abstait-livreاشعل سيجارته، نظر الى الساعة المثبتة على الجدار أمامه، تحسس ردفيه المتيبسين من طول الجلوس، جال بعينه متفحصا كل تلك الفوضى التي احتلت غرفته.
حاول عبثا ان يقنع نفسه بوضع نظام لحياته فيوزع وقته بين كتاباته و الاهتمام بنفسه و بغرفته، لكنه تذكرها من جديد ؟ و تذكر الوقت الذي اهدره امام المرآة، او على الرصيف ينتظر خروجها من العمل... شعر بتوتر شديد، اخد قلمه و بدأ يكتب بسرعة : ( لما تناول من الخمر ما يكفي للذهاب بصوابه، اخدته اقدامه الى الشارع العام، يعلن مشروعه في الناس، يعظ  النساء، يعانق الملتحين، يشحذ همة الشباب و يحرض الباعة المتجولين على التظاهر. يردد شعارات طلابية، يكبر، يغني مقاطع من اغنيات ثورية و اخرى عاطفية، يجري، يصيح، يضحك، يبكي ...تم  حاول التقدم نحو الشرطي المنهمك في تدبير فوضى المرور، لتباغته سيارة مجنونة حولت جسمه الى كتلة لحم مفروم، انتهى ! )
لكنه ما كاد يضع قلمه جانبا ، حتى فاجأه شبح رجل ينهره :

fred clementتثاءب فاتحاً فمه محركاً لسانه بطريقة بهلوانية جعلتني أستجمع بصري كله لأرميه بعيداً عن لوحة ذكّرتني بتلك النبتة التي تلتهم كل شيء، وضع رجله اليمنى فوق شقيقتها وشدّ على فخذيه حتى ظننت أنه يكبت شيئاً ثائراً يخاف ان يسلبه أحد منه، وفي نفسي أخفي ذهولاً من أحمق يلوح بأجفانه كأنه يلوح بمنديل صبية تقف على قارعة طريق صحراوي.
لماذا الهروب؟..
أخاف تواجدي معك؟..
أشعل ضحكة رأيت منها أسنانه الصفراء مرة أخرى لكن نظرت اليه هذه المرة نظرة جعلته يتباهى، وكأنه يظن نفسه أوغلو او أمين معلوف او جورج دولاتور. انتعش بعدها واضعاً يده فوق إحدى ركبتيه واليد الأخرى على خده، وكأنه ينتظر رساماً ليرسمه كما رسم الموناليزا.. سألته:
هل تعشق نفسك؟..

voyage-irak-3كنت أوشك أن أصرخ طالبا ً من السائق ذي العنق الغليظة أن يرحمني من مجموعة من الأغاني الهابطة حول البرتقالة و المشمشة التي كان يبثها من مسجلة السيارة بصوت عال يكاد يصم آذان الركاب المحشورين في هذا الصندوق الضيق ذي العشر مقاعد. قلت بعصبية:
- نازل عند رأس الشارع.
اقتربت السيارة من الرصيف، فتحت الباب، فتدفق صوت المغني ليصدم بصوت قارئ الأدعية الذي كان يبث من أحد محلات التسجيلات على ناصية الشارع فاختلط صوت الغناء بصوت الدعاء. كان الجو البارد لأواخر الشتاء، و الشبابيك المغلقة للسيارة قد جعلا من تحمل الصوت و أنفاس الراكبين و ثرثرتهم و دخان اثنين منهم أمرا ً يشبه التعذيب، بل هو تعذيب حقيقي دون أن أملك أنا أو أحد الركاب شجاعة الاحتجاج عليه. لذلك فقد استقبلت الهواء البارد لصباح العشرين من شهر آذار بشهية إنسان جائع خاوي البطن و رغبة رجل أمضه العطش لكأس مترعة بالماء رغم الشتاء و البرد.

abstraction n 6لا زالت أفكاري شاردة، تشتهي مطارحة البياض،رَتْق جيوب السكون..إنها لا زالت قيد الاعتقال ..لا تُبارح مقبرة النسيان،والاغتيال.
عندما تكون قيد الاعتقال،تحتاج ،أو بالأحرى تتمنى لو أنك تُمْنَحُ سراحا ولو مؤقتا..لأنك تحس بظمأ وبذبول أفكارك وحاجتها للشمس.
إذن اِمتطي ولو لهنيهة عندما تمنح لحظة سراح مؤقت البياض السديمي،عانِقْهُ وارْتَمي بين أغواره،ناجيه..ولا تترك الفرصة تُقْبر..تفلت منك .
قال لي: في نبرة تنم عن السخرية،أنت الآن تركت الميدان،وخلدت للراحة البيولوجية..صرت عقيمة،طالك غبار النسيان والصدأ..وزعت نظري بين الحاضرين، قلة هم الأسوياء،وكثيرون هم الأشقياء..وأصحاب النفاق..وحسرتي على زمن لم يعدْ فيه مكان للنقاء والصفاء،أسماء مستعارة ،وجوه وأقلام مبتذلة، تلوك بضع كلمات وتتشدق بها،تتسول بالكلمات، فبئْسَ التجارة. تجارة الأديب المتملق المُبتذل،الذي يشتهي التفاحة حتى وإن كانت مشوهة،مصطنعة،متملقة،لعوب.

white-1954كان فنجان القهوة الصغير يتأرجح بين أصابعها الدقيقة، ذات الأظافر الطويلة المصبوغة بطلاء أحمر بهت لونه،و صوت خافت ينبعث من المذياع يردد تقاطيع أغنية انجليزية مبهمة، كانت عيناها المتلألئتان تحدقان في أقصى الركن الأيمن للغرفة، و الذكريات الحالمة تموج في خيالها و تحجب عن عينيها الرؤية.
هبت نسمة ريح قوية فجأة، فانفتحت النافذة قليلا،استيقظت من غفوتها الجميلة و أرسلت تنهيدة حارقة،حطّت على إثرها الفنجان، و همت بسرعة لإغلاق النافذة،كان الجو باردا و سحب الخريف تعكر صفاء السماء و تنتشر كفسيفساء مبعثرة، بقي وجهها ملتصقا بالزجاج لبعض الوقت، و قد تسللت من عينيها دمعة حارة متمردة حاولت إجهاضها لكن سرعان ما تلاحقت الدموع متتابعة كأنها ينبوع ماء حار تفجر للحظة،أحست بالرهبة و الخوف،فاسترخت على الكنبة الجلدية الباردة،ثم استلقت على السرير و قد غرقت في دموعها الفياضة، تخيلت وجه أمها المورد الجميل و السموح في لحظات الغضب و الانفعال،ثم زحفت صورة مشوهة أخرى لذات الوجه،فتأوهت و احتبست أنفاسها في جوفها..كيف تراه هذا الوجه الآن؟ما الصورة التي وصل إليها بعد شهرين تحت التراب؟ شعرت برغبة أكبر في البكاء، و بحاجة قصوى لضمة حنونة من صدر أمها..لم تستوعب هول الحادث الفجيع الذي التهم فيه الحريق روح و جسد أمها و أحرق سماحة وجهها و وضاءته، لقد رفضت الإيمان بأبدية الموت و حتمية الفراق...

Acrylique-abstractionأجملُ المعارف هي التي نسرقها في غفوة القدرْ !!
ما جسدُ الإنسان سوى فمْ ، لسانه حفيف أوراقٍ و قدمْ!
كيف توصلتُ إلى هذه الحقيقة العجيبة ...؟؟!
غارقًا في وهج الأفكار، تُطبق عليّ شرفة شقتي كمساءات تونس الطويلة   ، تنهشني سيجارتي رمادا  ، مُشتَّت الذهن و الدخان ...  أترشف قهوة بمذاق السأم وسكّر القلق ، أجلس إلى طاولتي الجرداء إلا من بضعة أوراق يتيمة .... لديّ ثلاثة أيام فقط لأعدّ مداخلة لا تتجاوز نصف ساعة فقط سأقدّم فيها تصوّري لمسألة تتمثل في قدرة الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة على تعلم العربية بالاعتماد على الحركة  ، سيكون الحضور متكوّنا من عشرين خبيرا عربيا في التربية الخاصة و ستكون مداخلتي منطلَقا للمناقشة والحوار ...

abstract-art-17500سابرٌ في غور الوحل، متلفعٌ برداء حمل، يرتجفُ في ليلةٍ تتجلى بقذاراتِ الأشباه، والرعدُ ينذر بتشريفات الوصول.
في جوفِ المعنى لمحةٌ منطلقةٌ من رذاذِ ماءٍ آسنٍ كيومٍ نحس ...... عانى من خضم الأهوال المتلاحقة عليه، شاهدَ بعينيهِ ما لم تره الخلائق، استرسل بخياله باحثا عن صورة مشابهة، دون القتل، والاغتصاب .. تحامل على نفسه يحاول أن يحلل شيئا من مظهر الأشياء المتقاذفة عليه، يقنع نفسه بأنه في حلم ٍعابر، شاهد جماداتٍ تشبه البشر، حاول أن يحادثها ولكنها كانت تبتسم له.. لم يفهم في الوهلة الأولى سرها ... سينتظر للوهلة الأخيرة ...

Abstrait1 45لما رأيت المسابقة على شاشة الكمبيوتر لم أتحمس إطلاقا لها، ذلك أنني عهدت الفشل فيها و صارت المشاركة فيها نظير عدم المشاركة. لكن مثل هذه المسابقة لا يجب أن تضيع مني لأنها تتعلق باختيار محرر شاب لجريدة محلية جديدة. كان الأمر أشبه بروتين مألوف لدي، لذلك عندما أخذت نسخة من إحدى المقالات القليلة التي كتبتها واتجهت إلى العنوان تخيلت بضعة أشخاص يعدون على رؤوس الأصابع و خصوصا أن الأمر لا يعدو أن يكون شكليا، لأن جل المسابقات يكون الفائز فيها معروفا قبل موعدها. كانت دهشتي عارمة عندما وجدت أكثر من خمسة وعشرين شخصا ينتظرون أدوارهم، بعضهم جالس و البعض الآخر واقف لعدم كفاية المقاعد.
كدت أعود أدراجي لولا أن ريح المسابقة شدتني إلى الجو. في أحد الكراسي جلست فتاة نصف متحجبة ، تضع على ركبتيها حقيبتها الخاصة و ملفا خمنت أنه يضم المقالات التي كتبتها. بجوارها وقفت شامخا أنصت لأفكار غبية تضيق أفقي.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة