paris-abstrحدث هذا قبل سنة ونيف... كنت أمر من اللحظات الأخيرة في باريس، باريس التي يحلو لي تخيلها كعروس تعيش شيخوختها دون أن تنجب، باريس التي غابت فيها تقاسيم الآلهة، باريس بليلها الذي يأتي باكرا، ونهارها الذي ما إن يبدأ حتى يتبخر مثل شمعة الشعراء، المطار هو الآخر لا يقل أهمية عن هذه المدينة الغريبة، فضاء يتسع للجميع بجنسياتهم المختلفة، وأفكارهم ودياناتهم، الكل يسير وفق نظامها، حتى الأمريكيون الذين يؤمنون بقوتهم وبطولتهم وتفوقهم، يجبرون أنفسهم على احترام خاصياتها، لا يضحكون بصوت مرتفع، وكأنهم يتفادون نظرات الآخرين التي تحولهم إلى أبطال كرنفال في مدينة الأنوار، كنت الوحيد المنكسر هنا، أجلس مناجيا نفسي في إحدى مقاهي المطار، أنظر للساعة بين الفينة والأخرى، أتمنى أن تتوقف عقاربها كي أعيش أكثر مدة في باريس، بقدر ما أسمع نداء الضفة الأخرى، كان كل شيء يبعث على الانكسار بما فيه الانكسار نفسه، فجأة سمعت صوتا عبر مكبر الصوت يقول بلغة رسمية :
    ــ نداء إلى المسافرين المتوجهين للدار البيضاء، ستتأخر الطائرة لمدة نصف ساعة بسبب عطل مفاجئ، نجدد اعتذارنا مرة أخرى... شكرا.

DSC 0063SCC تسلقت جدار قصر (القادر)، ووثبت إلى الحديقة. اختبأت بين سيقان أشجار الليمون وأغصان الزهور الشوكية؛ من أجل أن أشاهد (حواء). كانت الساعة قد تخطت العاشرة ليلاً والظلام قد نشر ذراته السوداء في فضاء بغداد. رغم إنها ليلة اكتمال القمر إلاّ أن سحب الخريف قد دثرته وحجبت ضياءه. من بين كتل الظلام قدحت عيناي تتلصلصان كعيني ذئب متحفز للانقضاض على فريسة. ترقبان نوافذ القصر بحثاً عن نافذة مضاءة. كنت أبذل الجهد من أجل السيطرة على وجيب قلبي وارتجافات تركزت بين ساقيّ وأسناني. بدأت تجتاحني مشاعر بركانية تمتزج فيها حمم رعب من فضيحة ورغبة مستعرة لمشاهدة (حواء).

anfasse55555حين انتهى عبد القادر من التهام البيضة الرابعة شعر بالشك  ، لكنه اكتفى بغسل فمه و دعك أسنانه بالسواك ، ثم ارتدى فوقيته السوداء ، و لم ينس أن يتطيب بالمسك كعادته .  و قبل أن ينتعل الصندل ارتفع صوت فرقعة ممزوجة بأزيز طويل  ، فتملكه شك جارف ، لكن أنفه لم يفلح في رصد أية رائحة مريبة ، و تساءل إن كانت كل الفرقعات لها رائحة ، و حتى يغلق الباب على الشيطان قرر تجديد الوضوء.

    مضى إلى المسجد تحت شمس ظهيرة صيفية ،  و كان عقله محشوا بشكوك تقتحم النوافذ دون استئذان ،  أخذ يداعب لحيته الكثيفة ، و يفكر في هذه المشكلة التي ما فتئت تنغص عليه حياته منذ شهور . لام علماء الأمة  لأنهم لم يهتموا لأمرها بالشكل الذي يليق ، و إن كانوا قد بذلوا جهدا عظيما في تأليف موسوعات فقهية حول الغازات المعوية . خطرت له فكرة مفاجئة : « ماذا لو تم اختراع جهاز علمي للتحقق من صلاحية الوضوء ، و إذا تسرب شيء من الفجوة الخبيثة بدأ الجهاز في الاستغفار ».  راقته الفكرة لكنه أدرك سريعا سخافتها فارتسمت على وجهه ابتسامة بلهاء ، و لم يلحظ تلك النظرات الساخرة في عيون التلاميذ القادمين من الثانوية ، كانوا في مثل سنه تقريبا ، لكن لحيته الكثيفة جعلته يبدو أكبر منهم بأعوام .

ANFASSE3334444وضعوا القيد في يدي وساقوني ،وصفحة بثقل الزمن تَشِم نفسَها على مؤخرة الرأس ،عرّجتُ لحظتَها على سبع معارج طباقا ،وسبع سماوات تُمَفصِلها جثثي، كما تَتَمفصَل هي عن رأسي ،غصْتُ في أمعاء التخوم أتتبع رقصاتِ الكون المبهمةَ ،وَتزَحزُحَ أطيافه ...منذ نشأتي كعنصر من خَلْق الله ،والقيود في كل مرحلة تتناسل ، و تبصق في فمي ،..
ترسم حدودا ،وفواصل لأناي ، هذا المخلوق الشاسع، الذي وُلد ليلحَس التعب ،باحثا بنشأته وإنشاءاته في قمم الأدغال عن مَبعثِ نور ..تتمثل لي صورتي لحظة كنت في الرحم ..أمَهد وقتها لكائن إنساني يجمع جزيئاتِ أطرافِه ،والتهيكل بالتدريج في بقعة لا تتعدّى ملمترات ،عليها حراس وعسس تتشابك ترقباتهم ونظراتهم ، تخلق منها حركات موغلة في الأسرار ،قاتلة للرغبات ..والشطط الغاصب يعلن الحَِجْر ويجهش بتطويق ناطق بجداريات المَنع ....كي لاأتجاوز المحيط المحدود ...

simon-addymanحين لامستُ نصوص المبدع الصحفي عبد الكريم ساورة السردية ، انسخلتْ من ذاكرتي تماما ، سمة ذاك الصحفي الذي كان ينهال على مقاماته  بمهماز لغوي مباشر ، لتتمثل أمامي شخصية أخرى من صنف آخر ، مبدع رشَمَ جنس السرد القصصي ((ق.ق .ج)) باحترافية كبيرة ، تشهد عليها نصوصه  وهي تؤدي اليمين بأمانة : كتجربة كبيرة تقلّدَ مشعلَها المبدع عبد الكريم ساورة   في جانب من الحياة ، والعلاقة بالعالم بكل ماتعنيه المغامرة السردية من كلمة ، وذلك بتحويل كائناته والعلاقات في ما بينها وما تهْدر بها من تنافرات إلى  صور بليغة  في وصف راق ، انطلاقا من سعة الخيا ل والاحترافية في الصياغة والحنكة  والدقة في اختيار التيمات ،  والمراس في انتقاء الألفاظ المناسبة والجميلة ، حيث لملمَ الخلطة بجميع عناصرها و بهاراتها في عجنة فنية واحدة ،  لينصهر بعضها ببعض  وتتدفق شلالا سرديا فاتنا ، يغري بمتعته القارئ من أول لمسة بما يهُبّ عليه من نسائم الخيال الرحب  ، وما يخلخل به مبدعنا من التفاصيل اليومية ، ومايَهَبُه للذات الكاتبة من بعد تصوري ،  وهي تتفرس الأحقاب الزمانية بعلامات الوجود والكائنات  على محك التساؤل والاستفسار ، من أجل الكشف والاستبصار ، وسبْر غور الأشياء ، فتفجرت النصوص محملة بالرمزي والإيحائي آهِليْن بتراسلات وجودية ، يشخص فيها مبدعنا المَراحل  التي تمُر منها وضعية المرأة كإنسان ،وكيف كانت تعيش على تبعيتها للرجل ، كمُعيلها الوحيد رغم ماتسديه إلى جانبه من خدمات شاقة ، وكيف أثبتت وجودها كإنسان تتقاسم معه نفس المشاعر والإحساس ، ولما بيّنت أن لها قدرات وطاقات  يمكن أن تشاركه  بها بنجاح إلى جانبه وفي أغلب الميادين ، سقطت على رأسه الصاعقة ، ولم يتقبل الأمر ، فانتشرت بعض الخرافات التي ترى أن وضعية المرأة هي البيت  ...

 arton653    دلف إلى المحطة تغلفه مسحة من الكآبة، والرأس مثقلة بخواطر وتساؤلات تطيح به في دوامة الحيرة والقلق، وأحس بشعور غريب بدأ يتسلقه من الداخل..هو مزيج من الخوف والضجر، لا يدري على وجه الدقة..الشعور ذاته الذي بات لا يفارقه في هذه الأيام منذ أن عقد العزم على السفر لزيارة الطبيب..
     المحطة تعج بكائنات آدمية تتحرك في كل اتجاه..أصوات القطارات تكسر هدوء المكان..ومحنة الرجل لاتهدأ  على حال، وبدت له الوجوه بلا ملامح كأنها في حالة ترقب أو انتظار، تروح وتجيء ..
     الرجل واقف يتأمل، وقد انبعثت في أعماقه كلمات الطبيب:

fbفي لحظة لا تتكرر إلا إذا بلغت الروح الحلقوم، خرج الشباب من كل فجاج الأرض الموجوعة عبر التاريخ يقلبون أوجاع زمنهم السياسي والاجتماعي باحثين عن أفق جديد في سماء ملبدة بالغيوم . طلع الشباب يصدح بصوته معلنا عن نفس جديد تصدره الأرض الصبورة الطاهرة ،أرض الأولياء والعفاريت، أرض الصلحاء والطغاة .في لحظة الحلم الفبرايري القصير ،فبراير أقصر شهور السنة الكبيسة (28يوما فقط) ،فبراير/ شباط ومعانيه الغابرة .
هل من المصادفة أن تكون دلالته السريالية ،تدل عل الضرب والجلد والسّوط، هل من باب المصادفة أيضا أن يكون شهرا للرياح الشديدة في منطقة شمال إفريقيا ،هل من باب المصادفة أن يرتبط الحلم الفبرايري الجميل والنقي ، بإله النقاء الإغريقي "فيبروس " فبراير يا شهر الشمس  يا شهر اللؤلؤ ،يا من غادرتنا بفعل بطش مارس وبرده القارس  ،فبراير سننتظر عودتك كل عام لتنبعث فينا ،لتمنحنا الشمس والضياء ،سنحلم بالتغيير القادم عبر العواصف والرعود .

Blue Abstractعدت للبيت في وقت متأخر بعض الشيء، وإن لم يكن هذا من عادتي، كنت منهكا بشكل لا يطاق جراء العمل المتواصل والذي يزرع فيّ شهوة النوم بعمق ، خاصة وأنه كان لي استعداد للقيام بذلك بطريقة سهلة وسريعة رغم خصامي والنوم منذ مدة طويلة جدا، لم أكن أريد القيام بأي شيء آخر سوى وضع رأسي على المخدة والغرق في عالم السبات المؤقت، لا اعلم لماذا تذكرت فيلم the machinist ربما كان أول ملاذ لي وأنا في داخل دائرة الحاجة للنوم، المهم وبينما كنت على وشك تحقيق هذه الرغبة التي لا يمكن أن تستوي وشيء آخر إبان هاته اللحظة، التقطت مسامعي أصواتا كنت قد اعتدت عليها كل ليلة، بل وتعايشت معها لدرجة أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتي اليومية في هذه الشقة .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة