6ba97c2dفي الرثاء
في ارتباطنا وهوسنا بمدننا ما يفسر لعنة الجينات التي نحملها وتحملنا...., جينات الاننتماء لمدن مسكونة بالف مرض و وباء... وعلى الهامش لعبة بلاستيكية لطفلة مشردة تبيع زمانها وووجهها الضبابي ... وكومة اوراق....وضجيج سيارات متطايرة.... وعند الصحو تقدم لك المدينة داتها مشهد الطفلة عينها تسافر عبر االعويل مرافقة ثلة دئاب وحلم.... حلم بحجم درة لاغير’’’’’

Fenetre-pluieواقف على قدمي المتعبتين، أنظر في هدوء أبله عبر زجاج نافذة تشبه البلاستيك المبلل إلى الأرض، والأعشاب البرية تمر تحت قدمي بسرعة خاطفة، كلما ركزت النظر قريبا تزيد السرعة، وكلما نظرت إلى الأفق البعيد تصبح الصور أكثر ثباتا وأكثر إمساكا بنتوءات الذاكرة. ما هذا الوهم الجميل الذي أعيشه؟

anqqareكان رأسي يؤلمني من فرط المشي والصراخ في الشمس. قلت لعبد العزيز:
أخاف أن أصاب بضربة شمس.
ابتسم المناضل الشاب في شماتة بريئة:
بل قل إنك أصبحت ثورياً عجوزاً.
وبعد فترة صمت قصير أردفت:
من الأفضل أن نقصد مباشرة محطة القمرة لنستقل حافلة العودة.
لكن عبد العزيز انتفض:

Hartung-1964-R8حين جلس في المقعد المقابل لي في الحافلة أحسست أن وجهه مألوف لدي بشكل كبير، وأن علاقة حميمية كانت تجمع بيننا ذات يوم... ولكن أين ومتى؟... أدركت أنني لن أهتدي إلى ذلك بسهولة... وبدأت أتأكد أن ما تعيِّرني به زوجتي لم يكن مجرد دعابة، بل له نصيب من الصحة... فقبل أيام اختلطت عليّ أرقام خطوط الحافلات، فوجدت نفسي في حي لا صلة لي به ولم تطأه قدماي من قبل... واضطررت إلى الاستنجاد بالقابض ليدلني على الرقم الذي يتوجه إلى حينا... كانت زوجتي تقول لي في خضم مشاحناتنا المتنامية:"لقد خرّفت يا رجل... وبعد مدة قصيرة ستنسى حتى اسمي واسمك..." وكنت أكتفي بالابتسام دون الرد عليها...

ciel-reveكالبيت الخرب ينفر الساكنون منه تحس، كانت إلى الأمس زمردة تشع جمالا أخاذا لا تقاومه عين، إلى الأمس القريب كانت ريحانة تشم و عندما تمر يبقى العبق الفواح بمنطقة مرورها أياما عديدة. لا تدري ما كان السبب في هذا البلاء الذي دق بابها بإلحاح، و عندما رفضت لج في الدق و لج و ألح. و عندما أبت أن تفتح أطاح بالباب وولج.

حياتها كانت جميلة تملاها السعادة، في بيت أبيها كانت أميرة لها خادمة لا تلبي إلا حاجاتها، تمشط شعرها و تغسل رجليها و تدهن بشرتها بشتى أصناف المراهم حتى أمست كالحليب بياضا، لا تدعها تنام إلا بعد أن تقوم بدعك لطيف لكتفيها و عضديها يشعرها بالنوم.


 بين الأمس و اليوم صارت تلك الذكرى مجرد جسر واه نصف مهدم لا يصل الواقعين إلا نلك الصلة الطفيفة التي تنقطع بيسر. يبدو لها الآن أن الحياة تأخذ من المستحقين للأشياء الجميلة و تهب لمن ليس جديرا بشيء. تنظر إلى جارتها الشابة الفتية ذات البشرة الغضة الطرية نظرة ملؤها الحسد و الغيرة، أبوها مجرد بائع متجول يميل إلى السمرة تزوج تلك الأجنبية الشقراء التي لا تعرف لحد الآن ما الذي جذبها إلى البائع المتجول؟ ألانها أشفقت عليه أم حبا في سمرته و جلبابه القذرة؟

صفقت بكفيها عندما شعرت بالغرابة لمجرد التفكير في حب الشقراء الأجنبية المتعلمة لجلف جاهل أسمر يحفل شاربه الكث بالقمل الأبيض. ماذا جرى للناس حتى تتغير طبائعهم إلى هذا الحد؟
رجوعا إلى البلاء الذي أصابها، تذكرت كلمات الرجل الوسيم الذي قضت معه فترة ما بعد الظهر في بار فندق بوردو، ذلك أنها ما إن تحاول الابتعاد عن تذكر ما يشير إلى البلاء حتى تهجم عليها أصناف من الذكريات كلها متعلقة به. كلمات ذلك الرجل رغم أنها ألفت أمثالها هذه الأيام نالت منها فعلا، أفهمتها أن القرود تبقى في الأقفاص و يعجب بها الناس من الخارج بعيدا دون الحاجة إلى تقبيلها أو عناقها.
قاسية خرجت من فمه كمشط من حديد مرره على قلبها مرارا حتى تقاطر دمه. تألمت لأنه كان يثني على جمالها و على نضارة بشرتها و يصف شعرها بالذهب، لكن عندما حانت لحظة الاختبار صب عليها وابلا من كلمات لها وقع الرصاص على قلبها. لحظة اختبار أم لحظة احتضار؟ صفها كما شئت فهي مستوعبة للوصفين و بدقة.
عندما لمح أولى تلك التجاعيد أرجع الأمر إلى فرط الشراب أو إلى توهم فأخبرها أنه تخيل للحظة أن وجهها تغضن، فأحست أن الساعة قد أوشكت و أن الرجل لابد يحب التجاعيد و إلا لم التوهم بأشياء نكرهها؟
كانا يتهامسان و يطلقان الضحكات بين الفينة و الأخرى، يتكلمان في أي شيء و في كل شيء. بلمس رقيق أحدثته سبابته على خدها استفاقت، عرفت أنها ما تزال تأسر قلوب الرجال. لكن الوقت اللعين تآمر ضدها حين أسرع و كأن شياطين الجحيم تطارده، أسرع ليحل المساء و تحل معه لعنة التجاعيد.
بتدرج بطيء عادة و سريع أحيانا تحل، يبدأ الوجه المتورد الغض بالانكماش و يتجعد الجبين و كأنه قطعة بلاستيك تعرضت لبعض الحرارة.
أصاب لسانها شلل عجزت معه عن تفسير موقفها عندما بدأ يسألها. سألها كيف يتم لها أن تكون جميلة غضة بعد الظهر و تصبح متغضنة شمطاء في المساء؟ كان ذلك استهزاء أغضبها و سبب الشلل في لسانها. أبى إلا أن يكون كجميع الرجال الذين قابلتهم منذ أن أصابها البلاء. قال و رموش عينيه الطويلة تتراقص:
- أنت ذات وجهين و لك استعداد منافقة صميمة.
- تبا لك و لأمثالك.
- أجل، تبا لي و تبا للحظ الذي جمعني بك أيتها الشمطاء.
أحست حينها أن الحياة لا معنى لها بعد كل هذا الهوان، فكرت أن تنتحر و تفدي روحها من عذاب الذل الذي يصيبها في كل مرة تنشد رجلا يقبل التجاعيد.
الآن و قد انجلى عنها الغضب بدأت تفكر بعقلانية أكبر و تتذكر ماضيها الذي اكتنفته السعادة، تتذكر أيامها الجميلة التي قضتها مع زوجها يوسف ذلك الرجل الذي وجدت فيه امتدادا لأبيها، ملأ أيامها مرحا. كانت حينذاك سيدة حقيقية تنظر إليها النساء و كأنها الشمس تلوح من بعيد يستحيل الإمساك بها. كانت في جنة أيام يوسف، لكن الموت خطفه على حين غرة فساءت ظروفها بعده، لا تتحسن إلا لتسوء من جديد. أيها الزمان هل قتلت أحدا من أقربائك لتقسو علي و تلون حياتي بألوان الدجى؟
تجملت ولبست أحلى ما لديها، حملت حقيبتها البنية و خرجت تحث الخطى نحو فندق جديد لتبحث عن الرجل الذي يقبلها متجعدة في المساء. تأخرت هذه المرة كثيرا حتى لقد بقي ساعة و بضع ساعة على حلول وقت اللعنة.
أوقفت سيارة أجرة، صعدت. أحست أن الدنيا بضيق هذه السيارة و أن السعادة وهم من أوهام الناس المتخيلة أو أنها إشاعة متعارف عليها بين الناس. سألها السائق بفم يلوك اللبان:
- إلى أين إن شاء الله؟
صمتت بضع ثوان و كأنها لا تعلم إلى أين تريد الذهاب، حثها السائق عل الإجابة بطلقة من فمه الذي يمضغ دون توقف: - طلقينا آ للا..
أخبرته بعد تردد أن يقلها إلى فندق من اختياره، فهم قصدها فانطلق تتبعه سحابة السخام. فندق شيراتون، من ألمع الفنادق بالمدينة، هتف السائق بعدما نفحته الأجرة و انطلق بسيارته مبتعدا تاركا إياها في فوضى ذهنية لا تضاهى.
بدا رجلا الأمن ببزتيهما الأنيقتين أمام الفندق و كأنهما في فيلم من أفلام المافيا الإيطالية حيث العضلات و التكشيرات إذا استثنينا المسدسات طبعا. أوقفها أحدهما عند الباب ليستوثق منها. ورقة من فئة مائة درهم أنقذتها.
سألت رجلا كان خارجا من الفندق أين يوجد البار، في أي طابق؟ أجابها بكونه في الطابق الرابع.
همسات، ضحكات، قرصات، استجابات. كم تحلو الحياة بجوار رجل يقدرها؟ كان ذلك أيام يوسف، أما الآن فهي مجرد مسمار آخر دق في الجدار، لا محيد له عنه و لا مناص، أكله الصدأ حتى اهترأ و لم يعد الذباب يتساقط عليه. بخيلاء اتجهت نحو كونطوار البار المزين بشتى أصناف القوارير و الزجاجات و الكؤوس. جلست بقرب رجل أنيق يشرب باستمتاع مثير، بين الفينة و الأخرى ينظر إلى ساعته و كأنه ليتأكد من الوقت أو لأنه في انتظار أحد تأخر عليه. قالت للجارسون:
- صب لي كأسا من النبيذ الأبيض.
نظر إليها و كأنه تفاجأ من الطلب، حدق في وجهها لحظات حتى زجرته بعينيها فارتد بصره بعيدا و انحنى ليجلب الزجاجة. صب لها الكأس و نفس النظرة في عينيه لا تفارقهما.
أرادت أن ترى مدى وسامة الرجل الذي لا ينفك ينظر في الساعة و لا يتوقف عن الشرب باستمتاع و كأن الخمر شيء صلب يمضغه. قسماته تنبئها أنه رجل حاد المزاج و قاس، يحب تعذيب النساء ليشفي ساديته. طرف أنفه مدبب و في عينيه مسحة من الكآبة لا تدري مصدرها. إنه ضالتها الليلة، و لنر إن كانت التجاعيد ستنفره. هاهو ينظر إليها و في عينيه نظرة لم تحدد معناها إلا فيما بعد.
تألقت ابتسامة على وجهه الشاب، الشيء الذي شجعها لتأخذ المبادرة و تبدأ الكلام:
- مرحبا، كيف حالك؟
و كأنه غير معني بكلامها أشاح بوجهه، استغربت هذا التصرف المشين ثم ما لبثت أن ردته إلى عدم سماعه لها أو أنه ظن أنها لا تحادثه، مثل هذه الأشياء تحصل و خاصة عندما يتناول الإنسان كل هذا القدر من الخمر. مرة أخرى أعادت المحاولة و في هذه المرة أجابها إجابة قاسية لم تكن تتوقعها مطلقا:
- هل تتحدثين إلي؟ تقصدينني. لا، مستحيل. بوجود كل هذا الكعك المتناثر في المكان أنت مجرد فتات.
أخذت الدهشة منها كل مأخذ، كيف يجرؤ أن يعاملها بكل هذه الحقارة. و كرد فعل طبيعي رفعت أصابعها تتحسس وجهها لتتأكد أن اللعنة لم تحل بعد، لكن الواقع الذي أدركته بأناملها هو العكس، لقد حلت اللعنة قبل وقتها لذلك يعاملها الكل باستغراب. فقدت هدوءها عندما أدركت ذلك و صرخت:
- مستحيل، كيف؟ هل حانت الثامنة؟
و باستهزاء أراد له أن يكون حادا كقسماته أجاب:
- هذا صحيح، هل نسيت أنهم زادوا ساعة على التوقيت المحلي.
و قهقه تاركا كرسيه يدور كما دارت عيناها في محجريهما من فرط الألم....

abstrait lavoixأوغل الليل في جوف الظلمة ولّما يأتِ زوجها المفقود في الحرب. اقتربتْ من النافذة، أنصتت.. فتحتْ درفتها الصغيرة، اشرأبّت بعنقها ووجهها المتوثب تنتظر قدومه كل ليلة عادة دأبت عليها .
كان كل شئ يدعو للذهول والخوف. الظلمةُ تلفُّ الكون، والجوُّ داخل البيت الصغير باردٌ قاتم، أحسّت أن قسوة الوحدة تطبقُ عليها بفكيّها، 
المصباح الذابل المتدلّي من السقف، لم يستطيع أن ينير شيء.

abstrait7777و حين هم الشيخ العارف بالله أن يغادر القرية حاملا في طيات قلبه شوقا إلى أرض الحبيب المصطفى كان قد آلف أهل القرية و تعلق قلبه بهم لما فيهم من طيبة و بساطة و تعلقت قلوبهم به لما فيه من حكمة و حب للناس، حين هم إلى ذاك تقدمت إليه فتاة فارعة العود رطبة الوجه كالغدير السلس، و في عينيها دموع الأسى و لوعة الفراق، وقالت:
- أرجو أن تدلنا أيها الشيخ الكريم عما يسكن قرحة الفراق، فإنا معشر الشباب لا نملك على الفراق صبرا و إن قلوبنا تتفتت على صخرة الوداع كما يتراشق الموج على صخور الشاطئ الهائج فتتلاشى مياهه، فهلا حدثنا في أمر المودة و الألفة و طبائعمها، فإن لنا طمعا في حكمتك أن تعلمنا تحمُّل ما لا طاقة لنا بتحمله ..

3d-abstract-L-iCtOrGلحظات و تشرق شمس المغيب ، يرخي الليل أولى ثرياه ، و يعزف القمر لحن الحياة . هلموا يا أهل الصلاة ،'' فالصلاة خير من النوم '' .
عبثا ، وجدتني ساعة الفجر لا أزال مستيقظة ، ألملم شظايا أفكاري . ألف هاجس و هاجس يرقد معي ، ولو نطقت وسادتي يوما لاشتكت همها و ضيقها مني . خيل لي أن النوم خير من الصلاة ، خصوصا إن اجتمعت الأسباب . برد ، عجز ، كسل ،عزا زيل ألقى سهامه ولم يخطئها .
كنت من المبادرين و نحوت نحو الحائط، نمت القرفصاء في جلستها .. عذرا ، عن أي نوم أتحدث أنا ،عدت لأفكاري و توجساتي أسائل : هل أنا بحاجة إلى ارتواء أم بحاجة إلى احتواء ؟ لا اعلم ماذا أريد و لا اعلم لماذا أعيش الفقر في الأمنيات و الحزن في الأحلام .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة