الوحدةُ سياحةُ الذكرياتْ، تجوبُ فيها أروقةَ ما فاتْ، وتعرّجُ على غيمِ ما هو آتْ. فهي جلاءٌ للقلب وصفاءٌ للراسْ، ووقتٌ للمراجعةِ والحسابِ والقياسْ، ومعَ ذلكَ، يا أخي، إنْ طالتِ الوحدةُ صارتْ همَّا، وإن أزمنَتْ أعقبتْ حُمّى، لا تنقطعُ بغيرِ مُعاشرةِ الخِلّانْ، واحتساءِ القهوةِ في أقربِ ديوانْ، ويا حبّذا لو كان ديوانَ نسوانْ! فكلّ همّ لديك لا بدّ يذوبْ، وسْطَ امرأةٍ تُرغي وأخرى تَلوبْ، وثالثةٍ تنقلُ أخبارَ الحارَه، وما قالَه الجارُ للجارَه، ورابعةٍ تفتحُ لكَ الفنجانْ، (وتفتحُ معَه راسَك كمانْ!) تتفلُ فيهِ وتمسحُه بالبنانْ، وتُسمّي وتتأمّلُ كي يبانْ، حظُّك أو تعسُك بإذنِ الحَنّانْ:
- بختك يا بْنيّ مبخوتْ، ومكتوبْ عورقِ التوتْ!
- خير إن شاء الله يا أمّ شكري، ماذا ترَينَ أريحي فكري!
- شايف السمكِه؟! السمكِه برَكِه، رزقة في طريقها إليكْ، فافتح لها ساعديْكْ، وامددْ لها كفّيكْ، وتشبّث بكلتا يديكْ... قل ان شالله فيفرجَها الرحمنْ!
- إن شاء الله! (قلتُها وأنا يأسانْ! فعهدي بهذه المرأة، والظنّ من الشيطانْ، أنّها كلّما قالت: "رِزْقَه!"، فرغ الجَزدانْ!)
يَومُ فرحٍ ـ قصة : نجيبة الهمامي
نظرت فرح في المرآة العاكسة للسيارة، أنزلت النظارات الشمسيّة قليلا على أرنبة أنفها، تثبّتت بعض الشيء في عينيها وقالت:
-سأغيّرها... لم تعُد على الموضة... لونها لم يعد مميّزا... ربما لو تركت اللون الطبيعيّ لكانت النتيجة أفضل؟
أدارت وجهها يمينا ثمّ شمالا، أنزلته قليلا ثمّ رفعته قليلا. مرّرت يدها على رقبتها الصقيلة. سرّحت شعرها بأصابعها وقالت تحدّث نفسها:
- ماذا أفعل أيضا؟؟
فكان الردّ نعيقَ منبّهات وصراخَ سُوّاق خلفها يستحثّونها الانطلاق، فالإشارةُ الضوئيةُ خضراء وهي تسدّ عليهم الطريق. لوت فرحُ شفتيها، وسوّت وضع النظارات على عينيها، ولوّحت بيدها في الهواء بإشارات استمطرت تعليقات بذيئة ردّت عليها بأحسن منها، ثم ضغطت على دوّاسة البنزين بقوة فانطلقت السيارة كطلق ناريّ.
لم تكن ترومُ مكانا بعينه، فطافت كلّ شوارع العاصمة مرارا وتكرارا ثمّ قصدت ضواحيها البعيدة وحيدة: شربت قهوة وسيجارة فوق صخرة على شاطئ المرسى المهجور من عشّاق كانوا يمرّون به فيُودِعُون رملَه وموجَه ونسائمَه أثر خطواتهم وحرارة قُبَلهم ورقّة همساتهم. اجتازت مجموعاتِ عمّال حانقين مجتمعين أمام بعض النُّزل السياحية المقفلة بعد الثورة. تناولت عصير برتقال بمشرب على ضفاف وادي مجردة الهادِر وكأنّه ينذر بفيضان وشيك... الخ.
أهوار ـ نص : ماجدة غضبان المشلب
الطعام هنا لا يكفي ، و الماء يشح بإستمرار.. و الحر قاتل..
مشاجرة مع مخالب الفضاء قد تسببت في كسر جناحي ، و تناثر ريشي على اغصان شجرة برية مشوكة ، عدا جروح طفيفة في الجؤجؤ..
الساقية الضحلة التي يسمونها فخرا بالنهر.. أصابت خيال اللاغطين بعطب ما ، و غرقت في قعرها العاري كل آثار رحلاتنا نحو الشمال..
رغم انها ليست كل ما في الأرجاء ، فقد كررت الشموع المقدسة ذوبانها على سطحها الآسن ، و احتشدت آلاف الطيور عندها خاشعة..
بعض المخضرمين يعزفون عن الإصغاء الي ، و اليافعون يجدونني حمقاء ، ابدد وقتي في تطلع شاذ..
خسارتي لجناحي القوي و ريشي جعلتني محط سخرية كل طيور السبخة..
_ما تشرق الشمس الا لتقول انها قضت ليلتنا في مكان آخر يبتهج بضوئها..
دربُ الأماني! ـ قصة : عمر حمَّش
رمق شرخَ المرآة، وهو يسرّحُ بأصابعِه بقايا شعرِه، عدّل ياقتَه، ثمِّ غافل زوجتّه ...!
في الشارع عاودته الحياة، السيارات تعدو بكلّ الأصناف .. كهولا ، وصبيانا ، ونسوة .. يلقون بعيونهم، ثم يمضون .. الدربُ الطويلُ يتعرّجُ، ويعودُ يستقيم .. زمّ شفتيه، وأطلق صفيرا مترنّما .. يجبُ أن يحيا كما يشاء، ألا يعبأ بمتاعبِ العمر .. لن يكون مثل جارِه أبي حمزة .. ما الذي يجنيه أبو حمزة من صراعِه اليومي .. لا شيء سوى الفضائح .. صوتُ أمّ حمزة يجري من فوق الحيطان .. وأبو حمزة دوما يفرّ؛ يشهر للخلقِ باطني جيبيه الفارغين .. ويردُّ على صراخِها بصراخٍ : من أين أتي لكِ بالنقود!
أربع وعشرون ساعة ـ قصة : وئام روين
10 و30 دق (صباحا)
حركت شدقيها بعصبية ليدور الدم فيهما قبل أن تعيدهما إلى الوضعية الأولى. لترسم على شفتيها ابتسامة تتسع مع انفتاح الباب المقابل لها كل مرة. تستقبل الوافدين على الشركة تحييهم و تجيبهم عن أسئلتهم تهديهم نحو الوجهة الصحيحة لاعبة دور الدليل في ذاك المبنى.
11 و و 15دق (صباحا)
مر وقت طويل لم يلج فيه احد ذاك الباب فانتهزت الفرصة لتتجه نحو الحمام لتبلل وجهها ولتخلو إلى نفسها و ترتاح قليلا. دفعت الباب ببطء لتجد زميلاتها منتشرات أمام المرايا الأربع يعدلن من جمالهن. خرجت فلا مكان لها بينهن.
خرجت إلى الحديقة. كانت الشمس تقترب شيئا فشيئا من كبد السماء تبالغ في إرسال أشعتها. بحثت عن مكان ظليل في مقعد خشبي كان تحت شجرة توت وافرة الأوراق. لمحت "ادم" يدخن سيجارة غير بعيد منها. سرت رعشة في أوصالها. تزايدت دقات قلبها. كانت ستولي هاربة لولا سماعه يناديها.
أبو نظّارة! ـ قصة : عمر حمَّش
كنّا جراءً تجري بلا هدف ..
حفاةً تلقي بنا أكواخُ الصدأ!
أنا .. عن سربي أجنحُ إلى حيثُ قعدة الكبار ، التنصتُ عليهم كان هوايتي .. وهم ساهمون هناك على التراب .. تحت السياجِ الشوكيّ ... مطرقون كالعابدين .. وسطَهم مذياعُ أبي نظارة .. وأنا في الجوارِ ... يدهشني صياحُ المذيع .. فإذا ما سكت؛ وعلبةُ المعدنِ شرعت بالنشيد .. توجهوا كلّهم إلى أبي نظّارة ... وسألوه ذات السؤال دفعةً واحدة :
ها ... ماذا فهمتَ ؟!
حلمي الذي ورثتُه عن أمّي يعصفُ بي .. أتعلّقُ مع الكبار بفم أبي نظارة ... يهزُّ رأسَه إلى الأمام مرتين .. يلقيه حيثُ الجانبين مرتين .. يحكي وأنفه يرقّصُ نظارته:
... والله يا جماعة الأخبار غامضة!
يزيدهم كلامًا .. لا أفهمُ منه شيئا!
انكسار المرايا ـ نص : زكية خيرهم
رقصت أشعة الشمس ، متّشحة برائحة المطر، مرتدية حوافر اللحظات في تلك السويعات الأخيرة من الغروب. ألوان طيفها تعانق تلك المويجات التي تترامى مع ايقاع سكون مجنون، ثمّ تنسحب بعيدا ممتطية مركب الجزر في وسط تلك الأعماق. تاركة رمال ذلك الشاطئ تلملمُ أشلاء حُلمها المكلوم. كنت أنظر إليها من بعيد، أبحث في ثناياها المقفرة. خطوت نحوها رغم حلول الظلام، غير آبهة بذلك السّكون الموحش ولا بذلك البرد الصقيع. أبحث فيها عن روح تشدّ لي أزري، عن أذن تسمع بوح أصداء كلماتي. عن بعض الطريق التي عشتها في رحلة من حزن. أبحث فيها عن أهلي وعشيرتي.
صوت واحد ـ نص : عمر قرطاح
أنظر ، لست مستعجلا ، لدي الوقت الكافي لمعالجة سوء التفاهم الذي طرأ بيننا في الآونة الأخيرة..هل تظن حقا أنني أخونك ! ؟ لا يا صديقي هذه مجرد وساوس تجتاحك بين الفينة والأخرى وتصور لك الأمور على غير حقيقتها.. تظن ، بدون أدنى دليل أو حتى تفكير ، أنني معجب بصديقتك تلك الشقراء المتعجرفة ، بل تظنني على علاقة سرية بها.. و العجيب في الأمر أنني لطالما أخبرتك أنني لا أحب هذا النوع من النساء.. متكبرة و..و تظن نفسها الأجمل بين كل النساء، و لا تكاد تستقر على رأي.. عنيدة و .. و تعشق المبالغة .. تبالغ في كل شيء.. في الحديث في الصمت في أحمر الشفاه.. تبالغ حتى في الابتسام.. وكأن الدنيا من حولها تستحق الابتسام ، جد جد مضطربة هي.. أتعرف ، هذا النوع من النساء يخنقني و يجعلني أتقيأ.. هي حقا مضطربة ومقززة، و تدخلك بمجرد رؤيتها في حالة من الاستفزاز لا نهاية لها.. أنا متأكد مما أقول.. متأكد ومصر على أحكامي..