dddd2-610x225لماذا يكتب الإنسان ؟ أتراها الرغبة في الكتابة والفعل ؟أم تمزيق الجسد بالقوة وتحويله إلى صور تعلق على الذاكرة ؟
سألته مرة ’كيف تكتب؟ إبتسم  ثم قال:بالكلمات وبقليل من الحبر.قلت :أعني اللحظة التي تصبح فيها مبدعا حقيقيا؟ فرك رأسه بكلتي يديه ثم قال:حينما أفقد الشعور بالزمن،وتنفذ من جيبي الدريهمات ويطاردني الدائنون في كل مكان.حينما يتحول ماسح الأحذية وبائع السجائر ومغنية الحي إلى جواسيس’يسلمك الواحد منهم للآخر في زوايا الأزقة والدروب.أتدري،لولا الحلم لاشتعل العالم مثل هذه اللفافة من السجائر.وسحب نفسا عميقا من الدخان قبل أن يتم كلامه،وقال:الحلم يا صديقي ،منطقة لا حدود لها،لا يستطيع مراقبتها لا ماسح الأحذية ولا بائع السجائر ولا مغنية الحي،بل لا تقدر على مراقبتها حتى الرادارات او أحدث أجهزة التنصت التي اخترعها الانسان.هي منطقة منفلتة بعيدة قريبة من جغرافية فيودالية العالم الحديثة.هي حقل ألغام وبئر من البترول القابل للإشتعال في أية لحظة.قد ينفق الإنسان حياته على حلم واحد.فكيف لا نحلم كثيرا...
صادفني مرة أن قبض عليّ بتهمة الهذيان العلني في مقهى الحي،كان الرجلان اللذان اعتقلاني يتظاهران طيلة أيام بقراءة الجرائد....

1358415035أراك كما لا تراني، تفيض بما يحتفي بالغيوم الشفيفة كلَّ احتمال قمرْ..تؤوِّلُ ما يستريح على حانة الوقت منك ومني بظلين لم يعرفا بعدُ كُنْهَ التباس البياض بهذا الفراغ المليء بكِبْرِ الخطايا..ألسنا وحيدين منذ مواويل أمي وأمك قبل البكاء على الأوفياء بحبرِ المؤرخ، عشب قبورٍ سعت كل شيء عدا الشهداء، وإيقاع ناي السفر؟..
أراك على بُعْدِ هذا الزمان زمانا يؤرق صوت المغني، كأن الكلام ذبول الشفاه المباغِتِ بالصبر كل الحدود التي أتقنتك تراثا عصيا على الإحتفال أو الإنتقال بدون انكسارٍ يريدون منه التئام الهزيمة حتى تُعَلَّق في غور عيدِ شهيٍ لمن حرَّفوكَ ومن صيَّروك إله المكيدةِ..إيهٍ سليل الشقاء البعيدِ..وما زلتَ تبتدع الحلْم مثل النوافذ، بادلتَ -كم أنت بادلتَ- أسرابَ حمَّى تعض الشرود إلى من أقاموا بيوت الغياب على هاجسٍ من حنينٍ وطينٍ ببوحٍ عن القمح والقبرات بما قد تيسر مما يَرُدُّ السؤال إلى الطيبينْ..على عجَلٍ طال هذا الخلاف عليك من الساهرات يُعَدِّدْنَ ما قد تساقط منك بآناء همس الظلال وأطراف رعش النخيل وأنت المعافى كخيط مطرْ..

femme-passماذا تنتظر ؟
هكذا قالت حين مرت به ، سمع صوتها و لم ير سوى طيفها يمر.
كان ساهيا يقتعد حجرة مرمية جنب الطريق المغبر الطويل ، ويحني رأسه بين كتفيه و يخطط بعود في التربة خطوطا تتشابك بلا هدف،كتلك الأفكار التي تتشابك في رأسه.
عندما ابتعدت هي في الطريق ،و أفاق هو من دوامته، و تذكر أنها مرت عليه و قالت ما قالت ، و رفع بصره في أثرها سيطرت على عقله فكرة أنها ربما تدعوه للمرافقة ،وترمي من كلامها أن تقول له: هيّا ماذا تنتظر؟

d5077107rهو الآن قريب من ثلاثينيات العمر، نضج إلى مستوى يستطيع به أن يعي كيف يتحرك العالم، و كيف هو واقع مجتمعه و كل الحروب الصغيرة والكبير التي تطحنه، لكنه لازال عاطفيا إلى درجة التطرف كما كان في طفولته، هي من أعادته إلى ذلك العمر، إلى تلك الابتسامة التي قتلته في المرة الأولى، و هاهي تصر على قتله مرة أخرى بعد كل هذه السنين، الآن لم يعد كما كان، ولن يستطيع أن يفعل ما كان يفعله حينها و أن ينتظرها بنفس الطريقة، لقد تغيرت أشياء كثيرة في حياته، أصبحت الأمور أكثر تعقيدا بالنسبة له، الآن حبيبته لم تكن تربطه بها فقط خمسة دقائق و ابتسامة، بل كانت أحلاما كبيرة خططا لها معا، وتفاصيل دقيقة عاشاها كل يوم، كانت بالنسبة له هي محور حياته، هي أيضا كانت تحبه إلى درجة أنها كانت تسميه حلما جميلا و مختلفا قد تحقق..

INCROYاليوم كان غريبا...يحمل في ساعاته المتتالية احلاما حقيقية، ويرسم في الذاكرة قلبا نابضا يسمو بالروح الى عالم "افلاطون" حيث الاشياء المثالية. لم يعد هناك "ديكارت" ياعزيزي احمد!! ولى فولت معه كل تلك الشكوك الفانية، التي لا تسمن ولا تغني من جوع... التي لا تسمن ولا تغني من جوع!!
اليوم وانت تطير في سماء قلبها ودفء فؤادك يداعب جفنيها...تكتشف حقا انك موجود!! انك حي ترزق!! انك عائد لتوك من مدينة الاشباح بعد معركة دموية دارت بينك وبين العدم!! فكنت انت البطل فيها!! وها انت اليوم تصنع نصرك وتعانق وجودك!! ها انت الآن تحس بالحياة لأول مرة مع "وردة"، هذه الفتاة الفاسية التي طالما بحثت عنها فوجدتها...
احمد، هذا الشاب اليافع، الصادق الأمين، صاحب قلب عظيم ولكنه فقير!! يعود لتوه من كوكب الزمان بعد بحث طويل عن "الطفولة"
- "لم تعد هذه الطفولة تعني لي شيئا، سأطلقها فورا!! لأنه في احشائها عشت آلاما وجروحا لا تضمد". هكذا قال عندما ارتطمت عيناه بعيون وردة، هذه الفتاة التي طالما ذرف الدموع من اجلها.

le-signe-du-destin انها المرة الأولى التي يلازمه الأرق فيها فلا يهدأ ، وتنصب الهواجس في خياله فتذرع بتبديد النوم من عينيه الغائرتين، كمن يحرث أرضا يابسة. وبوجوم حاد تفرس وجه زوجته وصغاره، تكسوه الخيبة، ثم انغرس في الغرفة التي أكلها السواد والعفن, وأخذ يقلب نظراته بقلق وحيرة، وفي منتصف الغرفة طاولة خشبية ثبت فوقها قدميه الهزيلتين كراقصٍ صوفي وأخذ يدور ويدور كالمجذوب، والمسافة بينه وبين السماء تتضاءل أو هكذا شعر، أحس بالتلاشي عن هذا الكون السحيق، وكأنما ألقى بنفسه في فلك سماوات سبع، يفتش عن الراحة ،أو عله يلقى الله فيخبره بتلك الآهات المدفونة في صدره من شدة الحزن الرابض فيه .

tablea183333-1-
أَجْلِسُ بَيْنَ يَدَيْهِ كُلَّ صَبَاحٍ، عَلَى الحَصِيرِ الخَشِنِ المَصْنُوعِ مِنَ "الحَلْفَةْ"، وَتَحْتَ ضَوْءِ مِصْبَاحٍ خَافِتٍ، لَا يَكَادُ يُنِيرُ حَتَى وَ إِنْ مَسَتْهُ نَارُ جَهَنَّمَ " الحَمْرَاء"، أَقُولُهَا وَ أَنَا غَيْرُ مقتنع بها فما أدراني أن السعير حمراء ، أما كان لها أن تكون بيضاء مثلا أو قزحية كعين "الباتول" الجالسة هنا وراء حجاب، إزار أسود ما كان ليحجب عطرها البلدي الذي اشتهرت به بين بنات الحي، كانت هي أيضا تجلس بين يديه، و تقاسمني نفس الخوف من تلك العصا الطويلة التي لا تفارق يده، طويلة حد الوصول إلى "عبد القادر" الذي عُلِمَ مكانه هنالك خلف الجميع، يحضر دائما متأخرا يستند إلى السارية ذاتها، بجلبابه الصوفي المرقع ذاته، يدخل رأسه في " القب" ، مهتزا يمنة و يسرة  ، يستجدي إغماضة عين، قبل أن تباغته العصا مخلفة أزيرا يقذف الرعب في قلوبنا الصغيرة، كنا نهابه وكان أهل القرية يحترمونه
- " نْخَافْ نَكْذَبْ تْقُولْ عْلِيهْ نَصْرَانِي وَاسْلَمْ" بهذه الكلمات كان الكثير يتحدث عنه، إلا والدي فكان كلما التقاه أفصحت عيناه عن كره شديد يحمله بين جوانحه له، لكن خلقه فرض على الكل احترامه، هو نقيض تلكم الصورة التي التقطتها أذهاننا عن إخوانه في "الحرفة".

temps moderneلأنّ عدَدَنا كَانَ كَبيراً جدا فلم يكن "الأب" يهتم بتذكُّر وجوهنا في المناسبات التي نراه فيها على عربته المذهبة. في الواقع لم يكن ينظر إلى أيٍّ منا إلا نادرا، وإذا حدث فسوف يتخذه الابن المحظوظ عيدا وذكرى يفخر بها بيننا، وحين يقرّب إليه منا فردا لا نراه مرة أخرى أبدا. في سريرتنا نعلم انه يبادلنا نفس النفور، لعله أيضا شعور ممزوج بغيرة حاقدة: ففي الوقت الذي كنا نهرَم سريعا منتقلين إلى قوافل المنسيّين، لم نكن نعرف سر احتفاظه بفتوته حتى لَيراه الناظر شابا في مثل سنّي. ولكن أصحابه ـ الذين يبدون أكثر منه حيوية بالطبع ـ يتمادون في مدح قوته وقدرته وشبابه الممتد عبر الأجيال، خصوصا على مسامعنا. محض نفاق طبعا، ولكن فيه جانبا كبيرا من الصحة. فهذا الأب العجيب الذي يتفرد بين أصحابه بلباس متناقض تعلو فيه ربطة العنق على السروال التقليدي الفضفاض، هذا الأب الذي لم يكن يتورع عن وضع السبحة جانبا ليمسك سيجارة الحشيش من صديقة المقرب "فابيو" السمين، كان صلدا كالحجر ذا قوة سحرية تكمن في أساور يديه الذهبية التي ترتبط بجني غير مرئي كما كنا نعتقد!
وأهم ما كنا نعـرف انه يعرفه عنا هو شـدة كراهيتنا له وخوفنا القديـم منه.
عدا كل هذا يظل الله بعيدا، بعيدا جدا لدرجة أننا لم نكن نعرف هل يدري في عليائه ما يجري في بيتنا الجبلي الكبير ام لا.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة