملامحِ ابنهِ من بينها , بحثَ عن تلك الندبةِ التي كانت تفضحُ تلك الشقاوة البريئة , بحثَ عنها في رأسهِ وجدَهَا مستبدلة بثقب رصاصة, ابتسمَ قليلاً و قالَ في نفسهِ: لقد أردت دائماً يا بنيّ أن تزيلَ تلك الندبة بعمليةٍ تجميلية , حسناً لا حاجة الآن لإزالتها , فتلك الرصاصةُ يا ولدي تكفلتْ بذلك و لكنها للأسفِ تركتْ ندبةً خالدةً في قلبي الحزين.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة